وطاعتنا نظاما للملة
مرتضى معاش
2022-01-30 06:27
(فَجَعَلَ اللهُ... وَالعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلقُلُوبِ، وَطاعَتَنَا نِظاماً لِلمِلَّةِ، وَإمامَتنَا أَماناً لِلفُرْقَةِ)
في المقالين السابقين تطرقنا لمفهوم الإمامة، وأن منهج الإسلام يقوم على القيادة الصالحة، فبها يتميز المنهج أما أن يكون منهجا صالحا أو غير صالح، وأرادت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تفرز بين المنهجين، وتؤكد على منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي يضمن العدل، والأمانة والاستقرار والقانون للأمة في الحاضر والمستقبل، لأن منهج الإمامة هو منهج القيادة الصالحة.
وفي هذا المقال سوف نناقش مفهوم الطاعة، من كلمات السيدة فاطمة السيدة الزهراء (عليه السلام): (فجعل الله العدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة)، وماذا قصدت بمفهوم الطاعة؟.
حتميات إلهية ثابتة
في كلماتها (عليها السلام) نجد هذه الثلاثية (العدل، النظام، الأمان)، التي تحقق كل التوازن والاحترام والاستقرار للمجتمعات لأنها منبثقة من النظام الإلهي القائم على قواعد وحتميات ثابتة، فمن يريد أن يعيش حياة صالحة، لابد أن يلتزم بالحتميات.
لو طرحنا السؤال التالي، من ماذا يشكو العالم اليوم؟ ألا يشكو من ثلاثية أخرى في المقابل؟ وهي (الظلم، الفوضى، القلق)، فمعظم الناس يعيشون اليوم في هذه الثلاثية المظلمة، حيث الظلم الصادر من قبل الحكام والقادة الانتهازيين والفاسدين، وهناك فوضى تجتاح العالم، بسبب وجود المناهج غير الصالحة التي تنتج المساوئ وتنشر الفساد والاضطراب، كذلك هناك قلق وخوف من المستقبل المجهول بالنسبة للناس، في ظل الأزمات والصراعات الكثيرة التي تعصف بالعالم.
لذلك أكدت الزهراء (عليها السلام) على هذه الثلاثية، لكي تنبهنا إذا أردتم حياة مستقرة وصالحة، فلابد أن تلتزموا بهذه الثلاثية (العدل، النظام، الأمانة)، ومحور هذه الثلاثية يتمثل بوجود الطاعة للإمام المعصوم (عليه السلام)، فحين تتكلم الزهراء (عليها السلام) عن الطاعة، فهي تؤكد على ثلاثية أخرى تنبثق منها وهي (الالتزام، الانضباط، القانون)، فالطاعة تؤدي الى تحقق الالتزام وتحمل المسؤولية، والعمل الجاد مع القيادة.
معاني الطاعة
الطاعة كلمة تأتي بالأصل من مفردة طوع، انقاد بسلاسة وبلين، وذهب باختياره، أي تطوَّع بإرادته، وبادر بهذا العمل، لذلك فإن الطاعة في حقيقتها هي منبثقة من اختيار الإنسان وإرادته عندما يتبع من يطيع، أما إذا كان مكرها على الطاعة فلا يسمى ذلك طاعة الا اذا كان مجازا.
هناك بعض المعاني التي يمكن فهمها من جملة (وطاعتنا نظاما للملة):
الطاعة منبثقة من العقل
أولا: الطاعة لله سبحانه وتعالى وللرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) وللائمة المعصومين (عليهم السلام) منبثقة من العقل الذي يدرك وجوب الانقياد لذلك، واتباع القائد والدليل الصالح، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) النساء 59، وأطيعوا تعني إرشاد للعقل بوجوب الطاعة لان الله تعالى خالقنا وطاعة المنعم واجبة، وكذلك طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليها السلام) لأن العقل يوجب اتباع وطاعة القائد الصالح.
لنفترض أنك مشيت في طريق تجهله ولا تعرف عنه أي شيء، وهناك طريق آخر تعرف عنه كل شيء من خلال وجود الدليل، فماذا يقول لك العقل؟، يقول لك اذهب مع الدليل الذي يستطيع أن يصل بك إلى هدفك، أو مبتغاك، ولا يصح أن تذهب مع الذي لا يعرف الطريق الصحيح، أما إذا ذهبت مع من لا يعرف الطريق، فإن الناس سوف يقولون لك بأنك قمت بعمل خاطئ ومذموم لا ينمّ عن عقل ولا ذكاء، لأن العاقل يذهب مع الدليل الصحيح.
لنتصوّر أنكَ أُصبت بمرض ما، فهل ستذهب لمراجعة الطبيب أم إلى غيره؟، العقل سيقول لك اذهب إلى الطبيب المتخصص، ولا تذهب إلى الحداد أو النجار إذا مرضت!، كذلك فإن العقل يقول يجب طاعة الأئمة (عليهم السلام)، وذكرنا في حديث سابق للإمام محمد الباقر (عليه السلام)، أن الإنسان الذي يحتاج إلى دليل في الأرض، ألا يحتاج دليلا في السماء.
الترابط بين العقل والطاعة
يقول الإمام علي (عليه السلام): (على قدر العقل تكون الطاعة)، بمعنى كلما كان عقل الإنسان بمستوى وميزان أعلى سيعرف الإنسان معنى الطاعة.
وعن الامام الكاظم (عليه السلام): (يا هشام نصب الخلق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل..). فالطاعة والانقياد بالعقل، ولا تصح طاعة الإنسان العمياء، لأن طاعته جاءت عن جهل، ولابد أن تكون الطاعة نابعة من العلم، والعلم بالتعلّم، والتعلّم بالعقل، وهكذا عُدنا إلى العقل لأنه أساس الطاعة.
توجد لدينا آيات قرآنية فيها إثبات لولاية أهل البيت (عليهم السلام) منها: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) المائدة 55، وكذلك توجد أحاديث ونصوص موجودة في المصادر المعتبرة، فعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، بالإضافة الى الكثير من الروايات الأخرى.
الاستدلال على القائد الصالح
أما كيف نستدل على القائد الصالح من عامة الناس، فإن العقل هو الذي يقوم بهذه المهمة، والعقل هو البوصلة التي يستدل فيها الإنسان على الكثير من القرارات التي يتخذها في حياتها، والمسارات التي يتبعها، هنالك ناس يتبعون القادة من أجل مصالحهم الشخصية، أو تعصبا منهم لهؤلاء القادة، والعقل يرفض هذا النوع من اختيار القائد، لأن طاعة القائد لابد أن تكون نابعة من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) ولا يقود اختياره إلى معصية الله تعالى، وهذا هو المقياس القاطع في انتخاب القيادة.
فإذا قمتُ باتباع هذا الشخص الذي يعتبر نفسه زعيما وقائدا، هل هذا القائد حاصل على رضا من الله سبحانه وتعالى؟ فعن الامام علي (عليه السلام): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق... فلا طاعة في معصيته، ولا طاعة لمن عصى الله، إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الامر، وإنما أمر الله عز وجل بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهر لا يأمر بمعصية الله، وإنما أمر بطاعة اولي الامر لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصيته)، فإذا كان الإنسان مخلصا مع نفسه، فإنه يعرف أن هذا القائد هل سيقوده إلى المعصية أم إلى طاعة الله سبحانه وتعالى؟
الميزان التشريعي والتوازن الكوني
إن النظام الذي نمارسه في حياتنا هو منبثق من النظام الكوني، فالميزان التشريعي العادل في حياتنا العملية نابع من التوازن الكوني، لذلك فإن هناك سنن وقواعد يجب أن نعمل بها، وهذا هو معنى الملة في (طاعتنا نظاما للملة)، فأهل البيت (عليهم السلام) يطبقون المنهج الكوني الصحيح في الحياة.
