الشرق العتيق والغرب الساحر
زكي الميلاد
2023-12-12 05:41
من يلتفت إلى المقدمة التي كتبها الكاتب السوري هاشم صالح لكتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، سيجد أنها مقدمة مثيرة للجدل، تحرض بشدة على النقاش، وتفتح هامشا كبيرا من الاختلاف.
وستكون هذه المقدمة في دائرة الضوء، وفي حالة تذكر مستمر متى ما عرفت، لأنها من نمط المقدمات التي يمكن وصفها بغير العادية على الإطلاق، فهي أكثر وأكبر من مجرد مقدمة كتبت لكتاب، ولعلها مع مرور الوقت ستعرف أكثر من الكتاب، وأنها هي التي ستعرف به، وتنبه عليه.
وتتأكد هذه الملاحظة، حين المقارنة بين هذه المقدمة مع مقدمات أخرى كتبها هاشم صالح لبعض مؤلفاته، الصادرة ما قبل هذا الكتاب وما بعده.
في هذه المقدمة، قدم صالح مكاشفة مهمة لتجربته الفكرية، وما حصل فيها من تحول وانعطاف نفسي وفكري، زمني ومكاني، تحدد بقوله وبكل صراحة ووضوح: إنه أدار ظهره كليا للشرق العتيق، وأعلن العصيان على كل ما أسسه منذ نعومة أظفاره، وعد نفسه مثقفا منشقا، وذلك بعد أن حظي بمنحة دراسية إلى فرنسا قبل حوالي ثلاثين سنة -من تاريخ صدور كتابه- فتعرف على لغتها وثقافتها وحرياتها، وكان من حسن حظه أن وطأت قدماه هذه الأرض الطيبة، وهي بالنسبة إليه من مصادفات الأقدار، مصادفة لا يجود بها الزمان إلا قليلا، واعتبر أنها شكلت له حظه التاريخي، وموعده مع القدر.
وبما أن الكتابة بالنسبة لصالح -كما يقول- هي إدارة حرب ضد كل ما هو سائد في العالم العربي والإسلامي، من أجل تعريته وتفكيكه، أو حتى تحطيمه وإزالته من الوجود إذا لزم الأمر، أو إذا ما استطاع لذلك من سبيل، وبما أن هذه المعركة في نظره، هي مع تاريخ بأسره، فهي معركة ضخمة جدا، واعتبرها أنها أكبر من حجمه وإمكانياته، لهذا لجأ إلى المفكرين الأوروبيين الكبار، الذين حرروا بلادهم ومجتمعاتهم من نفس الأخطاء والتصورات والترسبات التراثية الراسخة، ولهذا ركز في هذا الكتاب (مدخل إلى التنوير الأوروبي)، على المفكرين النقديين والغاضبين الذين يريدون التغيير وبشكل راديكالي، أي من الجذور.
هذه بعض ملامح المكاشفة التي قدمها هاشم صالح، وهي بتمامها نادرا ما صدرت بهذه الدرجة من الوضوح، عن أحد من المثقفين في المجال العربي، لا أقل في السنوات الأخيرة.
ولا أدري إن كان صالح بهذه المكاشفة، قد سبب حرجا لتلك الفئة من المثقفين الذين يتناغمون معه في هذه الرؤية ولا يتظاهرون بها علنا، الذين قد يعتبرون أنه عبر عن رأيه ورؤيته لا عن رأيهم ورؤيتهم، متباعدون معه في الظاهر عن هذه الرؤية، وفاصلون أنفسهم عنها لا أقل في الظاهر، أم أنه قد نال إعجابا منهم على هذه الجرأة والشجاعة، وعلى رفع الصوت عاليا، وكسر حاجز الخوف، والتخلص من حالة الرهبة في التعبير عن هذه الرؤية، والإفصاح عنها، معتبرين أنه استطاع أن ينطق بما لا يستطيعون النطق به، ويجاهر بما لا يستطيعون المجاهرة به، ويكاشف بما لا يستطيعون المكاشفة به.
كنت أظن أن المكاشفة التي أشار إليها الكاتب السوري المقيم في باريس هاشم صالح في مقدمة كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، والتي شرح فيها تجربته الفكرية، وما حصل فيها من تحول وانعطاف نفسي وفكري، زمني ومكاني، وكيف أنه أدار ظهره كليا للشرق العتيق حسب وصفه، وأعلن العصيان على كل ما أسسه منذ نعومة أظفاره، وعد نفسه مثقفا منشقا، إلى باقي تتمة المكاشفة المثيرة للجدل.
كنت أظن أن هذا النمط من الآراء والمكاشفات قد تراجع وتلاشى، ومن دون عودة، ولم يعد له أساس ووجود، بعد كل التجارب التي مرت من قبل على الأدباء والمثقفين في المجال العربي، الذين كانوا على حالة هاشم صالح أو أقل من حالته أو أكثر، ثم تغيروا وتراجعوا، وانتقلوا إلى حالة أخرى مغايرة، وكتبوا عن تجاربهم، وعرفوا بها في كتابات ومؤلفات.
ويكفي النظر في هذا النطاق إلى مصر، التي مرت عليها في أزمنة متعاقبة، الكثير من هذه الحالات والتجارب البارزة والمهمة، وارتبطت بأسماء لامعة ومعروفة هناك، مثل: منصور فهمي وإسماعيل مظهر وطه حسين ومصطفى محمود، وصولا إلى عادل حسين وعبدالوهاب المسيري، وليس آخرا مع زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي، إلى جانب آخرين في مجتمعات عربية أخرى.
وما يثير الدهشة، أن جميع هذه الأسماء وهذه الحالات والتجارب، يعرفها هاشم صالح عز المعرفة، وليست بعيدة عن ذاكرته، ولا غريبة أو مفارقة عن حالته، ولا هي قليلة الشأن بالنسبة إليه، مع ذلك لم تمثل له مصدر إنذار وعبرة واتعاظ، وكأنه يعيد ويكرر من جديد الحالات والتجارب التي مرت على أولئك، وغيرت من سيرتهم.
مع ذلك فقد وجدت أن هناك قدرا من التغير حصل في رؤية صالح، كشف عنه في مقدمة كتابه (من الحداثة إلى العولمة.. رحلة في الفكر الغربي وأثرها في الفكر العربي) الصادر سنة 2010م، بقوله: (إني لا أدعو إطلاقا إلى الاستغراب، أو التخلي عن تراثنا العربي الإسلامي العريق، فهو تراثي منذ نعومة أظافري، ولا أستطيع التنفس إلا داخله، إني أموت إذا ما حرمت منه، أو خرجت عنه، كما تموت السمكة إذا خرجت من الماء، فخارج الإسلام واللغة العربية لا حياة ولا أمجاد ولا مستقبل).
والملاحظ أن الروح التي سرت في هذا الكلام، هي غير الروح التي سرت في مقدمة كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي)، ولم يعد هاشم صالح في هذا الكلام، بذلك الاندفاع والانبهار والافتتان، وبتلك المشاكسة والمساجلة والمجادلة التي كان عليها في تلك المقدمة المثيرة للجدل والاختلاف.