شيء من التحليل النفسي.. اللغة والكلام
د. اسعد الإمارة
2022-02-24 06:50
حينما نتحدث عن التحليل النفسي لابد أن يكون الحديث مشوقا وذو شجون لأنه يداعب اعماق النفس الإنسانية، ويَقلب في بعض الاحيان مواجعها وذكرياتها وآلامها، وما خفي في السر والعلن، واستدعاء ذلك المخزون الذي يخلق لدى أي منا أن يعرف ما لا يريد أن يعرفه، أو تناساه، أو نَسيُه عمدًا أو غفلة، رحلة في الأعماق، فلم يكن مخطئًا من أطلق عليه علم نفس الأعماق، أنه حقًا عمق بمعنى الكلمة والمفهوم والدلالة، ويقول العلامة "مصطفى زيور" مؤسس التحليل النفسي العربي في ذلك لابد وأن تَحول غُمامة كثيفة دون البصر الصحيح في النفس لأنه يتضمن بصر النفس بنفسها.
نتساءل ويتساءل البعض ممن يريد الغوص في معرفة ما يدور داخل النفس ما هو السبيل لمعرفة جزء من هذا العالم الخفي العميق والمظلم أحيانًا، فهو جهاد مع النفس جهادًا عظيما، هذا الجهاد يحتاج إلى وسيلة، أو بلغة التخصص أداة للغور في كنه الداخل، فكانت الأداة هي اللغة والكلام والحديث.
والكلام هو وسيلة للتعبير عن الفكرة أو الموضوع أو الرأي، ويقول أحد الأدباء "ما لا يقال لا وجود له، وما لا يذكر لا يحيا"، رغم أن التحليل النفسي درس عمق الإنسان وَعد التفكير هو سلوك فرضي، وإن الحلم هو مفتاح لما أستغلق من ما موجود في أعماق الإنسان، وإن اللاشعور "اللاوعي" هو مخزن الأسرار ومكنون الثروة اللغوية غير المحكية، وقول المحلل النفسي المصري الشهير "مصطفى صفوان" في مقدمة ترجمته لكتاب تفسير الاحلام لسيجموند فرويد أن الحلم كلمة وأنه يفترض لغة على حسب التفرقة التي أذاعها "فردينان دي سوسير" في مطلع القرن العشرين، وقوله "مصطفى صفوان" ايضا فاللغة نظام إجتماعي، وأما الكلام فهو الفعل الذاتي الذي يطوع هذا النظام لقاصده وإن خضع له.
اذا الكلام هو ما سنتناوله في هذه الصفحات ليعبر الفرد عما يدور بداخله وهو الأداة التي تقودنا إلى الأعماق وقول العلامة "مصطفى صفوان المحلل النفسي" إن أي علم أو خبرة لا يُعرف إلا بموضوعه، والكلام ما هو إلا واسطة التعبير عن الموضوع وهذا ينطبق على التحليل لأن له موضوعًا.
إن العَلاقة بين التحليل النفسي واللغة لم تتأسس أيام فرويد ولكنها كانت موجودة في جلسات التداعي الحر "الطليق" وكذلك في العلاقة الطرحية بين المحلل وطالب المشورة في التحليل "المُحلل". هي لغة واللغة تعبر عن ما يدور قائلها، كما الموسيقى لها لغة تصل إلى أذهان المستمعين بإنسابية عالية حينما يتقبلها، وكذلك الدرس في التعليم بمختلف مراحله من الابتدائية حتى الثانوية والمرحلة الجامعية، أو جلسات الحلقات الدراسية "السيمنار" أو جلسات الشعر والأدب واللقاءات الإجتماعية وحتى الشعبية منها، فقول الفيلسوف "سقراط" تكلم حتى أراك، وهو يبين أهمية الكلمة وقوتها وما يختفي خلفها ومعرفة بما يدور في ذهن المتحدث. ويرى أطباء النفس والتحليل النفسي أن المريض يلعب بالكلمات مثلما يفعل الشاعر.
تأخذ فكرة اللغة عند "جاك لاكان" أبعادًا عميقة جدًا وتفسيرات متعددة سنتناولها بموضوع خاص موسع لأنه واضع اسس هذا الاتجاه المعمق في التحليل النفسي والذي عُد بحق مجدد فكر سيجموند فرويد في نظريات التحليل النفسي وقوله: إن العرض القابل للتحليل تحليلا نفسيًا تدعمه بنية متقمصة "متماهية" متعينة تعيينًا ذاتيا" لبنية اللغة.
اذن هو خطاب لطرفين، متحدث ومتلقي. ولا نغالي اذا قلنا أن التحليل النفسي هو تحليل خطاب ويسعفنا المحلل النفسي المصري "مصطفى صفوان قوله: أنا كنت أحد معاصري هذا القول الذي يرجع إلى العام 1951، في الواقع إن أي علم أو خبرة لا يعرف إلا بموضوعه، والكلام ما هو إلا وساطة التعبير عن الموضوع، هذا ينطبق على التحليل النفسي لأن له موضوعًا.
من يقرأ أو يطلع على التحليل النفسي يجد فيه الكثير من وسائل معرفة النفس ومكنوناتها أولها منظومته النفسية وهي "الانا والانا الاعلى والهو" وكيف يحدث الصراع بين أطراف هذه المنظومة بقوة تأثيرها على الإنسان في سلوكه وتعامله وطريقة حديثه وتكوين شخصيته وتشكلها عبر مراحل حياته من الولادة إلى النشأة الأولى ثم إلى البلوغ، فضلا عن قوة اللبيدو وهو موضوع علم التحليل النفسي وقول "مصطفى صفوان" هي عبارة عن طاقة تُعين الرغبة وهي عملية ذاتية يعبر عنها بالكلام.
وقوله أيضا من هنا تظهر الغرابة، إذ وجدنا أن التحليل النفسي هو تحليل الخطاب وفي الوقت عينه هو علم لأن العلم هنا موضوعه هو الرغبة، والرغبة مرتبطة بالكلام، لكن هذا الكلام أخذ وقته لكي يظهر بالشكل الذي عرفناه ويقول "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي وواضع كل نظرياته بنفسه واكتشفها من مرضاه والأسوياء والامر سيان، وقدرته على الجدل العميق مع نفسه أولا ثم مع من عالجهم قوله: عرف الإنسان بلغة رغبته.. هنا يكون الرابط الاساس وهو للرغبة لغة إذن.
يرى ممن تخصص في التحليل النفسي بمدياته المتعددة والواسعة عبر الفلسفة والعلم والفنون بمختلف انواعها يؤمن أن الحقيقة تتوارى عن اللغة، وإن الكلمة المفردة تستتبع متوالية من الحالات على كلمات نظام الترميز الأخرى من خلال المترادفات والأضداد دون ان نصل إلى شيء غير الطوطولوجيا "ومعناها قول أو تعريف الشيء نفسه". وكذلك المجتمع الذي تجمعه لغة مشتركة وعادات مشتركة وممارسات يومية مشتركة وتقاليد موروثة فضلا عن الثقافة المشتركة، وهذه الثقافة والعادات والممارسات والشعائر لا قيمة لها بلا لغة حوار، فلذا كل ثقافة تحمل تراثها وإن اللغة هي المحتوى الجامع لهذه الثقافة، وعندما نطلق على لغة شعب ما، أو أمة ما تسمية عاداتها، أو تقاليدها، أو شعائرها، إنما نطلق على نوع اللغة التي يتعامل بها أفراد هذا المجتمع، أو تلك الامة، أو هذا الشعب، فأحيانًا تجمع الشعوب الهندية لغة مشتركة مدعومة بالحركات الجسدية مع استخدام اللغة المنطوقة التي يتحدث بها الناس ويتفاهم بها هؤلاء البشر في هذه الرقعة الجغرافية من الكرة الأرضية.
فضلا عن طريقة التفكير الذي يبين مستوى اللغة في التعبير وإيصال الأفكار للمستمع مهما كان جنسه أو جنسيته أو بلده، فإذن اللغة هي الوسيلة الأولى لمعرفة الإنسان الفرد، والمجتمع والشعب والامم والاقوام والملل والنحل في الحاضر المعاش، أو الماضي السحيق أو الوسيط كما دون لنا التاريخ كل تلك المخطوطات أو الرسوم، أو الكتابات، ومن ثم الروايات والمسرحيات والكتب السماوية وغير السماوية بلغة شعوبها وما انزلت أو دونها فلاسفتها في مختلف أصقاع الكرة الأرضية.
ويذكر لنا "جيمس فرايزر" في كتابه الغصن الذهبي عن الاساطير والسحر والاسرار المقدسة وأفكار أسطورة "بالدر" الاسكندنافي ذلك الإله الجميل، أبن الإله الأكبر وهو الأحكم والارحم ومعشوق الآلهة الخالدين، هناك لغة تتداولها هذه الأقوام وتتحاور بقيم وتقاليد واعراف تعيشها وهي تشكل ثقافة ولغة ومن تلك التقاليد السائدة أنه في ذات يوم حَلمَ "بالدر" حلمًا ثقيلًا ينذر بموته، من هنا نستنتج أن للحلم لغة منذ عصور قديمة، واللغة هي المفتاح الذي يدلنا على التفاهم ليس لدى مرضى التحليل النفسي فحسب أو ممن يطلب المشورة، وإنما من الاسوياء أيضا، وهل يبرأ الاسوياء من التشبث بمعرفة كنه اللغة وعمقها في البحث عن ما يدور في النفس ولو على المستوى المتخيل غير المنطوق وغير المصرح به ولو لذواتنا فقط.