ما وراء كرنفال البصرة - خليجي 25؟
ابراهيم العبادي
2023-01-10 07:08
في أول انتخابات عامة أجريت في العراق بعد سقوط الاستبداد واقرار الدستور، اندهش العالم من روح التحدي التي دفعت العراقيين للتقاطر إلى مراكز الاقتراع، رغم أعداد الانتحاريين التي كانت تنتظرهم، والتفجيرات التي تحصدهم، يومها علق الدبلوماسي السويدي الشهير، هانز بليكس، رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعليقه المثير (لا يفعلها إلا العراقيون).
توسم العالم حينها أن تكون الاندفاعة العراقية، فاتحة عهد جديد للعراق والمنطقة، دولة عراقية ديمقراطية مزدهرة تنفض عن العراق عهود الرأي الواحد والحروب والقمع والتردي الاقتصادي وتبديد الثروة وهدر الموارد، وتضييع مكانة العراق ودوره المفترض في حاضر ومستقبل العالم.
في البصرة التي تستقبل مسابقات خليجي 25، يعيد العراقيون ادهاش العالم بسردية جديدة غير سردية السياسة، التي بددت طاقاتهم وفرقت جهودهم، كأن البصرة تريد تذكير نفسها والجغرافيا التي تتربع في قلبها، انها مركز اعادة بناء العراق، فمثلما ساهمت البصرة في حضارة العرب والمسلمين، كونها حاضرة العلم والعلماء والكتب والادباء والمحدثين والقراء.
ها هي البصرة تنبعث اجتماعيا ونفسيا، وتستعد للانطلاق اقتصاديا وحضاريا، أنها تتعالى على الام وجراح الخراب، والتخلف الذي غلفته سنين طوال، البصرة تفيض كرما، لكنها لا تفتعل الكرم والضيافة اليوم لإرضاء أشقائها الخليجيين، ولا تتقصد إقناع الآخرين بقدرتها على تنظيم بطولة أو استقبال القادمين بابتسامة مفتعلة.
البصرة تتحدى نفسها اليوم، للتغلب على معضلات كثيرة، طمست روحها العذبة وصورتها الجميلة وتاريخها المجيد وتعدديتها المدهشة، لتقول إن زمن الانبعاث قادم وإن محرك هذا الانبعاث هو الثقة، الثقة بالقدرة على تحدي الصعاب وتحويل التراجع إلى انطلاق، اقرأ في اندفاع البصريين على اظهار كل جميل، ارادة التحدي وفقا لقانون المفكر والمؤرخ الكبير ارنولد توينبي (التحدي والاستجابة)، إنها استجابة لصنع مستقبل طال انتظاره.
العراقيون جعلوا من استضافة البصرة لأشقائهم عرب الخليج واليمن، محطة لتاريخ جديد، تاريخ من التعاون والثقة المتبادلة والعيش المشترك والبناء للأجيال، أرادوا من الرياضة أن تجمع ما فرقته السياسة وما بددته سرديات الطوائف المنغلقة والقوميات الطاردة والأيديولوجيات المقاتلة.
كانت البصرة قلب الخليج، ثم صارت هامشه الغارق في ظلمات التردي، واليوم تريد العودة إلى مركزها القديم، تريد وصل ما انقطع، تتطلع إلى توحيد المشاعر والقناعات بوحدة الخليج المصيرية وبضرورة توازن التنمية والتحضر في جميع أرجائه، مستفيدة من تاريخها الحضاري المفعم بالتنوع، وحاضرها الذي اختنق بالاحادية، تريد الخروج من فكر الاختزال وسلوكيات ما قبل الدولة الحديثة إلى رحاب التجدد ووصل الماضي بالحاضر والفولكلور بالثقافة المتجددة.
البصرة تستطيع أن تكون قاطرة التمدن العراقي الجديد، التمدن الذي يقوم على افكار التنوع والتعدد وقبول الاخر والتنافس البناء، والديمقراطية الاجتماعية واللامركزية الادارية والتنمية الشاملة، لاتنجح خطط التطوير والتنمية بدون مشاركة جماهيرية ودعم شعبي وقبول نفسي ورضا اجتماعي، ولا يمكن استدامة البناء والتغيير بدون نهوض الاقليم بذات القيم والقناعات، ما فائدة صعود دول ومجتمعات في سلم الرقي والنماء الاقتصادي وحولها دول ترتع بالفقر والحروب والتطرف والغليان الاجتماعي، إن رسالة خليجي 25.
لا تنحصر في جمع القلوب واسعادها لبضعة ايام بمشاعر أخوية وضيافة تفوق الوصف وكرم حاتمي مجيد، وليس إثبات الذات والدفاع عن الهوية التاريخية والاجتماعية، هو هدف البطولات القارية والاقليمية والمحافل الاجتماعية والكرنفالات عابرة الحدود، بل هدفها تكريس السلام الاجتماعي والتعايش السلمي والقبول بالمختلف والتطلع إلى المستقبل بالمشتركات والممكنات.
ظلم العراقيون أنفسهم كثيرا، وظلمهم الاشقاء والجيران والأصدقاء والأعداء عندما تعاونوا جميعا بغير اتفاق، على جعل العراق ساحة حروب وتطرف وفساد وتدخلات واستقطابات، فخسر العراق وخسروا، خسر العراق تراجعه في سلم الحضارة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، وخسروا عندما صيروه ساحة لنفوذهم واطماعهم وتدخلاتهم وعبثهم ونفاياتهم البشرية المتطرفة، فبات بعبعا مخيفا، يسعون للاحتراس من اضطرابه وانفجاراته الاجتماعية وحروبه الداخلية وضعفه وخسارته لسيادته، عندما يحترم العراقيون ذواتهم وهويتهم الوطنية، ويعملون وفق مقاساتها وقيمها المفعمة بالتنوع المبدع، يحترمهم الآخرون ويتسابقون للتواصل معهم.
العراق بحاجة إلى خروج أهله من انقسامهم وتيههم، وبحاجة إلى قراءة معمقة من الاخرين، فعودة العراق الايجابي الفعال مصلحة للجميع، فلتكن خليجي 25 بوابة للنهوض العراقي على مختلف الاصعدة، إنها فرصة ليتحدى العراقيون انفسهم قبل العالم الخارجي، وانهم سينجحون اذا مارسموا خريطة النجاح واعدوا مستلزماتها، كان النصر على داعش وروح التطوع والمشاركة في التحرير، فرصة لمرحلة جديدة، لكنها ضاعت بالشعارات والانانيات ومساعي تغليب تيار على اخر، واستثمار النصر لفئة على حساب اخرى، الان تلوح فرصة بما صنعته وتصنعه لحظة استضافة البصرة لاهل الخليج، لحظة لاستشراف طريق المستقبل من وحي فكر الوطنية العراقية، التي تتشارك بصناعته اطياف الناس وثقافتهم الاجتماعية، بلا املاءات ايديولوجية مريبة.
فهل يستثمرها العراقيون أم ستذهب كما ذهبت غيرها؟