الهوية واركان النهضة

د. عبد الحسين شعبان

2021-12-08 11:01

إن دراستنا لمسألة الهويّة والمواطنة ومقاربتها الفكرية مع المنظومة الحقوقية الدولية، من موقع البدائل الملتبسة الدينية والطائفية والوحدات التذرّرية التفتيتية، سواءً في العديد من البلدان العربية، وتعثّر مشروع الدولة الحداثية التي كانت واعدة وتتقدم بالتدريج والتراكم وإنْ كانت ببطء أحياناً، على أساس مقدّمات للاعتراف بالمواطنة وتوسيعها وبتأكيد مبدأ المساواة، يوصلنا إلى عدد من الخلاصات والاستنتاجات في ضوء المشروع النهضوي العربي بأركانه الستة: التحرّر السياسي والتنميّة المستقلّة والعدالة الإجتماعية والديمقراطية والوحدة العربية والإنبعاث الحضاري، وأهم تلك الخلاصات والإستنتاجات هي:

أولها – عدم الانفصال بين الخصوصية والشمولية، والمحلية والعالمية، فالخصوصية ليست معزولة عن الشمولية والعالمية، وبقدر ما هي واقع ومعطى، فلا بدّ من ملاحظة درجة اشتباكها وترابطها وتفاعلها وتداخلها مع العالمية، وبهذا المعنى بقدر ما تكون للهوّية خصوصية، فهي في الوقت نفسه تكتسب الصفة الجامعة، ذات الأبعاد الإنسانية بغض النظر عن حجمها أو عددها، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي، فاحترام فردانية الفرد وهوّيته جزء من احترام حقه كإنسان في أن تكون له خصوصياته، دون أن يعني انعزاله عن الهوّيات الأخرى.

لقد عبّر ديكارت عن خصوصيته عندما قال: أنا أفكر فأنا موجود، موطّراً علاقة الآنا بالوجود الحقيقي ولا تكتمل هوّية الأنا، إلاّ بهوّية الآخر. ولذلك فإن الخصوصية بقدر اعتزازها بتميّزها، فإنها في الوقت نفسه تتلاقى وتتلاقح مع العالمية، وتصبح عنصر تواصل وتفاعل وليس عنصر تفريق وتباعد، وخصوصاً بالمشترك الإنساني.

وبالطبع فإن الإحساس والشعور بالتمييز لدى فئات معينة أضعف إلى حدود غير قليلة من مبادئ المواطنة، ولا سيّما المساواة والمشاركة، الأساسان اللذان لا غنى عنهما في الدولة العصرية، خصوصاً إذا ما اقترنتا بالحرّية والعدالة كشرطين لازمين للمواطنة السليمة والمتوازنة، وعكس ذلك فإن أي حديث عن المواطنة سيبقى ناقصاً أو مبتوراً أو مشوّهاً، إذا ما جرى إضعاف أحد مبادئها الأساسية أو الإخلال بمعادلتها الضرورية للتطوّر والنمو والازدهار وللتعبير عن الهويّة، سواءً بمعناها الجامع الذي تلتقي عنده الهوّيات المتعدّدة، في مجتمع متعدّد الثقافات أو بمعناها الفرعي الخاص، الذي يتم التعبير عنه من جانب مجموعة من السكان على أساس ديني أو إثني أو لغوي أو غير ذلك.

وثانيها – إن تحقيق المواطنة المتساوية دستورياً يساهم في تعزيز الاعتراف بالهوّيات دون تمييز بسبب حجمها أو عددها أو لغتها أو لأي اعتبار آخر، ذلك إن الإقرار بوجود هوّيات فرعية يعزّز من الوحدة الوطنية، والهويّة المشتركة الجامعة التي تمثّل عدداً من الهوّيات الفرعية، لا سيّما إذا كانت حقوقها متساوية، وبأخذ الخصائص المشتركة التي يتكوّن منها المنتظم الاجتماعي لمجتمع ما، مع الاعتراف بالهوّيات الفرعية وحقّها في النمو والتطوّر والتعبير عن نفسها بالشكل الذي تريده، وبقدر ما يتم احترام الهوّيات بعضها لبعض ويتم تقنين الحقوق دستورياً وقانونياً، فإن المواطنة المتساوية تجد طريقها للتعايش المجتمعي والتفاعل والتطور بما يعزز الهوّيات المشتركة والمتساوية.

وثالثها – كلّما تحقّقت المواطنة المتساوية حدث نوع من التصالح بين الدولة والمواطن وبين الدولة والهوّيات المختلفة، ذلك إن هذه المفاهيم المفترضة للمواطنة أو للتعبير عن الهويّة، كانت غائبة أو مغيّبة أو محدودة التأثير في البلدان النامية بشكل عام ومنها بلداننا العربية بشكل خاص، حيث تزداد الفجوة بينها وبين الدول المتقدّمة التي يتصالح فيها المواطن مع الدولة، وتجد المجاميع والهوّيات الفرعية طريقها لتأكيد خصوصيتها والاعتراف بها، في حين أن المواطن في تعارض مع الدولة عندنا، وهذه الأخيرة في عداء في أحيان كثيرة مع المواطن، مثلما مع المجاميع الثقافية ذات الخصوصية القومية والدينية واللغوية وغيرها.

صحيح أن الكثير من البلدان المتقدّمة لا تزال تعاني من اختلافات وتجاذبات بين الهوّيات وتطمح بعض الهوّيات الفرعية التعبير عن نفسها بشكل أكثر مساواة وخصوصية، لكن مثل هذه الاختلافات يتم اللجوء إلى حلّها سلمياً وبالتفاهم في غالب الأحيان، مع وجود استثناءات، خصوصاً باللجوء إلى استخدام القوة أو العنف، في حين إن معالجة مسألة الاختلاف في الهوّيات عندنا كان مختلفاً، حيث كانت القاعدة هي اللجوء إلى القوة والعنف والإقصاء وممارسة سياسات متعصّبة ومتطرّفة وفيها الكثير من الغلو ضد الهوّيات "الأضعف"، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة معادلة علاقة الهويّة الفرعية بالدولة، لا سيّما من جانب الأخيرة، وعلاقة الدولة بالمواطن، على أساس مبادئ المساواة والمواطنة، بهدف تحقيق السلام المجتمعي.

ورابعها – أن هناك كوابح خارجية وداخلية وقفت أمام الاستمرار في طريق الحداثة، وظلّت قوى داخلية وخارجية تشدّ المجتمعات العربية إلى طريق القدامة، تحت عناوين مختلفة سواءً، أصولية دينية، أو تعصب طائفي، أو تطرف قومي استعلائي وغير ذلك.

وإذا كان هناك أسباباً موضوعية بحكم الهيمنة الاستعمارية الطويلة الأمد، فإن هناك أسباباً داخلية وذاتية أيضاً، لا سيّما وأن قسماً كبيراً منها يعيش في مرحلة ما قبل الدولة ويعاني من صراعات عرقية ودينية ولغوية وطائفية وعشائرية وغيرها، بل إن عودة إلى الخلف قد بدأت لمرحلة ما قبل الدولة، وذلك بعد التغييرات التي حصلت في بعض البلدان العربية مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا وعلى نحو أقل في بلدان أخرى، خصوصاً وأن العنف والفوضى والإرهاب أخذت طريقها إلى المجاميع والحشود السكانية التي تمترست في ظل غياب هيبة الدولة وانهيار بعض أجهزتها ومؤسساتها، سواء الجيش أو الأجهزة الأمنية أو الإدارية، وتراجع دور المجتمع المدني ومؤسساته ذات التوجّه الحداثي.

وبدلاً من المضي مرحلة أكثر تطوّراً وهو ما عملت من أجله قوى وتيارات سياسية مختلفة بهدف الانتقال والتحوّل الديمقراطي، فإذا بالتغيير يقود إلى قطع خط التطور التدريجي، لننتقل من مرحلة الدولة التي كنّا عند عتباتها، إلى مرحلة ما قبل الدولة التي تفصلها هوّة سحيقة ومسافة شاسعة عن الدولة، وخصوصاً بمفهومها العصري الذي يقوم على حكم القانون والمساءلة والشفافية، ناهيكم عن فصل السلطات واستقلال القضاء وإجراء انتخابات دورية لاختبار الشعب لممثليه. وأصبح السلاح والتعويل على قوى مجتمعية متزمّتة وخارجية أحياناً، هو الفيصل في توازن القوى، خصوصاً بضعف قوى التنوير والطبقة الوسطى الحامل للتغيير.

وإذا كانت ثمّة اختلافات في تجارب وتوجّهات بلدان "العالم الثالث"، إلاّ أنها تجتمع في عدد من السمات والمشتركات العامة التي تعاني منها.

وخامسها – إن العولمة جعلت العالم كلّه قرية كونية، وخصوصاً في ظل تطور الثورة العلمية – التقنية التي حققت من المنجزات خلال ربع القرن الفائت ما فاقت به القرون الخمسة المنصرمة في تاريخ التطور البشري، ولذلك فالهويّة الخصوصية مهما حاولت الحفاظ على عذريتها وأحاطت نفسها بسور سميك، إلاّ أنها لا يمكن أن تعزل نفسها أو تحيط كيانّيتها بموانع عن الهوّيات الأخرى وتأثيراتها لأن هذه بحكم تكنولوجيا الإعلام أصبحت عابرة للحدود والدول والقارات وتدخل البيوت، بل غرف النوم دون استئذان.

لقد أحدثت العولمة انقلاباً كونياً خطيراً، لا سيّما وإن المعلومة ونظامها غيّرا إلى حدود غير قليلة من الأفكار ووسائل العمل، وخلقا نمطاً جديداً للحياة، ترك تأثيراته على نطاق الهويّة وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، إضافة إلى القيم الجديدة التي يمكن للبشر أن يأخذوا بها، فيما يتعلّق بالمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان. وإذا كان للعالم القديم هويّته ومركز استقطابه ويقينياته الراسخة، الدينية واللاهوتية والماورائية، فإن هوّية العالم الحديث امتازت بصعود نجم الانبعاث القومي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولا سيّما في أوروبا وفي مرحلة لاحقة في العالم العربي وبلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

أما القرن العشرين فقد امتاز بالصراع الآيديولوجي، خصوصاً بين الرأسمالية من جهة وبين الاشتراكية وحركة التحرر الوطني من جهة أخرى، وفي أواخره كان هناك انبعاث لمسألة الهوّيات، لا سيّما بانهيار النظام الشمولي في أوروبا الشرقية وانبعاث الهوّيات الفرعية بالتعبير عن نفسها، وهذا قاد أحياناً إلى احترابات وصراعات عنفية، حيث تحوّل الجدل بين بعضها البعض إلى عنف منفلت من عقاله في محاولة لفكّ ارتباط من جانب الهوّيات الفرعية بالهويّة العامة المشتركة، بسبب الكبت الطويل، وسعي الهوّيات المتسيّدة إلى إبقاء القديم على قدمه أو استعادة المواقع من جانبها، يضاف إلى ذلك شيء جديد هو إن الهويّة الجديدة التي أخذت بالتشكّل تأثرت بالعولمة والفضاء الإعلامي المفتوح ودور التكنولوجيا ، والعلم والطفرة الرقمية "الديجيتل"، بل أن العالم اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تتمثّل بالطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الإصطناعي واقتصاد المعرفة ومثل هذا العالم الجديد بدأت تجاذباته من خلال الوعي بالهويّة المجتمعية والثقافية والبحث عن مشتركات إنسانية للمواطنة.

وبقدر خصوصية الهوّيات وفرعيّتها فإنها لا تستطيع العيش بعزلة أو مثل جزر متباعدة، لأن العولمة فتحت الكثير من الأبواب المغلقة وقرّبت المسافات، حتى باتت الهوّيات متفاعلة ومتداخلة وتجمعها الكثير من المشتركات الإنسانية. ولهذا فإن العالمية والشمولية لا تعني التحلّل أو التملّص من الهويّة الخاصة، بزعم الهويّة الكونية الإنسانية، أو محاولة الهيمنة عليها أو تطويعها، لدرجة محو بعض ملامحها، بل على العكس من ذلك بتأكيدها ومراعاة خاصياتها واختلافاتها، انطلاقاً من الإقرار بالتنوّع الثقافي في مجتمع متعدد الثقافات.

وسادسها – إن الهويّة مفتوحة وليست نظاماً مغلقاً أو منغلقاً على نفسه مهما حاول ذلك، وإن تفاعل الهوّيات على المستوى العالمي حقيقة لا يمكن التملّص منها أو الزوغان عنها.

وإذا كنّا لا نستطع التعبير عن هويّتنا الخصوصية، فالأمر ليس بسبب الاستتباع فحسب، بل يعود إلى غياب المواطنة الحقيقية وعدم قدرتنا على دخول عالم الحداثة واللّحاق بالعالم المتقدّم الذي عرف واستثمر العلم والتكنولوجيا، بما فيه التطوّر الهائل في تكنولوجيا الإعلام ووسائل الاتصال والمواصلات.

وهكذا لم تعد الهويّة نظاماً مغلقاً من المعتقدات القومية والآيديولوجية والدينية، كما أنها لم تكن قبل كذلك، ولكن التطوّر الهائل الذي حصل في العالم جعل من مسألة تفاعل الهوّيات والتأثيرات المتبادلة أمرٌ قائم وحقيقة ملموسة، وخصوصاً في ظل العولمة وقوانينها. وإذا كان الوجه السلبي للعولمة قد أخذ بالتوحّش بفعل انهيار الكتلة الاشتراكية وهيمنة قطب واحد على السياسة الدولية، الذي عمّم وعولم كل شيء، من الإرهاب إلى السلعة، ومن وسائل العيش ونمط الحياة والاستهلاك إلى التكنولوجيا، إلاّ أن وجهاً آخراً إيجابياً كان من نتائجها، وهو ما تحتاج إليه هوّياتنا للتفاعل مع التقدّم الحضاري والتشبّث بالوجه الإيجابي للعولمة، ونعني به عولمة الثقافة وعولمة حقوق الإنسان وعولمة العلم والتكنولوجيا، حيث ليس بالإمكان حجب ذلك عن شعوب البلدان النامية التي ينبغي أن تقنص الفرصة للسير في طريق التقدم والتنمية.

الهويّة إذاً معطى مفتوح يتعزّز بالاعتراف بالحقوق والحريات وبمبدأ المساواة، بل إنه يتفاعل مع الآخر بالانفتاح وبالتأثر والتأثير الإيجابي، وفي فضاء إنساني طلق، تشكّل لحمته وسداه الإنسان وحقوقه والمشترك الجامع بين بني البشر، وتلك أهم سمة للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

وسابعها – إن اختلال معادلة الهويّة والمواطنة يكمن أساسه في غياب عدد من العناصر الأساسية، لا سيّما بانعدام الفرص المتكافئة، والحكم الرشيد وشيوع مظاهر الفساد المالي والإداري، ومحاولة التسيّد على الآخر وتوظيفه بالاستعلاء عليه أو الانتقاص منه أو تهميشه، وهذه كلّها أدّت إلى ضعف الشعور بالمواطنة، وساهمت في زيادة حدّة التناحر بين الهوّيات المختلفة، وخصوصاً في ظلّ ضعف التنمية بمعناها الشامل أو ما يسمّى بالتنمية المستدامة، وبسبب ذلك ازداد الإحساس بغياب العدالة والشعور بالتمييز بين المواطنين على المستوى الفردي والجماعي، ومثل هذا الأمر لم يكن بعيداً أيضاً، عن تفشي ظاهرة الأمية وشحّ فرص التعليم وضعف المعارف في مجتمعاتنا، الأمر الذي شجّع على التطرّف والعنف والإرهاب.

إن عدم الاعتراف بالهوّيات وغياب المواطنة المتساوية وفشل خطط التنمية وانعدام تكافؤ الفرص، دفع العقول والأدمغة المفكّرة إلى الهجرة بحثاً عن ظروف عمل أفضل، وفي ظل حرّيات أوفر، لا سيّما للبحث العلمي، الأمر الذي أضعف الشعور بالمواطنة، وزاد الأمر تعقيداً للهوّيات الفرعية التي لم يتم الاعتراف بها وبالتنوّع الثقافي فحسب، بل ارتفعت في أحيان كثيرة جوانب اللاّمساواة بزعم "وحدة" المجتمعات ورغبة من يدّعي تمثيله للأكثرية التسيّد على الآخرين، لأسباب قومية أو دينية أو لغوية أو آيديولوجية أو غير ذلك. وقاد ذلك إلى صراع ماراثوني بين الهوّيات ولا سيّما في العالم الثالث وهو صراع غالباً ما يتّسم بالعنف.

وثامنها – إن عدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي على قدم المساواة مع السائد من الهوّيات، قاد إلى بروز ظواهر العنف والإرهاب، خصوصاً في ظلّ كبت الحرّيات وعدم الاعتراف بحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل ووضع عقبات أمام تمكينها لتقوم بدورها المطلوب، باعتبارها نصف المجتمع.

وقادت تلك الأوضاع ملايين البشر إلى الهجرة والنزوح، وليس غريباً أن يكون عدد النازحين من العالم العربي هم الأكثر على المستوى العالمي، وترتفع أعدادهم باستمرار، سواء قبل انتفاضات ما أطلق عليه "الربيع العربي" الذي سبّب خيبات بعد أن كان المعوّل عليه إنجاز تغييرات جذرية، أو بعده، وبالطبع فإن غياب مبادئ المساواة والعدالة وعدم الإقرار بالهوّيات الفرعية والكرامة الإنسانية، كانت أسباب مباشرة إلى ذلك، خصوصاً في ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متردية.

وتاسعها – إن معالجة بعض ظواهر الصراع والنزاع بين الهوّيات، وتحويله إلى جدل مثمر ونافع بحيث يتمّ التفاعل والتلاقح بينها بما يؤدي إلى تعزيز كل منها، يحتاج إلى تعاون شامل وتكامل دولي وحلول محلية داخلية وإقليمية ودولية، تتجاوز الحدود الإثنية والدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، إذْ لا يمكن مواجهة هذه المشاكل كما إنه ليس بإمكان أي مجتمع لوحده إيجاد الحلول المنشودة لهذه الظواهر المعقّدة والمتشابكة والعابرة للقارات، خصوصاً قضايا الفقر واللاجئين والإرهاب واستثمار الثروات والموارد الاقتصادية، الأمر الذي يحتاج إلى تعاون دولي فعّال يأخذ بنظر الاعتبار المصالح المشتركة للشعوب.

وإذا كانت مشكلة التنوّع الثقافي قد جرى إقرارها في الغرب مع إن بعض ذيولها لا تزال قائمة أو نشأت ظروفاً جديدة تستوجب إعادة النظر بها، خصوصاً بعد الانبعاث العالمي لمسألة الهويّة، لكن حلول تلك المشاكل في الغرب كانت مختلفة عن الحلول التي عالجت فيها البلدان النامية مشاكل المجاميع الثقافية في مجتمعات متعدّدة الثقافات، لأن الأنظمة الديمقراطية في الغرب لا أعداء لها من الجيران، وهو الأمر الذي يتمّ الارتياب منه عربياً وإقليمياً، بل يشكّل هاجساً للعديد من البلدان العربية والإقليمية والعالم ثالثية ولا تخشى الدولة في الغرب من "الأقلية" القومية أو جماعة السكان الأصليين، في أن تتعاون أو تتواطأ مع عدو مجاور أو مُعتدٍ محتمل، حسب ويل كيميليكا، لأن ذلك لا وجود له.

أما عندنا فإن مجرد حدوث مشكلة بين بلدين عربيين، فإن الضحية الأولى ستكون السكان المدنيين الذين خارج دائرة الصراع، وسيعتبر بعضهم طابوراً خامساً يستحق الإجلاء، وأحياناً يتم ذلك بصورة جماعية ولا إنسانية وكأنه يُراد الانتقام منهم، حتى إذا افترضنا أن مواقف حكوماتهم سلبية أو عدائية، فما ذنبهم وهم ليسوا طرفاً في الصراع؟ ويعود السبب في ذلك إلى عقلية الارتياب الأمنية من جهة، وعدم الثقة بالنفس من جهة أخرى. وقد يكون غياب المواطنة المتساوية، سبباً في ذلك لدرجة أن فئات من السكان تشعر بالغبن والحيف، وهو الأمر الذي يولّد شعوراً لدى الحاكم باحتمال تعاونها مع الخارج، ضد بلدانها.

وإذا كان الغرب بشكل عام أوجد بعض الحلول لموضوع "الأقليات" بإعادة التعدّدية الثقافية إلى جذرها الداخلي، وقطع إلى حدود كبيرة خيط التدخل الخارجي فإن المشاكل التي لا تزال قائمة فيه، يجري الحوار عليها سلمياً وبالطرق السياسية والديمقراطية في الغالب، ولو تمكّنا من إقرار مواطنة متساوية وغير ناقصة أو مبتورة وفي إطار حق تقرير المصير للتنوّع الثقافي، لا سيّما القومي والديني، وطبقاً للخيار الديمقراطي، خصوصاً بالحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية ووضع حد لظاهرة الفقر والأمية، فإن مثل هذا التشظّي الذي خلّفته الأنظمة السلطوية الحاكمة ليس بمقدوره أن يترك أية هواجس أو مخاوف تحت زعم الولاء للخارج أو أية مزاعم أخرى.

.............................................................................................

* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد