مقدمات الفوضى الشاملة

ابراهيم العبادي

2022-08-03 06:59

ينخرط الكثير من الباحثين في لعبة البحث عن النموذج المناسب لتحليل الواقع السياسي العراقي، يميل بعضهم الى التفتيش في التاريخ السياسي القريب والبعيد لتحديد النسق الفكري والثقافي للمجتمع العراقي وهو بدوره يكشف البناء المعرفي الذي يقف خلف انماط السلوك السياسي للنخبة والفاعلين منهم على وجه التحديد، ثم عامة الجمهور الذي يتشكل وعيه بترديد سرديات التاريخ الواقعي والموهوم، بدءً من مجتمع الكوفة الذي كان يلخص تاريخ العراق السياسي والفكري قبل ان تتسيده بغداد بعد صيرورتها عاصمة الامبراطورية ومركز انتاج الفكر وموئل صراعات المدارس الكلامية والفقهية.

النمط البحثي الاخر يتبنى نموذج القراءة السياسية لتفسير الواقع الراهن بناء على معطياته وتفاصيله المتشكلة حديثا، فما جدوى البحث في التاريخ؟ وما قيمة الدروس المستخلصة منه، اذا كانت امة من الامم لا تقرأ تاريخها لتتعلم منه، القراءة الحاضرة لتوازنات القوى واتجاهات الحدث السياسي بعيدا عن التاريخ وملابساته هو ما يصلح لتفكيك الغاز الازمات ومساراتها!

واقع الحال يشير الى ان ايا من المسارين لا يمكن الاستغناء عنه، والافكار التي تبنتها مدرسة الحوليات الفرنسية مهمة ومفيدة جدا في سبر تأثيرات الاحوال الاجتماعية والاقتصادية على الواقع السياسي، واستخلاص مسارات التفكير العقلاني التي انتجتها حاجات الفرد والجماعة لادامة حياتها واستدامة معاشها وصيانة مصالحها.

ولان مجتمعاتنا دينية أو ان حضور الدين فيها عامل التحريك لكل الفاعليات، بما فيها الفاعليات التي تتنافس على حيازة السلطة والمشروعية، فقد كان قمينا بكل قراءة للواقع السياسي والاجتماعي ان تفحص بدقة دور الدين، فقها وعقيدة، سيما الفقه السياسي المتصل بالحكم والحاكمية والسلطة والشرعية والنظام والمعارضة، الجدير بالإشارة ان الفقه السياسي الاسلامي في مدرستيه الرئيستين السنية والشيعية يلتقيان في بعض قضاياهما ويختلفان في قضايا كثيرة، الاول خضع للواقع والثاني نحى نحوالمثال، مال الاول الى شرعنة كل حكم متغلب ومنع الخروج عليه بالاجمال خوفا من (الفتنة) وهي الفوضى والهرج والمرج اللذان يتسببان بضياع الحقوق الفردية وهدر معاش الناس وامنهم، فيما مال الثاني الى ترجيح قضيتي الشرعية الدينية والعدل الاجتماعي، وقد ترتب على السجال بين المدرستين تراجع التركيز على قضية الفتنة حينما يختلط الحابل بالنابل وتضيع الحدود ويقتتل الناس وتعجز السلطات عن ضمان الامن العام وهي الظاهرة التي صار يعبر عنها بالحرب الاهلية والتي قد تتحول الى فوضى.

ثمة مقدمات للفوضى يتغافلها الساسة والزعماء في غمرة الخوف المتبادل والتعصب والاعتقاد بصوابية المسلك وحقانية الموقف، هناك من يعتقد ان الانسداد في الازمة السياسية لن يصل الى نهاياته الا بانكسار أرادة احد طرفيه، وانتصار ارادة اخرى وربما يصل الهوس ببعض المتحمسين الى التفكير بالغاء الاخر عبر منطق القوة، وهنا يفيدنا منهج التحليل السياسي في التحذير من الاستمرار بمسلك الصراع وتحويله من تنافس سياسي الى صراع قوى شارعية لا ترى ابعد من تخوم شعاراتها، ولا اشد واخطر من ان يكون الدين ومناسباته عاملا تعبويا ووسيلة لانتاج خطاب الحسم والفصل وهو ما يزيد الامور تعقيدا، خصوصا اذا كان الشارع تهيمن عليه ايديولوجيا مذهبية ثورية لا تعير قيمة لمعاش الناس وامنهم ،المهم عندها ان تعيش وفية لمبادئها دونما مراجعة هادئة لحقانية ما تزعم من مبادئ وصوابيتها.

العراق يحترق بثقافة الانفعال الثوري ومنطق الخصومة الحزبية، وليس من افق واعد يشير الى نضج التجارب وقدرة على تقدير المخاطر، السياسة في العراق لا تسويات فيها ولا رؤى عقلانية، واحزاب العراق افضل تجسيد ومحاكاة للجماعات السياسية والدينية التاريخية، التي خاضت غمار الصراع ولم تهتد الى ترجيح اللجوء الى التنازلات المتبادلة والتفاهمات عند منطقة الوسط، كانت صراعات العالم القديم داخل البلد الواحد تحسمها القوة والغلبة قبل ان يبتكر الغرب في عالمنا الحديث، صناديق الاقتراع واستفتاء أراء الناس ويفرض بموجب العقد الاجتماعي خضوع الاقلية لمنطق الأكثرية ويجعلها حكما وميزانا، نحن في العراق لم نتعلم التسليم لمعادلة الاكثرية والاقلية، لأننا لا نؤمن بالديمقراطية ولا بفلسفتها ومازالت الديمقراطية عند كثير من الاسلاميين كفرا وهرطقة، ومازلنا أوفياء لتراث داحس والغبراء.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا