الذكرى 47 للحرب اللبنانية
تأثيرات التاريخ والجغرافيا على الكيان والنظام
صبحي غندور
2022-04-16 06:32
يعيش اللبنانيون اليوم (13 نيسان/أبريل) ذكرى مرور 47 سنة على بدء حرب أشعلت الموت والدمار في ربوع وطنهم، حربٌ لم تهدأ نارها إلا بعد خمس عشرة سنة حين جرى توقيع اتفاق الطائف.
47 سنة كانت فيها تناقضات صارخة ما بين أجواء الحرب والسلام وتعبيراً عن حقيقة واقع الحال اللبناني اليوم حيث يجد لبنان نفسه ومصيره في مناخ من لا حرب ولا سلم!
لقد أخطأ من ظنَّ أنّ الحرب اللبنانية عام 1975 كانت حرباً أهلية فقط، تنتهي باتفاق اللبنانيين فيما بينهم. ويخطئ من يظنّ اليوم أنّ "المستقبل اللبناني" سيتحقّق بإرادة لبنانية فقط.
لقد كانت أزمة لبنان منذ عام 1975 وحتى اليوم مزيجاً من عوامل مركّبة داخلية وخارجية تتحرّك دائماً معاً لتصنع أتون الحروب والصراعات المسلّحة أحياناً، والتسويات السياسية أحياناً أخرى. هكذا هو التاريخ اللبناني المعاصر كلّه، منذ كان لبنان هو فقط "منطقة جبل لبنان" أيام حكم "المتصرّفية" في أواخر القرن التاسع عشر، وحيث جرت حرب الطائفتين المارونية والدرزية عام 1860 بتشجيع وتسليح أجنبي فرنسي وبريطاني.
ثمّ هكذا كان الحال عام 1958 حينما شهد لبنان أحداثاً دموية كانت هي أيضاً مزيجاً من عناصر أزمة سياسية داخلية مع تحريك وتأثير خارجي نتج عن إعلان مشروع حلف أيزنهاور والصراع الأميركي مع مصر عبد الناصر..
وجاءت حرب نيسان/أبريل 1975 لتؤكّد من جديد هذه الخلاصة عن تاريخ الأزمات اللبنانية حيث امتزج الصراع الداخلي بأسبابه السياسية والاجتماعية مع الأبعاد الإقليمية والدولية، وتحديداً حول الموقف الإقليمي والدولي من الصراع العربي الإسرائيلي ومن الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان.
فلقد حصلت الحرب في لبنان عام 1975، والمنطقة كلّها تشهد تفاعلات وتحوّلات كبيرة:
- حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 وما تبعها من سياسات قادها هنري كيسنجر مع أنور السادات لفصل الجبهات العربية عن بعضها البعض.
- بروز المقاومة الفلسطينية المسلّحة واستخدامها للحدود اللبنانية مع إسرائيل كساحة لعملياتها العسكرية بعدما أغلقت أمامها الجبهات الأخرى، خاصّةً الجبهة الأردنية بفعل أحداث أيلول/سبتمبر عام 1970.
- سعي سوريا لحماية نفسها ولتعزيز دورها الإقليمي بعدما انفرط عقد التحالف مع مصر/السادات، وبعدما انهارت مقوّمات التضامن العربي الذي صنع حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973.
- طموحات بعض الأنظمة العربية لوراثة دور مصر/عبد الناصر من خلال تمويل وتسليح عدد من المنظمات الفلسطينية واللبنانية بأمل أن يحدث ذلك تأثيراً على عموم المنطقة العربية.
- الصراع الأميركي/السوفييتي على المنطقة، خاصّةً في ظلِّ العلاقات المميّزة التي كانت تقوم بين موسكو ودمشق وعدد من المنظمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية.
- أخيراً، وهو العامل الأهم، المشروع الإسرائيلي لتحطيم النموذج اللبناني، الذي تحدث عنه أمام الأمم المتحدة عام 1974 رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك سليمان فرنجية، لحلّ القضية الفلسطينية من خلال دولة فلسطينية ديمقراطية تضمّ اليهود والمسلمين والمسيحيين كما هو النموذج اللبناني القائم على تعدّد الطوائف.