الملّة تعني الشريعة العامة، وأي قانون يتم تشريعه لابد أن يكون منبثقا من القانون الكوني ولا يكون مخالفا له، فالشريعة الصالحة والقانون الحقيقي الذي يُطُبَّق في حياة الناس ومجتمعاتها، هو الذي يحقق النظام والتوازن والعدل و(طاعتنا) يحقق التطبيق السليم للشريعة الصالحة.
الطاعة اختيارية
ثانيا: إن الطاعة اختيارية وغير قسرية، فالهدف من الطاعة هو بناء حرية الإنسان، وإرادته، لأن الاختيار يؤدي الى تكامل الانسان في منهج مستمر لتنميتهِ وتطوير شخصيته الاجتماعية.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله لا يُطاعُ جبرا)، وفي الآية القرآنية (لا إكراه في الدين)، فالطاعة هي عملية اختيارية تضمن عملية التفاعل النفسي والفكري للوصول الى وعي ناضج بالمنهج، وسلوك نابع من اقتناع في عملية الانقياد.
الطاعة عقد بين طرفين
ثالثا: إن الطاعة تعاقد وعقد فيها طرفان وهما، الإمام المعصوم، والإنسان المكلَّف، فالإنسان عليه واجبات وله حقوق، وهنا تكمن أهمية هذا العقد الذي يعدّ من أفضل العقود التي تحقق عملية بناء المجتمع، وضمان السلم الاجتماعي والتفاعل النفسي، وبناء التوافق والتعايش والالفة.
وعن الامام علي (عليه السلام): أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا، وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ).
الكرامة والمواطنة
رابعا: إن الطاعة للمعصومين تحقق الكرامة والاحترام والعزة، يقول الإمام الكاظم (عليه السلام): (وطاعة ولاة العدل تمام العزّة)، وهدف الطاعة هنا هو تحقيق العزّة والرفعة للناس، لكي يشعروا بكرامتهم ولا يشعروا بأنهم أذلّاء، لأن الحاكم الظالم يذل الناس، أما الحاكم الجيد، فيرتقي بالناس، فيشعر كل فرد بوجوده ويدرك حقيقته.
وهذه هي المواطنة الحقيقية الموجودة في دولة الحقوق والإمام المعصوم، حيث يشعر الإنسان بإنسانيته ويقتنع بأنه مرفّه ومنعَّم ويرى العدالة والأمان والنظام، وليس كما يحدث في ظل المواطنة الشكلية.
وعن الامام علي (عليه السلام): وَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ ويَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ).
الطاعة نظام والنظام طاعة
خامسا: النظام ينبثق من السنن الكونية وهذه بدورها تبيّن لنا التوزان الذي نحتاجه في عملية بناء الاستقرار الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، أي الاستقرار الذي نحتاجه بشكل عام، وأي خلل في هذا النظام سوف يختل الميزان ويؤدي إلى الفوضى والانحراف.
وعن الامام علي (عليه السلام): (عقل المرء نظامه)، (حسن العدل نظام البرية).
وقد شاهدنا الكثير من النماذج التي تحدث بسبب اختلال الموازين وعدم اتباع السنن الحقيقية في الحياة، مثل التفاوت الطبقي، فهناك أغنياء جدا، وبالمقابل هناك فقراء جدا، وهذا يدل على وعدم جود التوازن في المجتمع، وعدم التوازن يؤدي إلى اختلالات خطيرة ومجاعات وفقر وحروب وإلى موت كثير من الناس بسبب الأمراض الكثيرة الناشئة من سوء المعيشة.
واذا اردت ان تنشأ بناء متينا فهناك قواعد هندسية يجب العمل وفقها، وإذا لم يكن البناء قائما على أسس وقواعد صحيحة، سوف يكون مهزوزا، وهشا ومعرّضا للانهيار، كذلك إذا أردتَ أن تبني مجتمعك فإن ذلك يعتمد على وجود السنن الصالحة للبناء الاجتماعي. المشكلة الأساسية التي نعاني منها أن مجتمعاتنا تُبنى على قواعد مهزوزة وغير صالحة.
وعن الامام علي (عليه السلام): (السنن الصالحة هي السبيل إلى طاعة الله).
فالقواعد البنائية الصالحة تجعلنا منسجمين مع النظام الإلهي مثل الصدق الذي يؤدي الى بناء الثقة بين الناس فيكون المجتمع ناجحا يسير في طريق الاستقرار والاحترام والامانة الذي يسود بين جميع الناس، وفي الخلاصة يؤدي إلى الأمان، أما الكذب فيؤدي إلى تدمير الثقة واهتزاز المجتمع، وتفشي الخيانة والنفاق والسرقة.
وتطبيق السنن الصالحة وبناء القواعد الصحيحة للوصول الى طاعة الله تعالى يكون بطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وبطاعة أهل البيت (عليهم السلام).
الطاعة التزام بالقانون
سادسا: الملة هي شريعة الإسلام وقانونه، والطاعة تعني الالتزام القلبي والعملي عبر الوعي والايمان واليقين، والا فان الطاعة الشكلية واللفظية ليست التزام. ففي هذه الكلمات ثلاثية (الالتزام، النظام، القانون) تحقيق للتوازن والصلاح والاصلاح الاجتماعي العام.
فاتباع شريعة الإسلام التي تعد مضامين عظيمة، تحتاج إلى التزام عملي وسلوكي بهذه الشريعة من خلال الوعي والإيمان.
ان الشريعة ليست بمعنى القانون وانما اعم من القضايا الشخصية والعامة رغم التشابه بينهما من حيث الهدف، فالشريعة والقانون كلاهما يحمي حقوق الناس ويمنع الأضرار التي قد تلحق بهم، من خلال وضع قواعد للتعامل بين الناس، هذا القانون لا يمكن أن تفرضه بالقوة، فهو يحتاج إلى وعي وإيمان والتزام عميق من قبل الإنسان، التزام قلبي وعقلي ووعي بغاياته، وهذا هو الذي يحققه الإمام المعصوم (عليه السلام)، (طاعتنا نظاما للملّة).
تطبيق القانون بعيدا عن الخوف
المهم هو التطبيق الحقيقي للقانون بوعي وفهم وليس خوفا منه، لأن الناس يخافون من أجهزة الامن والشرطة، أما تطبيق القانون في منهج أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فهو يقوم على الطاعة الحقيقية والانسجام العميق مع منهج أهل البيت (عليهم السلام). لذلك ثلاثية الالتزام، النظام، القانون، هي التي تحقق التوازن والصلاح والإصلاح الاجتماعي العام، وعكس ذلك سوف يؤدي إلى الفساد.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (الإمامة نظام الأمة)، ويقول الإمام الرضا (عليه السلام): (إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (لقد راموا صعبا، وقالوا إفكا وضلوا ضلالا بعيدا، ووقعوا في الحيرة إذا تركوا الامام عن بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين)، أي أنهم اختاروا طريق الضلال والانحراف، فقادهم هذا الاختيار إلى نفق مظلم وطريق مسدود، ونتيجته الانحراف والفوضى وغياب الامن والأمان.
الأمان من الفتن
إن القيادة الصالحة هي التي توصل المجتمع إلى بر الأمان، وتمنحهم الانسجام والتعاون والتآلف فيما بينهم. لكن القيادات المزعومة هي مبعث للصراعات والفتن والمشكلات، وبعضهم يتعمدون إثارة النزاعات والصراعات من باب فرّق تسد، لكي يسيطر ويهيمن على الناس، ليمارس فساده وظلمه واستبداده، لذلك تقول السيدة الزهراء (عليها السلام): (إمامتنا أمان من الفرقة)، وأهم ما يحتاجه الإنسان هو الأمان، وهو جوهر رئيسي لحياة الإنسان، فحين ينام ليلا ويضع رأسه على الوسادة يريد أن يشعر بالأمان ويفارق القلق الذي يتآكله.
والأنواع المتعددة للأمان مثل الأمن النفسي، والأمن الاقتصادي والامن الاجتماعي وعدم القلق والخوف وعدم الشعور بالشك، كل هذا مبعثه الصرعات والفتن الموجودة، لكن إذا اتبع الناس إمامة أهل البيت (عليهم السلام) سوف يشعرون بالأمان، لأنها قيادة وحدوية تؤدي إلى اجتماع الناس وتعاضدهم وتعاونهم على مبادئ وأهداف ومصالح مشتركة فيما بينهم.
وهناك ثلاثية أخرى تؤدي إلى تحقيق الأمن والتماسك والانسجام والوحدة، وهي ثلاثية (القيادة، الأمان، الوحدة)، فالقيادة تؤدي إلى الأمان، والأمان يؤدي إلى الوحدة والانسجام، لأن الشعور بالظلم والحيف هو الذي يؤدي بالمجتمع للانقسام إلى جبهات متعددة، حيث ليس هناك في البنية الاجتماعية من يثق بالآخر.
يقول القرآن الكريم عن الفاسدين: (وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ) القصص 41. لأن هؤلاء الذين يقودون الناس إلى الفساد والتفكك والحروب، يقودون الناس إلى الجحيم، أي للانحراف، والابتعاد عن الانسانية والأخلاق وإلى توحش البشر، والى الصراعات المدمّرة للبشرية.
وعدم وجود انسجام بين البشر هو بسبب عدم وجود منهج صحيح وقائد صحيح يستطيع أن يقود الناس لتحقيق ذلك الانسجام، ويجمعهم في قاسم مشترك، وهنالك أمثلة تاريخية كثيرة عن ذلك.
تقول الزهراء (عليها السلام) في خطبتها: (ابتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الفِتْنَةِ، أَلا في الفِتنَةِ سَقَطُوا)، هم يدّعون بأنهم يريدون الإصلاح، ألا إنهم هم المفسدون، ولكنه هم الذين أوقعوا الناس في الفتنة والضلال لأنهم ابتعدوا عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) ومنهج الإمامة. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ)، البقرة 11-12.
الامامة أمان وسلام
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَالسَّلَامَ أَمَاناً مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْأَمَانَةَ نِظَاماً لِلْأُمَّةِ وَالطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلْإِمَامَةِ)، هذه هي المنهجية الواضحة، فالناس يريدون السلام وهو الأمن من الخوف، يريد الإنسان أن ينام الليل بلا خوف، ويشعر بأن غده مؤمَّن ومضمون، وليس هناك مشكلات، (والأمانة نظاما للأمة) تعني الثقة وعدم الخيانة، وهذا النظام يحمي الأمة، (والطاعة تعظيما للإمامة)، بمعنى كل ما نبحث عنه اليوم موجود في منهج أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
لذلك فإن هذه الكلمات العظيمة التي قالتها السيدة فاطمة الزهراء (عليه السلام)، يجب أن نفهمها ونطبقها إذا أردنا أن نصنع المجتمع العادل والمنصف الذي يسعى لتأمين حياة أجياله المقبلة، لذا لابد أن نذهب وراء المنهج الصحيح، ولا يُعقل بأن الإنسان العاقل يذهب وراء الفساد والفاسد والمفاسد، أو وراء السلوكيات الفاسدة والمنحرفة بحجة أنها حرية شخصية للإنسان.
أغلب القوانين التي يتم تشريعها في الأنظمة المنحرفة هي لخدمة الحكام، ولخدمة الدول العميقة كما يُقال، ولكن هؤلاء الأشخاص والكتل والفئات الحاكمة والنخب المتحكمة التي تمثل مصالحها الفئوية الضيقة، يضعون القوانين بحسب الفائدة التي يبتغونها حتى تضمن سيطرتهم على الناس، وهذه فتنة مع أنهم يقولون بأنهم يشرعون القانون حتى لا تحدث الفتن، لكن في الحقيقة هم الذين يصنعونها.
لذلك لابد من العودة إلى منهج أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ونحن نؤكد على كلمات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، من أجل بناء الطاعة الحقيقية لمنهج صالح سعيد للبشرية.