التمييز وإستجلاء القصد الإحتمالي
احمد طلال عبد الحميد البدري
2023-10-14 05:42
اصدرت محكمة التمييز الاتحادية قرارها بالعدد (19779/ 18201/الهيئة الجزائية /2023) في 8/10/2023 والمتضمن نقض الحكم الصادر من محكمة جنايات الكرخ بتاريخ 27/8/2023 في قضية وفاة الطفل (موسى ولاء عبد الحسين) نتيجة الضرب والتعنيف من قبل زوجة ابيه، بعد ان كانت محكمة جنايات الكرخ قد اتجهت الى تكييف الواقعة كجريمة ضرب مفضي الى موت، حيث عرض القرار على محكمة التمييز الاتحادية لاجراء التدقيقات التمييزية عليه بعد طعن ذوي العلاقة بالقرار المذكور امامها، وكانت النتيجة ان اصدرت محكمة التمييز الاتحادية قرارا موفقاً استند في خلاصته الى استجلاء القصد الاحتمالي المحقق للركن المعنوي للجريمة العمدية ولنا على القرار المذكور التعليق الاتي:
ان اعتراف الجانية زوجة اب الطفل المجني عليه قد تضمن الاقرار بالفعل المادي المؤدي الى الموت مع انكار توفر النية او القصد لاحداث النتيجة الجرمية وهي وفاة المجني عليه، وهذا من شأنه ان ينفي الركن المعنوي للجريمة الذي يقوم على اساس تحقق الارادة وهي حرية الاختيار وهي قدرة الجاني على توجيه افعاله نحو عمل معين او الامتناع عنه مع علمه وادراكه لنتائج هذا الفعل وهو مايسمى في الجرائم العمدية بـ (القصد الجنائي)، وهو باختصار يعني ارادة الفعل وارادة النتيجة المترتبة على هذا الفعل، فاذا تحقق عنصر ارادة الفعل اي السلوك الاجرامي المادي الخارجي الموجه الى المجني عليه دون ارادة النتيجه الجرمية ينتفي القصد الجنائي ونكون امام جرائم الخطأ وقد عرفت المادة (33/1) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل القصد الجرمي هو ( توجيه الفاعل ارادته الى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفاً الى النتيجة الجرمية او اي نتيجه جرمية اخرى ……).
وبالتالي فأن دفاع الجاني كان يستند الى نفي تحقق القصد الجنائي للفعل للتخفيف من وطأة التكييف القانوني له وبالتالي العقوبة المقرره لهذا الفعل.
ان محكمة التمييز الاتحادية الموقرة بعد دراسة ظروف وملابسات القضية المعروضة عليها للتدقيق اخذت بفكرة القصد غير المباشر او (القصد الاحتمالي) لتحقق قيام القصد الجنائي للجريمة، فالقصد الاحتمالي يعني حالة ارادة الجاني للفعل المكون للسلوك الاجرامي الا النتائج المترتبة على فعله محتملة ومتوقعه الحصول ومع ذلك يقدم الجاني على فعله غير مباليا بتحقق هذه النتيجة، وهنا يتحمل الفاعل مسؤولية النتيجة الاحتمالية كما لوكان قد قصدها بالفعل طالما هي محتمله الوقوع وكان بامكان الجاني توقعها ومع ذلك لم يكترث او يحفل بها ومضى في سلوكه الاجرامي فضرب الطفل ببعض الادوات قد يترتب عليه عاهة مستديمة او الموت.
حيثيات قرار
ومع ذلك مضت الجانية بفعلها دون مبالية بالنتيجه، وهذا ما اشارت اليه محكمة التمييز في حيثيات قرارها الذي جاء فيه ( … اذ الثابت ان وفاة المجني عليه لم تكن نتيجه لتصرف واحد صدر من المتهمة تجاه المجني عليه من خلال ضربه ضربه واحدة في مكان غير قاتل حتى يمكن قبول قول المتهمة انها لم تكن تقصد قتل المجني عليه ومريدة للنتيجة الجرمية وهي الوفاة، وانما الثابت ان المتهمة كانت تقوم بضرب المجني عليه في اماكن متفرقه من جسمه وبطرق مختلفه ولمرات عديدة وازمان مختلفة واماكن مميته يتوقع منها وفاة المجني عليه وهذا ما حصل فعلا في المرة الاخيرة من ضربها له، وبالتالي فأن تصرفاتها الجرمية تلك كان يتوقع منها ان تؤدي الى وفاة المجني عليه سيما انه طفل لم يتجاوز السابعه من عمره الا ان المتهمة قبلت المخاطرة بارتكابها وبالتالي فأن القصد الاحتمالي يكون قد تحقق في فعلها بارادة وتوقع الوفاة ….).
ان قرار محكمة التمييز الاتحادية باستخلاص القصد الاحتمالي من وقائع القضية جاء تطبيقاً سليماً لنص المادة ( 34/ب) من قانون العقوبات التي نصت على ان (وتعد الجريمة عمدية كذلك : (ب) اذا توقع الفاعل نتائج اجرامية لفعله فاقدم عليه قابلاً المخاطرة بحدوثها)، وبذلك ساوى المشرع الجنائي العراقي بين القصد المباشر والقصد الاحتمالي من حيث المسؤولية مع التضييق من نطاق تحقق القصد الاحتمالي بتحقق شرطين، هما توقع حصول النتيجة الجرمية وقبول هذه النتيجة المحتملة لفعله غير مبالياً او مكترثاً بحصولها.
وهي بذلك – اي المحكمة – قد استبعدت التكييف الذي توصلت اليه محكمة الموضوع باعتبار الفعل المرتكب من قبل الجانية يدخل تحت اطار ما يعرف بـ (جرائم ما وراء القصد) او القصد المتعدي والتي ابرز صورها هي جريمة الضرب المفضي الى الموت المنصوص عليها في المادة (410) من قانون العقوبات، وهي عادة تكون في منزلة وسط بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية.
ان تكييف محكمة التمييز الاتحادية للفعل وفق المادة (405) من قانون العقوبات كجريمة قتل عمدية لايمنع برأينا من تطبيق الظروف المشددة النصوص عليها في المادة (135) من قانون العقوبات، ولاسيما ان الجانية قد ارتكبت فعلها منتهزة ضعف ادراك المجني عليه وعجزه عن الدفاع عن نفسه كونه طفلاً يعجز عن مقاومة الشخص البالغ، كما انه كان في ظروف لاتسمح او تمكن الغير من الدفاع عنه او رد الاعتداء عليه، وايضاً لايمنع من تطبيق الاعذار والظروف المخففه وطبعاً كل هذا متروك لتقدير محكمة الموضوع تحت رقابة المحكمة العليا محكمة التمييز الاتحادية… والله الموفق.