وقد استطاعت إسرائيل في احتلالها المباشر أوّل مرّة عام 1978 لمناطق لبنانية عديدة، ثمّ في احتلالها وغزوها لمناطق أخرى وللعاصمة بيروت عام 1982، أن تكون هي أكثر العوامل تأثيراً في الحرب اللبنانية وفي انعكاساتها الفلسطينية والسورية والعربية عموماً.
وامتزجت في المخطّطات الإسرائيلية بلبنان مشاريع التجزئة والتقسيم مع الاحتلال للأرض والسيطرة على المياه، ومع القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلّحة، فضلاً عن إضعاف وإنهاك سوريا وإشغالها في صراعات عربية/عربية، بينما خطوات التسوية والمعاهدات كانت تجري على جبهات عربية أخرى.
وإذا كانت إسرائيل هي العامل الأوّل المفجّر للحرب اللبنانية وهي المستفيدة من تداعياتها، فإنّها لم تكن دائماً في موقع الرابح لمعاركها العسكرية والسياسية في لبنان.
فصحيحٌ أنّ إسرائيل حقّقت أهدافاً كثيرة في محطات الحرب اللبنانية، واستطاعت الوصول بغزوها العسكري عام 1982 إلى أوّل عاصمة عربية، لكن أيضاً كان لبنان أوّل بلد عربي يُجبر إسرائيل على الانسحاب عام 2000 بفضل المقاومة العسكرية لا حصيلة مفاوضات ومعاهدات.
وصحيح أنّ إسرائيل دعمت أطرافاً لبنانية في الحرب وساهمت بإشعال معارك طائفية عديدة، لكنّها فشلت في تجزئة الوطن اللبناني وانتصر اتفاق الطائف العربي على مشاريع التقسيم الطائفي الإسرائيلي.
لقد نجح اتفاق الطائف بأن يكون مدخلاً جيداً لإنهاء الحرب اللبنانية، إلا أنّ هذا المدخل الجيد لم يستتبعه بناء بيت لبناني جيد على أسس متينة.
إنّ البيت اللبناني الواحد ما زال مهدّداً بالانهيار لأنّ اتفاق الطائف كان يجب أن يؤدّي إلى إلغاء الطائفية السياسية مع الحفاظ على لبنان كبلد قائم على تعدّد الطوائف، فالمطلوب ليس إلغاء أيّ طائفة أو مذهب بل إلغاء الطائفية السياسية والمذهبية السياسية، حيث أنّ كلاهما يؤدّيان إلى حروب الطوائف والمذاهب وإلى استغلال الخارج لصراعات الداخل.
ونجد، بعد 47 سنة على بدء الحرب اللبنانية في العام 1975 أنّ العامل الداخلي اللبناني ما زال غير محصّن بشكلٍ كافٍ، وهو مؤهَّل ليكون من جديد موضع استغلال خارجي. وإذا كان قرار "اللاسلم" في لبنان هو من مسؤولية الخارج الإقليمي والدولي، فإنّ "اللاحرب" – وهو الأمل اللبناني المنشود الآن- قرار يخضع فقط لمدى قدرة اللبنانيين على فكّ المزيج المركّب لأزماتهم المتكرّرة وجعل السلم الأهلي اللبناني مسألة غير خاضعة لا للنقاش ولا للمفاوضات أو التوظيف!
كان لبنان قبل الحرب الأهليّة في 13 نيسان/أبريل 1975، نموذجاً للعرب في ممارسة الحياة السياسيّة الدّيمقراطيّة، والتّعدّدية الحزبيّة، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحرّيات العامة بشكل عام. لكن بعد اشتعال الحرب الأهليّة في منتصف السبعينات في القرن الماضي، انكشفت مساوئ هذا "النّموذج اللّبناني" وما كان فيه من أمراض طائفيّة هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرّة بخطر الانتحار الّداخلي أو بالقتل المتعمّد من الخارج.
وهاهو لبنان الآن يعيش مزيجاً من فساد الداخل وتأثيرات التاريخ والجغرافيا على كيانه ونظامه، وعلى أمنه وإستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه وكيفية بناء نظامه الطائفي، كلها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تماماً كما هو أيضاً دور موقع لبنان الجغرافي حيث الخيار هو فقط بين محيطه العربي وبوابته السورية، وبين الوجود الإسرائيلي الذي سبّب أصلاً حدوث مشكلة مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين، كما هو أيضاً هذ الوجود مصدر الأخطار على أرض لبنان وعلى وحدة شعبه.
وإذا كان اللبنانيون لا يستطيعون تغيير دور الجغرافيا في تطورات أوضاع كيانهم الوطني، فإنّ بإمكانهم حتماً تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرة في طبيعة نظامهم الطائفي السياسي المتوارث جيلاً بعد جيل. وعندما يفعل اللبنانيون ذلك يصونون وطنهم من الوقوع في شرك الحروب الأهلية من جديد، وحيث تكون المواطنة السليمة هي أساس الانتماء للهُوية اللبنانية.
هناك الآن أسابيع معدودة تفصل عن موعد الانتخابات النيابية اللبنانية المقرّرة في الشهر القادم، هذه الانتخابات التي ستحصل وفق قانون انتخابي كان مساهماً في بناء لبنان "مزرعة الطوائف" لا لبنان الوطن الواحد، كما كانت نتائج القوانين الانتخابية السابقة منذ الاستقلال مسببة لانقسامات بين اللبنانيين على أساس مناطق وأقضية موزَّعة على طوائف ومذاهب و"عائلات سياسية" وهو ما مهّد المناخ السياسي والشعبي للحرب الأهلية التي استمرّت خمسة عشر عاماً.
لكن هناك بذور أمل نرجو أن تتحقق وأن تنمو وتكبر في السنوات القليلة القادمة؛ منها إعطاء اللبنانيين حقّ عدم ذكر الطائفة أو المذهب على "بطاقات الهوية"، ومنها أيضاً إقرار حقّ الانتخاب لسن 18 بدلاً من 21، فهذا يضيف دوراً هاماً لجيل الشباب اللبناني إذا جرت توعيته وتربيته بمضامين وطنية توحيدية متجاوزة لحكم العائلات المتوارثة وللفرز الطائفي والمناطقي.
ومن بذور الأمل أيضاً بمستقبل أفضل وجود شرائح سياسية وأكاديمية واجتماعية ناشطة الآن في معظم لبنان ترفض "لبنان الطائفي" و"حكم الوراثة السياسية" وتعمل من أجل لبنان الواحد الديمقراطي، الحريص على هويته العربية وعلى دوره المقاوم للعدوّ الإسرائيلي.
لكن العامل الأهمّ سيكون مقدار وعي الشّعب اللبناني عموماً، وجيل الشباب تحديداً، بالذي أمامه من احتمالات وخيارات، وبما عليه من مسؤوليّة ودور.
فجيل الشّباب في لبنان هو أداة أي صراع مسلّح أو تفجير أمني، وهو وقود أي أزمة كما هو طليعة أي حلّ.
الجيل اللّبناني الجديد قادر على صنع "نموذج لبناني" يقوم على الديمقراطيّة السليمة في الداخل وعلى التحرّر من أي هيمنة خارجيّة في ظلّ الحفاظ على "نموذج لبنان المقاوم" الّذي حرّر الوطن من الاحتلال الإسرائيلي.
لقد اقتسم الحاكمون بعد "اتفاق الطائف" الحكم ومنافعه، وحاول كلّ طرف أن يجعل من نفسه ممثلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية فاسدة معتقداً أنّ المشكلة هي في "الآخر"، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى إعادة البناء السياسي والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.
حبّذا لو أنّ الشباب اللبناني يتحرّك للمطالبة بحرّيته من زعامات سياسية طائفية موروثة، بعضها يورث أبناءه العمل السياسي وهو ما زال على قيد الحياة السياسية!.
ولو يتساءل الشباب اللبناني: تُرى لِمَ تمارس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال توريث معظم الحاكمين والمعارضين لأبنائهم وأقاربهم؟ ثمّ لِمَ تنتقل البندقية من كتف إلى كتف على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لكن لا يتغيّر عنده قانون التوريث السياسي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان مزرعة لا وطناً؟ ويحوّل الناس من شعب إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟!
أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟
اللبنانيون هم "يكونون كما يُولّى عليهم"، و"يُولّى عليهم كما يكونون".. فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في "العقلية اللبنانية" التي تتحدّث من جهة عن "عالمية لبنان"، وتتصرّف من جهةٍ أخرى بوحي من مصالح الحي والشارع و"الزاروب"!