جون رولز ورفض الحقيقة

حاتم حميد محسن

2021-05-13 03:19

في معسكرات الإعتقال النازية طُلب الى الاطفال ان يحملوا لوحة معدنية عندما يسيرون من بناية الى اخرى، تشير الى انهم تابعون للمعسكر. اذا فشلوا في ذلك، سيتحملون مخاطرة ان يؤخذوا الى سجن الأطفال المشردين، حيث يلتقطهم الحراس عشوائيا ويُلقى بهم في أفران الغاز.

اللوحة المعدنية، حدّدت الأطفال ضمن مجموعة ضُمنت لها الحقوق والحريات المتوقعة، وضُمن لها الأمان. انها ايضا كانت تعني ان ما يجرى لهم من عمل سيُعتبر من جانب القائد العسكري للمعسكر كما لو انه عمل تجاهه هو.

هذا المثال يوضح ان هناك مهمتين اثنتين للفلسفة السياسية في النظام الليبرالي. الاولى هي التعبير عما يمكن ان يسميه المرء "شروط منصفة للتعاون بين الأفراد المعتبرين كأحرار ومتساويين". في هذا المثال، هذه تتضمن، مثلا، مبادئ تخصيص المنافع والأعباء باسلوب منصف بين النازيين الذين يديرون المعسكر، الى جانب عمليات التعامل وحل المشاكل بين أعضاء هذه المجموعة.

التحليل الرولزي ربما مفيد وصالح للعمل. افرض ان النازيين اعتبروا شخصا آخر حرا ومتساويا، ورغبوا في ترتيب شؤونهم بطريقة تعكس هذا الفهم. سيكون ممكنا لمثل هؤلاء النازيين الحكم على المبادئ التي تحكم ارتباطهم المتبادل فيما اذا كان ممكنا قبولها من وجهة نظر الموقف الأصلي(1). لكن المهمة الثانية للفلسفة السياسية هي ان تقول أي الناس يُعتبرون افردا احرار ومتساويين. في المثال المذكور، السجناء كان يجب اعتبارهم هكذا، لكنهم لم يكونوا كذلك. فما هو الاساس الذي اُعتبروا فيه هكذا؟ لنسمي المهمة الاولى، بالمهمة الرسمية، والثانية هي المهمة المادية للفلسفة السياسية. الاولى هي مسألة محتوى، الثانية هي مسألة نطاق. الاولى هي مسألة تعبير واضح، اما الثانية فهي مسألة مطابقة صحيحة.

ان جعلْ المهمة الرسمية صحيحة تبدو مثل إعطاء تفسير مناسب وفق مستوى معين من الملائمة، كما في جعل النحو يحكم اللغة بشكل واضح او صياغة بديهيات تحكم فرع من الرياضيات. لكن جعل المهمة المادية صحيحة يبدو مثل انجاز النوع الصحيح من المطابقة، او تماثل صحيح بين بناء رسمي وافراد ذلك البناء، قياسا لبعض مفاهيم الاستحقاق والجدارة الموجودة سلفا.

بعض الملاحظات الاساسية

اولا، من بين المهمتين تبدو المهمة المادية اكثر أهمية: لا احد ابدا اعتقد ان المعسكرات كانت افضل، من حيث العدالة، لدرجة ان حكومة المعسكرات كانت أكثر انصافا بين النازيين.

ثانيا، المهمة المادية تبدو من السهل تجنّب الحديث المعمق فيها، دون تناقض محسوس. في شهادات مجرمي الحرب النازية، لم نر الاّ القليل من الاعتراف بعدم الانسجام المعرفي الذي شعر به النازيون اثناء عمل المعسكرات. السبب هو ان "المبادئ التي تحكم الافراد الذين جرى تصورهم كأفراد أحرار ومتساوين" هي بمقدار الحاجة لتشكيل جماعة متميزة.

ان الالتزام بالمبادئ له انسجام داخلي، لا يهم الكيفية التي فُهم بها نطاق تلك المبادئ. (يمكن المقارنة بتقسيم مجموعة وفق علاقة متكافئة في الرياضيات). سبب آخر هو ان اي شخص عندما لا تتسع له المبادئ بحكم الواقع فانه لا تُعتبر له اهلية لتقديم الشكاوي. هو كما لو كان غير موجود في الجماعة السياسية.

اخيرا، لو انتقلنا بعيدا عن مثال معين للمعسكرات، وننظر في هذا النوع من السؤال بعمومية اكثر، طوال التاريخ، يبدو كما لو أن اخطاءً في تنفيذ المهمة المادية حُكم عليها كلاعدالة مفرطة: فمثلا، العبيد في امريكا نُظر اليهم بأثر رجعي أكثر خطورة من عدم الدفع المتساوي للأجور وظروف العمل القاسية لأن عمال المصانع في عام 1860، كانوا بنفس الخطورة من الـ لاعدالة.

عقيدة الحقوق الطبيعية ربما فُسّرت كحل عبقري لكلا المهمتين في وقت واحد. انظر الإعلان في بيان الاستقلال: "كل الناس خُلقوا متساويين ووُهبوا من خالقهم بحقوق معينة لا يمكن التصرف بها والتي من بينها الحياة، الحرية، متابعة السعادة. لكي تُصان هذه الحقوق، جرى مأسسة الحكومات بين الناس، وحيث تشتق سلطتها العادلة من رضا المحكومين". المهمة المادية حُلّت تماما ونهائيا بعبارة، "كل الناس"، والتي هي كل الكائنات البشرية. انها تختار نوع طبيعي، ويجب ان تختار نوعا طبيعيا، لتساعد في حل المهمة كليا ونهائيا. المهمة الرسمية حُلّت بمقدار خلق شيء كُتب لأجل عدالة القوانين: الميل العام يجب ان يكون ضمان وتعزيز حقوق الحياة، الحرية والملكية، وعدم مخالفتها بأي اجراء لا تبرره "اجراءات قانونية واجبة"، والتي "يتمتع بها كل الناس كأفراد طبيعيين بعيدا عن المجتمع السياسي.

في الحقيقة، يمكن للمرء تفسير عقيدة الحقوق الطبيعية بالايمان انه من غير الممكن حل احد المهمتين دون الاخرى. ما لم تُحدد موضوعات مبادئ العدالة بوضوح، كما كانت قبل القرار التشريعي وتثبّت عبر الاشارة الى نوع طبيعي – والذي لا يمكن اعادة تعريفه بالإقناع، عندئذ اي ضمانات ظاهرة في القانون المضمون من المشرع، هي في الحقيقة غير آمنة، لأن ادّعاءات اللاعدالة يمكن إبطالها ببساطة عبر تقرير ان شخص ما ينتمي لطبقة لا تصل اليها مبادئ العدالة. عقيدة الحقوق الطبيعية تصر على ان مثل هذا الفرد سيحتفظ بالحق في الشكوى ضد العدالة بمقتضى مكانته ككائن بشري.

جون رولز في نظرية العدالة وافق بأن الفلسفة السياسية يجب ان تنخرط في كلتا هاتين المهمتين. لكنه، في (الليبرالية السياسية) رفض المهمة الثانية. وهذا يفسر لماذا فلسفته السياسية ليست فقط غير متواصلة مع الفلسفة العامة للمؤسسين مثلما يجادل ديفد شافير David Schaeffer بقوة، وانما هي في الحقيقة مدمرة للمشروع الامريكي، وبما هو مخالف لاقتراحات ديفد كوري David Corey.

يتابع رولز المهمة الثانية ضمن قسم في نظرية العدالة حول "اساس المساواة". لكي يؤكد مبدأ المساواة، يقول رولز، بدون القول لمنْ يجب ان تعود المساواة، "لا ضمان لموضوعية التعامل المتساوي، طالما العبد ونظام الطبقة ربما ينسجمان مع هذا التصور" – معسكرات الاحتجاز هي ايضا كذلك. لذلك، هو يقول، "ان مبدأ المساواة ينطبق على مخلوقات تنتمي لبعض الطبقات، ولكن أي طبقة؟ لا نزال نحتاج لتحديد اساس طبيعي للمساواة لكي يمكن تحديد هذه الطبقة". من الأفضل التعبير عن شرط كافي بدلا من التفكير في شروط ضرورية، كما يذكر. ولذلك، هو يستنتج ان مبدأ المساواة يجب ان يطبق على أي كائن لديه القدرة على "المسؤولية الاخلاقية"، والذي سيعني كل الكائنات البشرية.

في مبادئ العدالة يعطي رولز جوابا الى المهمة الاولى، اما "كل الناس" هو جوابه للمهمة الثانية للفلسفة السياسية.

صحيح، ان علاجه للمهمة الثانية للفلسفة السياسية في نظرية العدالة هو نوعا ما كان في أضيق الحدود وعلى مضض. وانه جرى فقط في مستوى الآراء والأعراف – وهو ما نرغب قوله حول الحيوانات. اذاً أي نتيجة سنحصل عليها لو آمنا بهذه او تلك. ولكن على الأقل رولز يرى انه يجب مباشرة المهمة. مع ذلك في خطابه للمؤسسة الفلسفية الامريكية عام 1975، "استقلالية النظرية الاخلاقية"، هو سلفا انحرف بعيدا عن الحد الادنى لتلك الالتزامات. في ذلك الخطاب، هو كان قلقا حين نشر ديريك بارفت مقالا (1973) حول الافراد يتجاهل كانتية نظرية العدالة. لنتذكر ان جدال رولز الرئيسي ضد النفعية في نظرية العدالة كان انها تجاهلت التميّز في الافراد. ولكن ماذا لو ان الافراد لم يكونوا حقا متميزين، كما كان بارفيت يجادل بقوة؟ سوف لن يكون مقبولا للنظرية الاخلاقية والسياسية ان تكون رهينة لأسئلة حول حقيقة او لا حقيقة الافراد او حقيقة أي شيء. لأجل هدف التماسك الاجتماعي المستمر عبر الزمن، يجب ان تكون النظرية مستقلة في ادّعاءات الحقيقة.

هذه الرؤية حول الاستقلالية تصل كامل نضجها وتصبح نظرية حول التبرير في الفلسفة السياسية اثناء محاضرات ديوي عن "البنيوية الكانتية في النظرية الاخلاقية"(1980)، الفكرة الاساسية فيها هي ان اي فكرة للمطابقة مع الحقيقة القبلية يجب ان تُرفض: "الاتفاق الاساسي في أحكام العدالة يبرز ليس من الاعتراف بنظام اخلاقي قبلي ومستقل "، يصر رولز، "وانما من تأكيد كل شخص على نفس المنظور الاجتماعي الرسمي". في نظامه، مثلا، منْ يُحسب كفرد (او موضوع للعدالة)، "لا يُعتبر تقريبا عمليا للحقائق الاخلاقية: لا وجود لحقائق اخلاقية يمكن تقريب المبادئ المتبناة اليها".

نرى انه ليست فقط جدالات ديريك بارفت وانما ايضا رو ويد الذي اخمد المخاوف حول "اساس المساواة" وحوّل "رولز المبكر" الى "رولز الاخير". الناس على صواب عندما يقولون ان "رولز الاخير" اعتقد ان نظرية العدالة ارتبطت خطأ بالمذاهب الفلسفية، وان الليبرالية السياسية تحاول الانخراط في الفلسفة السياسية بدون اتّباع اي "تصور شمولي". لكنهم يتخذون رؤية محدودة جدا عن المذاهب الفلسفية التي رفضها رولز لاحقا. هذه لم تكن فقط كانتية متبقية، او مشروع اشتقاق نتائج في النظرية السياسية من الاقتصاد النظري وانما ايضا نظرية المطابقة للحقيقة ذاتها، مفهوم الاستحقاق والجدارة، والقناعة بان هناك حقيقة قبلية سُمح للمرء اللجوء اليها عند التفكير بالعدالة.

رولز كان شهيرا بفكرته العالية عن المحكمة العليا، مسميا اياها حتى في عام 2005 "النموذج" لما سمي بـ "العقل العام". ولكن ألم تكن الافتراضات المسبقة للمحكمة العليا في رو، بان القضية يجب ان تُقرر بدون محاولة تقرير متى بدأت الحياة، هي رفض صريح لمشروع البحث عن "اساس للمساواة"؟. حسب وجهة نظر رولز، بالتأكيد، ان نموذجا عظيما للعقل العام بدا يعلّم، عبر مثاله في رو، ان البحث عن اساس للمساواة الانسانية، في حقائق حولنا او في الطبيعة، لم يكن فقط غير ضروري وانما في الحقيقة مثارا للخلاف ومضللا. وفي ضوء كل هذا، ماذا يجب ان نقول حول ميراث جون رولز؟

هو لا يمكن اعتباره فيلسوفا سياسيا لتفسير امريكا المتميز للمجتمع الحر، لأنه لم يتجاهل ببساطة وانما عمدا وبإزدراء مباشر لأي شيء مثل اللجوء للحقوق الطبيعية. ولذلك، ليس بالإمكان دعم او تعديل موقف رولز الفلسفي عبر محاولة تعبئته ببعض العقائد عن الحقوق الطبيعية. سيكون خطأ كبيرا القول انه كان "يحاول التعبير عن مثل هذه الرؤية ولكن بلغة سهلة للمجتمع المعاصر".

وكذلك يرى البعض في رولز الوعي الزائف حول الالتزامات الميتافيزيقية الذي كثيرا ما يكون مرئيا في "الليبراليات" المعاصرة. الموقف الرولزي هو : لكي نزعم ان الانسان غير المولود بعد يتمتع بنفس حقوق المساواة كالإنسان المولود يجب ان نعتمد على "تصور شمولي"، ولكن لكي نزعم ان الطفل غير المولود لا يتمتع بنفس حقوق المساواة لا يعتمد على أي "تصور شمولي". غير ان هذا الذي لا يمكن ان يكون "تصورا شموليا" يُحتمل ان يؤدي عملا فقط عندما تُنكر بعض المساواة الواضحة، او بعض الاختلافات الواضحة، ولكن من الواضح ان الطفل غير المولود يتمتع مباشرة قبل الولادة بكل الحقوق تماما مثلما يتمتع به مباشرة بعد الولادة. بالطبع اذا كانت "التصورات الشمولية" قيد العمل في كلا الموقفين، عندئذ فان الحكم الصحيح يتطلب اننا نلتقط الموقف الحقيقي.

رولز يتحول من الحقيقة في النظرية السياسية والاخلاقية، كما رأينا، الى السعي الى استقرار النظام السياسي، او كما هو ظن: ولكن كيف يكون المجتمع مستقرا حين يُمنع فيه، اللجوء لمعيار الحقوق الطبيعية كحوافز غير ليبرالية وغير عادلة، او رفض حتى بيان التعاطف مع تقاليدنا، والتي تؤكد بوضوح على الحقوق الطبيعية وتعطيها هذا الدور؟

فلسفة رولز السياسية لا تعمل اي مناشدة للحقيقة: "في العقل العام، افكار الحقيقة المرتكزة على مذاهب شمولية تُستبدل بأفكار معقولة سياسيا politically reasonable". "البحث عن ارضية معقولة للاتفاق المتجذر في تصورنا عن انفسنا يحل محل البحث عن حقيقة اخلاقية تُفسر كحقيقة ثابتة من جانب النظام القبلي والمستقل للأشياء والعلاقات، سواء كانت طبيعية او دينية". رولز يكرر هذا مرارا، ولكن يبدو من الصعب على اي شخص استيعاب المسألة. ماهو ميراث رولز؟ ما هي ظروف المجتمع الذي يرفض الحقيقة كمعيار؟

ربما، المجتمع يُقسم الى جماعات متخاصمة، لأننا لا نستطيع ايجاد اساس للوحدة في طبيعة الانسان، او في المجتمع حيث، باستمرار، تختفي الحقيقة عمدا ويُسيطر عليها من جانب النخب التي تجد ان نتائج معينة هي اكثر قبولا وانصافا، مجتمع يكون فيه القول بان الذكور هم ذكور والاناث هن اناث اعتُبر وبشكل حاد غير عادل، مجتمع تبدو فيه حقوق الحريات الدينية باستمرار غامضة، مجتمع يبدو مستعدا لمصادرة الحقوق الطبيعية للحرية ويقبل بدلا من ذلك انه اكثر "معقولية" لو يحصل المواطنون اولا على اذن من حاكمهم للتحرك، مجتمع فيه كل شخص يعمل ما يعرف انه زائف لكنه يعمله هكذا بأي طريقة لأنه يرغب ان يُعتبر كـ "معقول"، مجتمع يزدهر فيه الجبن تحت غطاء "المعقولية".

ماذا لو كان الموقف اننا اما نسعى مجتمعين لنجد الحقيقة الكلية ونعبّر عنها بأحسن ما يمكن في الحياة العامة، او اننا نفقد تماما أي أساس للتعاون الحر كمتساوين؟

............................................
المصدر: Rawls & the Rejection of Truth، للبروفيسور مايكل باكالوك، موقع القانون والحرية Law &Liberty في 23 ابريل 2021. مايكل باكالوك استاذ الاخلاق والفلسفة الاجتماعية في مدرسة Busch للاعمال- الجامعة الكاثوليكية الامريكية.
..................................................
الهوامش
(1) هذا المفهوم طوره رولز في نظرية العدالة من أجل الوصول الى مبادئ تحكم مجتمعا من الافراد الاحرار والمتساوين اخلاقيا. عادة يُشار للوضع الاصلي بـ "حجاب الجهل". حيث يُسئل الناس لإختيار المبادئ لبناء المجتمع. يجب على الناس الاختيار كما لو ليست لديهم أي معرفة بما سينتهي به الامر في ذلك المجتمع. هذا الاختيار يتم من وراء حجاب من الجهل يمنعك من معرفة قوميتك او منزلتك الاجتماعية او جنسك او حتى فكرتك عن الحياة الجيدة. وهذا سيجبر المشاركين على اختيار مبادئ عقلانية نزيهة. الوضع الأصلي في نظرية رولز يلعب نفس الدور الذي تلعبه دولة الطبيعة في العقد الاجتماعي لهوبز او روسو او جون لوك.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا