أولانية دراسة الوضع البشري
د. زهير الخويلدي
2015-07-04 05:02
"إن إرادة التوصل إلى معرفة أكيدة ترتفع فوق الرأي الذاتي ليست كافية لوصف ما نفهمه بالمعرفة العلمية."1
جرت العادة أن يتم تناول الإنسان من زاوية الحد والرسم والتعريف والمفهوم والمقولة وأن يخوض الفكر في عملية البحث عن الجوهر والماهية والطبيعة وأن تكون النتيجة العثور على تعريف نهائي وبناء حد جامع مانع وإيجاد مفهوم موحد، وصار من بداهة الفكر الفلسفي أن يجتهد في وصف المكونات والعناصر والمرتكزات والأسس والخصائص والأبعاد والمميزات والكليات ويطرح الأسئلة الميتافيزيقية عن الأصل والمصير والغائية ويسقط من حسابه الاهتمام بالجزئيات والمظاهر والتفاصيل والتحولات والمنعطفات والتغيرات والقوى والدوافع والميكانيزمات ويتغافل عن طرح سؤال من؟Qui وعن الانتباه إلى المسارات والأحداث والصيرورات.
على هذا النحو ارتأت الفلسفة المعاصرة أن تقوم بتشريح الكائن البشري من جهة التَّعَرِّفِ على وضعه الأنطولوجي في العالم والتحقيق والتدقيق في منزلته الثقافية بالنسبة إلى الجماعة التاريخية التي ينتمي إليها وتقدير وضعيته المادية ومكانته السياسية والقانونية في المدينة وقدراته على الفعل التواصلي والترميز. لذلك ربما تثار الإشكالية المركزية لهذا الدرس من خلال الاستفهامات التالية: أي وضع يوجد فيه الكائن البشري الآن وهنا؟ بأي معنى يكون الوضع البشري واحدا ومتعددا في ذات الوقت؟ وهل هو وضع مستقر وملائم يسمح للكائن بالمصالحة مع ذاته وحسن تقديرها أم هو وضع مستعصي يحول دون لقاء الذات وارتقائها؟ وما العمل للرد على حالات الضياع والاغتراب والانبتات؟ وكيف السبيل لكي يستعيد للكائن ذاته ويوقع حضوره في وضعه المتعدد الأبعاد؟ لماذا يخفق الإنسان في أن يكون سعيدا؟ وهل الإنسان سجين وضعياتهم المادية ومحدود بشروط وجوده أم بإمكانه الإنعتاق والتأثير والتجاوز والتغيير وصناعة ماهو مختلف وجديد؟ كيف يضع الكائن شروط وجوده؟ هل بالقصص والحكاية والتشكيل وإعادة التشكيل والوساطة الرمزية أم بالالتزام والمسؤولية والمشاركة في الفعل؟ ولماذا كان الإنسان ولا يزال غير راض عن حاله بماهو كائن بيو- ثقافي؟
بادىء ذي بدء يميز الاشتقاق اللغوي بين الوضع position، الوضعية situation، المنزلةStatut، الشرط condition، والظرف circonstance والسياق contexe والمرجع reference، والإحداثية coordonée. في الحياة العادية يبدو لفظ الوضع غامضا ولكن استعماله في تعبيرات معينة يعطيه معنى مخصوص. لكن ما المقصود بالوضع البشري؟ وماذا تضيف الفلسفة إلى الوضع البشري؟
إذا كان المعنى العام لكلمة condition يشير إلى علاقة شرطية بين طرفين بحيث إن حضر الأول لزم عنه بالضرورة حضور الثاني فإن المعنى الواقعي يتضمن الدلالة على حضور أو غياب الظروف التي تلائم تشكل الأشياء وإنتاج الأفعال من قبل الأشخاص والجماعات وتحويل الطبائع والظواهر. علاوة على ذلك يشير معجم لالاند التقني والنقدي للفلسفة إلى المجال الذي يوضع فيه تعريفا وتثبت ضمنه دعوى أو أطروحة ويكون بمثابة شرطه الضروري والكافي. بيد أن ما يجب التوقف عنده هو التعامل مع مفهوم الوضع باعتباره في تعارض نسبي مع لفظ السبب cause وفي اختلاف مع الظاهرة أو الواقع fait وفي تقارب دلالي مع مفهوم وجهة النظر أو المنظورية point de vue وفي عناية تامة بطريقة في الوجود ـ نمط في الكينونةـ manière d’être وأسلوب في الحياة وإقامة في العالم بالنسبة إلى الأفراد أو المجموعات.2 من المعلوم أن عبارة "الوضع البشري" هي ترجمة للتعبير الفرنسي "La condition humaine" و لنظيره الإنجليزي "Human condition". و قد ظهرت هذه العبارة، أولاً، كعنوان لرواية كتبها الروائي الفرنسي أندريه مالرو ونُشرت سنة 1933، وحصل بها هذا الروائي على جائزة Goncourt التي هي من أكبر الجوائز الأدبية في فرنسا، وما تزال كذلك إلى يومنا هذا3.
ما يهمنا هو أنها كانت أول عمل أدبي معاصر يطرح عبارة "الوضع البشري" من خلال معاناة شخصيات الرواية في الصين وهي تعيش أوجاع الصراع والتحول نحو النظام الاشتراكي في بدايات القرن الماضي. والفكرة الرئيسية، إذا شئنا، التي تنتهي إليها الرواية هي قدرة الإنسان على الانتصار على قدره عبر الإصرار على اختياره الواعي في الحياة، حيث يرفض بطل الرواية الانتحار بواسطة السم داخل السجن، ويفضل الصمود ومواجهة التعذيب، وينتصر في النهاية، بينما انتحر سجناء آخرون تحت تأثير التعذيب. إلى هذا الحد لم يكن لدينا مفهوم فلسفي اسمه "الوضع البشري" حتى وإن كان كثير من الفلاسفة، منذ القديم، قد لامسوا بعض الجوانب المتعلقة بخصوصية الكائن الإنساني، أي بالوجود الإنساني، وبما يميز وجود الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى. ولربما كان أول عمل فلسفي رسخ "الوضع البشري" كمفهوم في الفلسفة المعاصرة هي حنة آرندت التي أصدرت كتابا هاما مع حصر مجال التفكير هذه المرة في الإنسان الحديث حمل عنوان "Condition de lhomme moderne" والذي يمكن أن نترجمه إلى "وضع الإنسان الحديث"4. في هذا الكتاب تميز حنة آرندت مفهوم "الوضع البشري" عما يسمى بـ"الطبيعة البشرية" أو "الطبيعة الإنسانية"، والذي ساد في الفلسفات القديمة وفي اللاهوت المسيحي وباقي الأدبيات الدينية في المعتقدات الأخرى، واستمر أيضا في الفلسفة الحديثة.
ربما يكون هذا التمييز، بين مفهوم "الطبيعة البشرية" و"الوضع البشري" الذي تُقيمه حنة أرندت، مهما للغاية لأنه أولا يقيم حدا فاصلا بين مجال الفلسفة ومجال الدين في فهم الإنسان، وفي فهم إنسانية الإنسان، أي في فهم الوجود الإنساني. فكل حديث عن "الطبيعة البشرية" في نظر حنة أرندت يدخل في نطاق الإيمان، أي في نطاق المنظور الديني. وبالتالي ف"الوضع البشري" ليس هو "الطبيعة البشرية"، إذ الأول ينتمي إلى مجال الفلسفة بينما الثانية تنتمي إلى مجال الدين.
هكذا يواجه الاهتمام بالوضع البشري عدة صعوبات من حيث المنهج والمضمون والغاية:
- من حيث المنهج: بما أن الإنسان كائن متعدد الأبعاد ويتصف بالمجهولية وخاصية التعقد فإن أي مقاربة وفق منهج واحد قد تؤدي إلى الوقوع في نظرة اختزالية تبسيطية وملامسة سطحية خارجية للشأن الإنساني وبالتالي يجدر بالباحث عن المعرفة الاعتماد على طريق متنوعة وتعددية في المناهج وتتداخل فيها المقاربات وتتعاكس زوايا النظر صد تصحيح وتقويم المحاصيل.
- من جهة المضمون: تحتوي الطبيعة البشرية على ظاهر وخفي وعلى مصرح به ومسكوت عنه وتوجد في الفضاء ويخترقها لزمان وتنقسم إلى فردي وجماعي، والى نفسي واجتماعي، وإلى رمزي ومادي. كما أن الإنسان يوجد قبل كل معرفة ينتجها حول نفسه أو مثلما يصرح كارل ياسبرس:" إن الإنسان حرية تند عن كل موضوعية". وبالتالي يصعب فهم ما تحتويه الذات البشرية من إمكانيات وتحولات وذلك لتعرضها للصيرورة التاريخية وخضوع المعرفة البشرية الى جدلية التذكر والنسيان ومنطق الهدم والبناء وهيمنة الشعور بالذنب واقتراف الشر على البناء النفسي وعدم الاتفاق بين النفس ونفسها والالتجاء إلى العنف للدفاع عن النفس والمحافظة على البقاء والوقوع في التموضع والاغتراب في النظام الاقتصادي.
- من جهة الغاية: الإنسان كائن عاقل ينتمي إلى نظام الغايات ويتميز بالكرامة والحرية وهو جدير بالتقدير والاحترام وذلك لحراسته للوجود واضطلاعه بالمسؤولية تجاه نفسه وغيره والعقل البشري هو عند كانط ملكة الغايات البشرية.
غير أن حضارة المصنع والتقنية أفقدت الإنسان كرامته وجعلته من نظام الوسائل وتعاملت معه باعتباره شيئا وبذلك أصبح كائنا مستهلكا بل صار الاستهلاك نمط أساسي في كينونته وزحفت العقلانية الأداتية على نزعته التواصلية وضاعفت في معاناته وبؤس أوضاعه. فما العمل للخروج من هذا الاستعصاء في فهم الوضع البشري من جهة المنهج والمضمون والغاية؟
إذا كان للوضع البشري أن يُدْرَس، مثلما يُعتقد، فإنه من الواجب أن يكون متاحا عن طريق ضرب الأمثال وسرد الحكايات ووصف التجارب والإطلالة على التاريخ والاقتراب من الحياة اليومية وليس من خلال كتابة المقالات ونظم الكتب وتأليف الموسوعات والتطرق إلى الأنساق الفكرية والنظريات العامة، وبالتالي ينبغي التمييز بين الفلسفة بوصفها علم دقيق والفلسفة بوصفها رؤية منفتحة للعالم5، ويجب أن يهدف هذا الدرس إلى التخلي عن الاهتمام بالإنسان من جهة الماهية والجوهر وإسناد طبيعة ثابتة وتعريف نهائي لمفهومه ووضع حد جامع مانع لفصله النوعي كما هو الشأن عند المناطقة ويكتفي بالتعرف على الكائن البشري في شروط وجوده وسرد ما يحدث له في حله وترحاله ومناسبات إقباله إلى الحياة وإدباره منها ويؤثر وصف مجمل أوضاعه النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية واللغوية والسياسية وأبعاده الأنطولوجية والإيتيقية واستخلاص الدلالة وإنتاج المعنى والقيمة بوساطة مناهج التحليل والتفسير والتأويل والفهم والديالكتيك والرمز والاختلاف والدلالة والتداولية والشعرية والأنثربولوجيا الفلسفية.
هكذا يتميز الوضع البشري بطابعه الإشكالي وخصائص التكوثر والتعددية والتاريخية، والتي يمكن التعبير عنها من خلال الأسئلة التالية: كيف يتحدد وجود الإنسان بوصفه شخصا؟ وما طبيعة علاقة الشخص بالغير؟ وما الدور الذي يلعبه الغير في تشكيل الأنا؟ وهل وجود الإنسان بوصفه شخصا محكوم بالضرورة أم هو قائم على الحرية؟ أين تكمن الطبيعة الجوهرية للشخص؟ ما العلاقة التي تربطه بالغير؟ متى يساهم الإنسان في صنع تاريخه؟ كيف تتحدد مفاهيم العدوانية والنشاط والإنتاج والتثقيف والتحضر والكلام والفعل والغير باعتبارها مكونات أساسية للوضع البشري؟ ومن يتحكم في أوضاع الكائن البشري؟