الثروة والسلطة والديمقراطية.. او متلازمات الفساد

مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

2024-01-03 06:58

في الكثير من التنظيرات السياسية يحرص أصحاب رأس المال والمؤمنون بالنظام الرأسمالي، من سياسيين وباحثين وأكاديميين، على حصر الديمقراطية بجانب أحادي هو الديمقراطية السياسية، ويختزلونها بصندوق الانتخابات الذي يقصده المواطنون، كل أربع سنوات أو أكثر، للإدلاء بأصواتهم، وهم تحت تأثيرات مختلفة، مصدرها المدرسة والجامعة والإعلام ومكان العمل، وتتضافر تلك المؤسسات لتصنيع مواطن طيّع يقتنع بهذه اللعبة، ويتوهم أنه صاحب القرار، وبعد أن يدلي بصوته يذهب إلى بيته وانشغالات حياته، بينما يبقى الفائزون في الانتخابات يتصارعون على السلطة والمكاسب. والنتيجة أن نجد في كل بلد حزبين، أو أكثر، لا تفترق أهدافهما جوهريًا (مثلًا في أميركا الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) يتصارعان على السلطة والثروة. إنها ديمقراطية اليوم الواحد، كلّ بضع سنوات.

في مجتمعات اليوم، نجد أن الثروات والأموال تتراكم في أيد قليلة، وإن بدرجات متفاوتة، وخاصة منذ ثمانينيات القرن العشرين، بعد تصاعد ملموس لتوزيع الدخل ومستوى العدالة الاجتماعية، بعد الحرب العالمية الثانية حتى سبعينيات القرن العشرين، وقد جاء في تقرير منظمة (أوكسفام) العالمية، في كانون الثاني/ يناير 2020، أن أصحاب المليارات في العالم اليوم يملكون ثروة تفوق ما يملكه 4.6 مليار إنسان. فماذا يقدّم فردٌ واحدٌ كي تكون ثروته ملايين ومليارات الدولارات، بينما قدرات الناس عمومًا تتفاوت بنسبة واحد إلى عشرة، وحتى لو كانت واحد إلى عشرين، فهذا لا يصنع ذلك الفرق. وما يصنع هذا الفرق هو نظام الملكية وتوزيع الدخل في سوق أنظمتها هي نوعٌ من القمار.

ان النظر الى السلطة والثروة باعتبارها مكسباً شخصياً وهدفاً نهائياً، أو لنقل انكاراً للطبيعة العامة للسلطة، وتجاهل كون السلطة الديمقراطية هي وسيلة الاحزاب الى تنفيذ سياساتهم وبرامجهم الى الواقع، هو لب المشكلة في الديمقراطيات المعاصرة او تلك الناشئة..

اما ما يجري في اغلب (ديمقراطيات التخلف) هو ان السلطة العامة والثروة العامة، تتحول الى وسائل اضافيه لتعزيز السلطات القائمة وضمـان الاستمرار بالحكم، وبفضل الديمقراطية الشكلية، التي تستمد قوتها ومؤهلات دوامها بمضامينها الكارثية اقتصادياً واجتماعياً ممثلة بتـبـديـد الثروات الوطنية وتراجع التنمية واتساع رقعـة الفـقـر... ونشـوء طبقة الفساد السياسي والمالي والاداري الى غير ذلك من الامراض السلبية التي هي بمثابة القاسم المشترك بين اغلب (ديمقراطيات التخلف)..

تحالف السلطة والثروة في الجمهوريات العربية، ظاهرة أخذت تزداد انتشارا خلال العقدين الأخيرين، ولا سيما في الدول التي تعتمد نظام الحزب الحاكم، فيما كانت هذه الظاهرة معروفة من قبل في الأنظمة الملكية وشبه الملكية..

في الأنظمة الملكية وشبه الملكية يمكن القول إن الطفرة النفطية قد أسالت لعاب النخب الحاكمة، بحيث استأثرت تلك النخب بحصة معتبرة من الثروة، فيما تسعى إلى زيادتها على نحو مطرد من خلال التجارة أيضا، وبذلك أصبحت شريكة بالكامل في حركة التجارة والمال، واستخدمت نفوذها في زيادة حصتها من الثروة التي تخرجها الأرض، وصرنا نسمع أرقاما رهيبة من الثروات، فيما أدت هذه اللعبة إلى فرض الشراكة على قطاعات من رجال الأعمال بقوة السلطة، كما تكاثر التجار من الأسر الحاكمة وصاروا يقاسمون الناس في أعمالهم وثرواتهم من جهة، كما يعتدون في كثير من الأحيان على المال العام.

في هذا السياق ثمة الكثير مما يمكن الحديث عنه، إذ إن لعبة الديمقراطية المبرمجة التي تأخذ من الديمقراطية شكلها الخارجي من دون مضمونها الحقيقي (الحريات العامة والتداول على السلطة)، هذه اللعبة قد أتاحت أيضا لرجال الأعمال أن يدخلوا بدورهم ميدان السياسة، بخاصة عبر مجالس النواب، وتاليا الوزارات، مما أحال اللعبة الديمقراطية إلى شكل من العبث الذي لا يعود على الناس سوى بالمزيد من الإفقار من جهة (غالبية الناس من الطبقة المتوسطة والفقيرة)، وتراجع منسوب الحريات وزيادة القمع من جهة أخرى.

لأن واقع الحال يقول إنه كلما زادت النخب الحاكمة من تحكمها بالثروة إلى جانب السلطة، صارت أكثر نزقا في التعامل مع الناس وقوى المعارضة، كما صارت أكثر قدرة على استخدام المال في شراء الذمم، وتحويل المعارضين إلى تابعين لها، والخلاصة أننا إزاء نخب تملك السلطة والثروة في ذات الوقت، مع أن أيا منهما منفردة تبدو قادرة على شراء النخب.

من الجوانب التي يمكن الحديث عنها هنا ما يتعلق بتفصيل النظام الاقتصادي نفسه على مقاس لغة (البزنس) الذي يفيد قطاعات معينة من أهل السلطة وممن يتحالفون معهم من رجال الأعمال، إذ أخذت الدولة تنسحب تدريجيا من مهماتها في دعم الفقراء (عبر دعم المواد الأساسية) إلى نظام الخصخصة والعولمة المتوحشة التي تزيد الأغنياء غنىً بينما تزيد الفقراء فقرا.

الأسوأ بالطبع هو قدرة هذه المنظومة التي احتكرت السلطة والثروة على توريط المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في لعبتها، بحيث يغدو الكبار جزءا منها، بينما يتولون حمايتها بكل ما أوتوا من قوة.

ماهي مصادر السلطة؟

الإجابة التقليدية أنها تأتي من أداتين رئيسيتين للإقناع والإكراه تمتلكهما حكومة مُشكّلة بالشكل اللائق لفرض قراراتها. ولكن بعيداً عن ذلك، فقد يزعم المرء أن السلطة تنبع من استمرارية القواعد والأعراف، وتراكم التراث الثقافي.

استشهد الفيلسوف كانط بثلاثة مصادر للسلطة: السلطة والثروة والاحترام. لكنّ ذلك حدث عندما كان لأوروبا نظام سلطوي، كانت فيه الملكية والأرستقراطية الثرية والكنيسة تمثل فيما بينها سلطوية كانط الثلاثية.

كل نظام يفسد حين نبالغ في تضخيم قيمته الأساسية، وهو ما يعني في هذا السياق أن الإفراط في الديمقراطية يؤدي إلى فساد النظام الديمقراطي الذي تتحرك فيه السلطة متأرجحة كالبندول، إما نحو الاستبداد وإما نحو الحكم.

في معظم الديمقراطيات الغربية اليوم، يقترب البندول بشكل خطير من عدم القدرة على الحكم، وغالباً في شكل حكومات تتظاهر بالحكم على أساس يومي.

إذا تحدثت عن السلطة، كما تفعل الحكومات الحالية في المجر وبولندا، فسوف يطلَق عليك وصف (السلطوي) إن لم يكن (الاستبدادي). وكل مَن يدّعي وقوع ضحية، تاريخياً، أو عرقياً، أو دينياً، أو ثقافياً، أو جنسياً، أو طبقياً، يستطيع أن يطالب بإعفائه من احترام أي سلطة خارج دائرته الخاصة.

في المعجم (الصحيح سياسياً) لا يتحدث المرء عن إطاعة القانون بل عن احترامه عندما يرى المرء أن القانون جدير بالاحترام. كما يستخدم ناشرو مبدأ الاستقامة السياسية اصطلاح (الموافقة) بديلاً للطاعة في نظام قائم على القانون. وعليه، فإن الموافقة المصطنعة تتحول مع الوقت إلى مشروع تجاري، وهي في الولايات المتحدة على الأقل، تتطور إلى فن إن لم يكن علماً كاملاً.

لقد أدى عقدان من التحرير في السياسة والأسواق والحركة المتسارعة باطراد للأشخاص ورؤوس الأموال والمعلومات وحول العالم الى إعادة تشكيل المجتمعات في سائر انحاء العالم ونحو الأفضل في العديد من النواحي، غير ان هذه التطورات كانت مصحوبة بمخاوف متجددة فيما يتصل بالفساد.. توافرت فرص جديدة وكبيرة للسعي وراء الثروة والسلطة وكذلك الوسائل الجديدة لاستعمالهما وتبادلهما بطرق غير مشروعة ولنقل عائدات ذلك عبر الحدود وبسرعة كبيرة..

والفساد، بشكل عام، يعني إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية. ويغطي هذا نطاقًا واسعًا من المخالفات التي يرتكبها المكلفون بالسلطة العامة، بدءًا من الرشوة والمحسوبية وحتى الاحتيال والاختلاس والكسب غير المشروع. ويتراوح الفساد من الفساد الإداري أو البسيط، الذي ينطوي على سوء سلوك منخفض المستوى يشكل الحياة اليومية، إلى الفساد الكبير، الذي ينطوي على انتهاكات عالية المستوى للسلطة يرتكبها الحكام والنخب القوية المرتبطة بالنظام.

على المستوى اليومي، استخدام الاتصالات الشخصية (واسطة) حيث تشحيم عجلات المعاملات العامة، مثل الحصول على الرعاية الصحية أو القبول الجامعي، غالبا ما يكون شرطا لا مفر منه ليس فقط للحراك التصاعدي ولكن للبقاء اليومي. ومما يزيد من تعقيد هذا الفساد البسيط الانقسامات الاجتماعية -مثل القبلية والطائفية والدين- التي غالبا ما تملي كيفية منح الخدمات أو تقديم المطالب.

الفساد يعود بالفائدة على قلة من الناس على حساب الأغلبية حيث انه يؤخر او يشوه التنمية الاقتصادية وينتهك الحقوق الأساسية والإجراءات القانونية ويحول الموارد عن مقاصدها الاصلية سواء كانت خدمات أساسية او مساعدات دولية او الاقتصاد بمجمله.. وخاصة عندما تكون الدول ضعيفة فانه يرتبط غالبا بالعنف، ويعود هذا جزئيا الى انه بسبب الفساد فان الديمقراطية تعني مزيدا من انعدام الامن والأسواق الحرة تعني ان يصبح الأغنياء أكثر غنى على حساب باقي افراد المجتمع..

ينطوي الفساد على إساءة ائتمان تشتمل عادة على استعمال سلطة عامة في خدمة مصلحة خاصة تأتي في اغلب الأحيان، لكن ليس دائما باي حال، على شكل مبالغ مالية. والفكرة الضمنية هنا هي انه في حين ان للثروة والسلطة مصادر واستعمالات مقبولة، فان ثمة قيودا على ذلك أيضا.. الا انه وفي مجتمعات تتغير بسرعة فان ماهية هذه القيود ليست واضحة دائما.. ويمكن استعمال مصطلح الفساد على نحو واسع.. حتى في المجتمعات الأكثر استقرارا فان معناه يبقى موضع جدل واستغلال وتحوير.

قد يكون من الصعوبة بمكان رسم خط فاصل بين العام والخاص. خاصة خلال مرحلة تحرير الاقتصاد والخصخصة. يمكن للتغيرات في السياسات ان تجعل من الأدوار العامة أدوارا خاصة، او ان تفوض السلطات والموارد الى منظمات عابرة للحدود بين الدولة والمجتمع، وفي سياق هذه العملية تتغير القواعد وتتغير طبيعة المساءلة..

قد تكون المزايا والتكلفة غير ملموسة، وطويلة الأمد وموزعة على نطاق واسع او يصعب تمييزها عن العمليات الروتينية للنظام السياسي، خاصة عندما تكون المشكلة حادة، يمكن للمطالب والتوقعات المتسمة بالفساد ان تكون جزءا من النظام بحيث تمر دون الحديث عنها..

ماهي معايير تحديد إساءة الائتمان؟

تناصر احدى المدارس الفكرية التعريفات التي تستند الى القوانين وغيرها من القواعد الشكلية نظرا لدقتها واستقرارها النسبيين وتطبيقها الواسع.. يجيب النقاد بان القوانين قد لا تتمتع بالكثير من الشرعية (او قد تكتب من قبل المسؤولين لحماية انفسهم).. مما يوجب ان تتصدى تعريفات الفساد الى مدلوله الاجتماعي وليس فقط معناه الاسمي، وان المعايير الثقافية او الراي العام بالتالي تقدم تعريفات اكثر واقعية..

غير ان الاعتماد على المعايير الثقافية وحدها قد يؤدي الى تنسيب المفهوم او فرض العديد من التمييزات والتصنيفات الفرعية عليه، بحيث يختفي معناه الرئيس ومقارناته المفيدة..

بالرغم من ذلك يجادل اخرون بان أي تعريف يستند في التصنيف الى إجراءات محددة بحيث يتجاهل القضايا الاوسع المتعلقة بالأخلاق والعدالة ويهمل قيما سياسية مهمة مثل القيادة والمواطنة والتمثيل والمداولة والمساءلة..

يعرّف مايكل جونستون في كتابه (متلازمات الفساد.. الثروة والسلطة والديمقراطية) الفساد على انه إساءة استعمال الأدوار والموارد العامة للحصول على مزايا خاصة.. غير انه يؤكد على ان إساءة الاستعمال وعام وخاص وحتى مزايا هي موضع نزاع في العديد من المجتمعات وتعتريها درجات متفاوتة من الغموض في معظم المجتمعات..

من المعروف أن الفساد الإداري والكبير أصبح مستوطنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ويصنف مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية معظم الدول العربية في مرتبة سيئة: حيث يبلغ متوسط النتيجة الإقليمية الآن 39 من أصل 100 (مع كون 100 هي الأقل فسادا)، ولم تسجل أي دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحسنا كبيرا على مدى العقد الماضي. والجماهير العربية أيضاً تدرك هذه المشكلة جيداً. أظهر استطلاع الباروميتر العربي لعام 2021 أن أغلبية كبيرة جدًا تعتقد أن الفساد موجود إلى حد معتدل أو كبير في بلدانها - على سبيل المثال، 87 في المائة في الجزائر، و85 في المائة في الأردن، و92 في المائة في العراق، و89 في المائة في لبنان، و92 في المائة في تونس.

التكاليف المترتبة على الفساد

للفساد آثار مدمرة للغاية على التنمية الاقتصادية والسياسية. وعلى المدى القصير، فهو يعيق الحكم الرشيد من خلال تشويه توزيع الموارد العامة وتضخيم الامتيازات التي يتمتع بها الفاسدون من الداخل. وعلى المدى الطويل، يؤدي الفساد إلى تآكل استجابة الحكومة للاحتياجات العامة، ويضعف النمو الاقتصادي، ويؤدي إلى الصراع السياسي. وهي تفعل ذلك من خلال تدمير ثقة الجمهور، وتأجيج السخط الشعبي، وإضعاف القدرة البيروقراطية، وتمكين النخب القوية من قمع أولئك الذين يهددون بفضح جرائمهم.

إن التكاليف الاقتصادية المترتبة على الفساد المستشري في المنطقة باهظة. ويقدر المنتدى العربي للبيئة والتنمية، وهو منظمة غير حكومية مقرها بيروت، أن العالم العربي يخسر 100 مليار دولار سنويا بسبب الممارسات الفاسدة. إن البيانات الدقيقة على مستوى الدولة أمر بعيد المنال، ولكن حالة العراق توضح ذلك. ووفقاً للجنة الشفافية البرلمانية، فقد خسرت البلاد أكثر من 320 مليار دولار بسبب الفساد منذ عام 2003. كما لعب الفساد دوراً رئيسياً في دفع الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان، والتي وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

المنظومة الريعية

لقد أثبتت العديد من الدراسات أن المنظومة الاقتصادية الريعية غالبًا ما تعوق الديمقراطية، التي يعتبرها فرانسيس فوكوياما بمثابة النظام الأكثر ملاءمة للطبيعة البشرية، ما يؤدي لتثبيت النظم الاستبدادية، وينعكس سلبًا على حقوق شعوبها الفردية والجماعية.

ارتبط مفهوم الريع تاريخيًا بكتابات آدم سميث، كارل ماركس وآخرون. وإذا كان الاقتصادي آدم سميث أول من استخدم مصطلح الريع، فإن كارل ماركس يعد أول من استعمله كنمط اقتصادي حينما أشار إلى مفهوم «الرأسمالية الريعية». وإذا كان الاثنان قد اتفقا على أن الريع يمثل دخلًا غير ناتج عن العمل ولا يدخل في الدورة الإنتاجية، فإن الأدبيات الليبرالية اعتبرته بمثابة فائض الربح الناتج عن اختلال السوق التنافسية بسبب التفاهمات والكارتيلات والاحتكارات الناتجة عن تركز المداخيل عند قلة من الفاعلين وتحكمهم في مصادرها. فيما ربطت مجموعة من الأدبيات العربية، على غرار حازم الببلاوي، الريع بالدخل الناتج عن تصدير الموارد الطبيعة أو النادرة عمومًا، مثل البترول والغاز والفوسفات والذهب. وعلى هذا الأساس تُوصف عادة اقتصادات الدول النفطية بالريعية.

اما مفهوم الدولة الريعية فقد ارتبط بالخصوص بكتابات المفكر الإيراني حسين مهداوي التي اعتبر خلالها الدول التي تتلقى وتستلم بشكل منتظم مواردًا مالية كبيرة من الريع الخارجي دولًا ريعية. وتمتاز هذه الدول بقدرتها الكبيرة على إخضاع الإنتاج لمنطق الريع، وليس العكس؛ إذ يتحول الريع لمنظومة مؤسساتية متكاملة قادرة على «ترييع» أية عملية استثمارية أو إنتاجية وتحويلها لامتيازات تُمنح للأفراد والجماعات برعاية الدولة. هكذا لا ينخرط في عملية توليد الريع إلا فئة قليلة تتمثل بالخصوص في النخبة المدنية أو العسكرية الحاكمة، التي تعد المستفيد الرئيسي من الريع، وهو ما يمنحها القدرة على الامتلاك الكامل للسلطة السياسية.

وقد تزايد الاهتمام بموضوع الريع النفطي بعد صعود أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي، فأصبح من بين القضايا التي تحوز اهتمامًا كبيرًا من جانب الباحثين في ميادين السياسة والاقتصاد. كما صارت مناهضة الاقتصاد الريعي موضوعًا محوريًا في الخطاب الاقتصادي والسياسي السائد، خاصةً وأن خطورة الريع لا تكمن في عرقلة مسار التحرير الاقتصادي فحسب، وإنما تتعداه لتعطيل الانتقال الديمقراطي. حتى أن الكثيرين يعتقدون أن الريع، الذي يعد ظاهرة عربية بامتياز، هو السبب الرئيسي للمشاكل الاقتصادية والسياسية في مجموعة من الدول العربية، بما فيها تلك التي لا تتوفر على موارد نفطية مثل تونس على سبيل المثال.

في هذا الإطار يرى مايكل روس أن البنية الريعية محيط غير خصب لزرع الديمقراطية، ويعتقد أن عائدات الريع النفطي سبب جشع الحكومات وفساد نخبها، فكلما ارتفع مستوى الدخل في الدول النفطية تتراجع الديمقراطية وتتجه نحو الانكماش.

ويرى كل من هيلينا سفالريد وجوناس فلاشوس أن المشكلة الأساسية في جميع الأنظمة السياسية –خاصة في أنظمة الحكم الفاسدة– هي أن النخب الحاكمة أو القريبة من دوائر السلطة تستفيد أحيانًا من عائدات الريع على حساب عامة الشعب، مما يساعدها على خدمة وتعزيز مصالحها الخاصة على حساب مصالح الأفراد والجماعات، وهو ما يجعل من الريع مصدر تهديد دائم للديمقراطية.

ينسجم هذا الأمر تمامًا مع نتائج الدراسة التي قام بها سيزار كالديرون ورفاقه، المعنونة بـ (هل تولد الديمقراطيات سلوك البحث عن الريع؟) فمن خلال الاعتماد على مجموعة من المؤشرات المرتبطة بخصائص العملية السياسية وطبيعة الاقتصاد الريعي، توصل الباحثون للعلاقة العكسية التي تربط الديمقراطية بالريع؛ فكلما ترسخت وانتشرت القيم الديمقراطية لمدة طويلة في بلد ما تراجعت الممارسات الريعية ومعها السلوكيات المرتبطة بالفساد، إيذانًا ببداية تفكك المنظومة الريعية. فالديمقراطية، حسب كالديرون، تساهم بشكل تدريجي في تحسين أداء مؤسسات الدولة عبر الارتقاء بجودة القوانين والحرص على شفافية العمليات السياسية والمشاركة في اتخاذ القرارات الإدارية، ما يقلل من فرص هيمنة بنية ريعية تسودها الرغبة في الاستحواذ على عائدات الريع.

وارتباطًا بالدول النامية، يرى مهرزاد جوادي كوشكسراي ومحمد ريفاني بسطاني أن الدول الريعية التي تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على الموارد الطبيعية والثروات النفطية لا تفتقر فقط للتنمية الاقتصادية، حتى لو سعت إلى إظهار نوع من الاكتفاء الذاتي اعتمادًا على عائداتها المتراكمة من هذه الموارد، إنما كذلك إلى التنمية السياسية. ويؤكدان أن هيكلة (الحكومات الريعية) ورغبتها في السيطرة على مصادر الثروة يشكلان عقبة أمام تكوين مجتمع ديمقراطي، ما يشجع على بروز أنظمة غير ديمقراطية تحتضن وتوظف الفساد السياسي والاقتصادي، وهو ما يتوافق مع خلاصات دراسة قام بها رباح أرزقي وثورفالدور جيلفاسون بعنوان (ريع الموارد والديمقراطية والفساد: أدلة من إفريقيا جنوب الصحراء)، وشملت تسع وعشرين دولة من دول إفريقيا جنوب الصحراء تحظى فيها الموارد النفطية والمعدنية بأهمية اقتصادية كبيرة. فمن خلال البحث في كيفية تأثير التفاعل بين الريع والمؤسسات السياسية في تحديد مستوى الفساد، توصل الباحثان لأن وجود بنية اقتصادية ريعية يكون أكبر وأوضح في الدول الأقل ديمقراطية، مؤكدان على مسئولية الأنظمة السياسية في ظهور الممارسات الريعية وبروز المزيد من مظاهر الفساد الناتجة عنها.

يمكن اعتبار الأنظمة السياسية في الدول الريعية أنظمة نيوبتريمونيالية (غنائمية)، تستغل بعض الممارسات السياسية المرتبطة بالتوظيف الدائم للريع لضمان الاستمرار في السلطة. ويشكل هذا الأمر تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية، في ظل بروز مجموعة من الظواهر المرضية المرتبطة بالفساد و الزبائنية، والتي تحولت مع مرور الوقت من مجرد ظواهر سلبية ينبغي محاربتها من جانب الأنظمة السياسية الشمولية –في ظل وفرة العائدات النفطية– إلى آلية لامتلاك السلطة الحفاظ عليها. واستنادًا إلى كتابات دانيال باش و مامودو غازيبو، فإن هذا الأمر ينسجم بشكل تام مع مفهوم الأبوية الجديدة الذي يشير للارتباط الوثيق بين الاستمرار في السلطة و الزبائنية، ويؤكد وجود علاقة وطيدة بين الفساد وبناء الشرعية.

في الدول الريعية، تستخدم الأنظمة السياسية الموارد الطبيعية كألية لضبط المجتمع؛ إذ يتم توظيف الريع كوسيلة لاحتواء مطالب الجماعات المعارضة ومنع بروز الحركات الاحتجاجية، وذلك بزيادة الإنفاق على الأجهزة القمعية، ومنح الامتيازات وإغداق الهبات والعطايا وتوزيع الثروة وفقًا للولاءات والقرب من السلطة الحاكمة، ويصبح المحكوم بحاجة للحصول على رضا الحاكم لينال نصيبه من الإنفاق العام. وهو ما يضمن في النهاية تحكم النخب الحاكمة في المشهد السياسي والاستمرار في السلطة. وهو معظم الدول العربية؛ إذ سعت النخب الحاكمة لاحتواء الطموح السياسي لباقي الفاعلين السياسيين عبر تمكينهم من منافع وامتيازات مالية واقتصادية واجتماعية.

في هذا الإطار يؤكد مايكل روس على العلاقة السببية الموجودة بين الوفرة النفطية والسلطوية في الأنظمة الريعية، إذ تسعى النخبة الحاكمة لتوظيف الموارد النفطية التي تتحكم في ملكيتها؛ لدعم استقرار واستمرار أنظمتها السلطوية، وإن ترتب عن ذلك انتهاك الحقوق الأساسية لمواطنيها أو الانتقاص من حرياتهم العامة. ويشكل هذا الأمر تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية، في ضوء توظيف الأنظمة الشمولية للعائدات النفطية لزيادة الإنفاق على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية؛ بهدف إسكات الأصوات المعارضة، وتقييد ومراقبة عمل الفاعلين في المجتمع المدني لمنع بروز منظمات فاعلة ومستقلة. ويتحقق هذا الأمر من خلال الاعتماد على مجموعة من الآليات، من أهمها منع التمويل الخارجي وتقييد التمويل الذاتي للجمعيات، وتوزيع الدعم على مؤسسات المجتمع المدني حسب منطق الولاءات. بما يشكل تكريسًا واضحًا للعقد الريعي الذي يربط بين السلطة والمجتمع المدني.

هكذا تسعى الأنظمة السياسية، بهدف ضمان بقائها في السلطة، للاعتماد على توسيع دائرة الاستقطاب الزبائني، وهو ما يؤدي بدوره لاتساع دائرة الفساد النخبوي، إذ تعمد النخب الحاكمة لتعيين الموالين لها في وظائف مهمة وحساسة، وإن كانوا يفتقدون للمؤهلات أو القدرة والكفاءة. كما تسعى أجهزة السلطة لتجنيد أكبر عدد ممكن من أتباعها، وحينها يتم الانتقال من مرحلة الفساد النخبوي لمرحلة الفساد المجتمعي، إذ تصبح سرقة وتبذير المال العام آفة معممة على جميع المستويات.

فيما يتعلق بالأحزاب السياسية، فإن الأمر لا يختلف كثيرًا؛ إذ تبادر الأنظمة السلطوية العربية لتوظيف الريع بغرض التحكم فيها وضمان موالاتها. وهو ما دأبت مختلف النخب العسكرية الحاكمة في السودان على ممارسته، من خلال منح امتيازات مالية واقتصادية هامة لقادة بعض الأحزاب السياسية، خاصةً التي تأسست على أساس طائفي. إلى جانب دعم وحماية استثماراتهم ومشاريعهم الاقتصادية من خلال نهج سياسات المحاباة وتعطيل آليات السوق الحر الذي يعتمد على المنافسة. هذا الأمر جعل تلك القيادات الحزبية تراكم ثروات طائلة أهملت معها برامج التنمية الاقتصادية والبشرية وتخلت عن أهم مطالبها السياسية.

الأسباب الرئيسية وراء استمرار الفساد

في هذا السياق، تجدر الإشارة لأن تحصيل الضرائب وفرض الرسوم الجمركية يشكلان مصدرًا ثانيًا لزيادة ثراء القيادات الحزبية والموظفين الساميين؛ إذ أن أجهزة الدولة في السودان «تسرق» جهد المواطنين لتعيد توزيعه على الموالين للسلطة والمحسوبين عليها.

هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء استمرار الفساد في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا:

1 - يسير الفساد جنبا إلى جنب مع الاستبداد، الذي يظل الشكل السائد للحكم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تعمل الأنظمة الاستبدادية على تغذية الظروف المثالية للفساد: ضعف سيادة القانون، ووسائل الإعلام المكبوتة، والبيروقراطيات المتضخمة، والتفاوت الشديد بين الناس، والحكام الزبائنيين الذين يتاجرون بالمحسوبية بالولاء. لقد ازدهر الفساد في غياب الشفافية والمساءلة، وساعد القمع المحلي في قمع العديد من التقارير عن الفساد وكذلك المعارضة العامة. في الأردن، على سبيل المثال، عندما كشفت وثائق باندورا عن إمبراطورية الملك عبد الله العقارية الغربية التي تبلغ قيمتها 100 مليون دولار في أكتوبر 2021، مُنعت الصحافة الوطنية بأكملها من ذكر القصة. في سبتمبر/أيلول 2019، اعتقلت السلطات المصرية مئات الأشخاص في أعقاب احتجاجات نادرة مناهضة للحكومة أثارتها تقارير عن فساد كبير من قبل النظام العسكري. وعلى النقيض من ذلك، تزيد الديمقراطيات من صعوبة انتشار الممارسات الفاسدة (وإن لم تكن مستحيلة) لأنها تتميز بمؤسسات قانونية أقوى، ووسائل إعلام أكثر استقلالية، وضمانات دستورية تحد من استغلال أصحاب المناصب العامة للسلطة.

2 - أن حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اختارت عدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفساد، على الرغم من الوعود المتكررة بالقيام بذلك. وعلى أحد طرفي الطيف هناك حالات من التقاعس النسبي عن مكافحة الفساد، كما هو الحال في تونس. وهنا، لم تفعل ديمقراطية ما بعد الثورة التي اندمجت بعد عام 2011 سوى القليل لمعاقبة أعمال الفساد المرتكبة في ظل الديكتاتورية أو للحد من أعمال الفساد الجديدة التي ازدهرت خلال العملية الانتقالية. وقد سهّل الغضب الشعبي الواسع النطاق بسبب هذا الفشل، ووعود الرئيس قيس سعيد بمعالجة الكسب غير المشروع ومعاقبة السياسيين الفاسدين، استيلاء سعيد على السلطة في يوليو/تموز 2021. (ومن المفارقات أنه بعد شهر واحد فقط، قام بتفكيك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي أنشئت في أعقاب الثورة.

وقد أصدرت حكومات عربية أخرى تدابير لمكافحة الفساد، لكنها استخدمت هذه الجهود كسلاح، مستهدفة المنافسين وأولئك الذين يتحدثون عن الفساد الحكومي، لكنها تركت القادة وعائلاتهم دون مساس. وفي الحالات الأكثر تطرفاً، خلفت حملات التطهير العنيفة لمكافحة الفساد التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في عامي 2017 و2020، على التوالي، آثاراً من التعذيب والسجن التعسفي، حيث طارد القادة منافسيهم من النخبة بشكل ضيق.

ومن الأمثلة الأخرى على هذه الجهود المسيسة يكمن في وكالات مكافحة الفساد، الموجودة في ما لا يقل عن 10 دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكن من الناحية العملية، لا تعمل هذه الوكالات بشكل مستقل عن السلطة التنفيذية. وبدلاً من استئصال الفساد العام، فإنهم يعملون بشكل أساسي على تنظيمه من خلال إبقاء الشبكات الفاسدة تتدفق لصالح القادة مع معاقبة أولئك الذين يخرجون عن الخط.

3 - لم تواجه الأنظمة العربية تقليدياً سوى القليل من الضغوط الخارجية لمعالجة الفساد. لقد ركزت الحسابات الجيوسياسية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الحفاظ على استقرار النظام على المدى القصير؛ وكثيراً ما يتم تجاهل التقارير المتعلقة بالفساد الداخلي أو التقليل من شأنها من أجل الحفاظ على العلاقات مع الحكام. وقد حذت الحكومات الأوروبية حذوها إلى حد كبير في تجنب هذه القضية.

إن تركز الثروة والمال بيد سلطات تحتكر كامل الحياة السياسية ومعظم أوجه النشاط الاقتصادي واستشراء الفقر والقهر والفساد بصورة غير مسبوقة، أفضى إلى تخريب البنى الوطنية وامتصاص طاقة المجتمعات وتدمير خلايا النمو والتجدد فيها، واستدراكاً إخفاق برامجها التنموية وفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية جميعها بما في ذلك تهميش دور هذه المجتمعات في الساحة العالمية، مما وضع الشعوب في حالة تثير الشفقة، وفتح الطريق واسعة أمام ما يحصل من انتفاضات وثورات، تقول ببساطة إن هذه المنطقة من العالم لم يعد باستطاعتها الاستمرار بالصورة التي هي عليها، وإنه بات من الملح الشروع في التغيير وإرساء قواعد الحياة الديمقراطية في العلاقات القائمة بين السلطة والدولة وبينهما وبين المجتمع.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

..........................................
مصادر واحالات:
متلازمات الفساد.. الثروة والسلطة والديمقراطية / مايكل جونستون
الأحزاب.. والسلطة.. وتبديد الثروة / فاضل حسين الخفاجي
ماذا يحدث عندما تتحالف السلطة والثروة؟ ياسر الزعاترة
الديمقراطية وأزمة السلطة/ أمير طاهري
العرب والديمقراطية بين الثورات والتغيير الاستباقي / أكرم البني
الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية / سمير سعيفان
مستقبل الديمقراطية العربية في ظل هيمنة المنظومة الريعية: دراسة لحالة السودان / فؤاد أعلوان

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي