أثر الموروث على افتراق الأمة
قراءة في الإصدار الجديد (الإسلام ومحنة افتراق الطرق)
صالح الطائي
2021-02-17 06:45
بعد أن الفت عددا كبيرا من الكتب في حقل الدراسات الدينية والفكر الديني، وجدت ان نمطية التعامل مع الأحداث الجليلة لم تنفع في تنمية قدراتنا على فهم الواقع والتماهي معه، لأنها كانت في الغالب منحازة بشكل أو بآخر لتحقيق مكاسب فرقية على حساب الكلية الجمعية، وربما لم تخرج تلك الكتابات من أجواء الشائع في التأليف، وفق النمط المتوارث إلا في حدود ضيقة.
لكني بعد أن تعرضت للاختطاف على يد إرهابيين راديكاليين إسلاميين متطرفين في عام 2006، ولبثت لديهم أسيرا مدة ثلاثة عشر يوما، ومن خلال حوارهم وتحقيقهم معي، وهو عادة كان مقرونا بالتعذيب والتهديد والتكفير والتعميم؛ اكتشفت أن هناك هوة سحيقة تفصل بين كيانات أمتنا، حولت كل واحدة منها إلى كلية قائمة ومبنية على مناهج طائفية تتكلم باسم الدين وتتحرك تحت شعاراته ولكنها أبعد ما تكون عن الدين وحقيقته التسامحية، واكتشفت أن جل هؤلاء بما فيهم من حصل على فرصة تعليم جيدة تم خداعهم، والضحك على ذقونهم، وتمت أدلجتهم وفق ثقافة القطعنة ونبذ الآخر وتكفيره، وبالتالي هم ضحايا مثلي لتلك الثقافة الكريهة.
وهذا يعني أن الأكاديميين والباحثين والكتاب والمؤلفين ورجال الدين لم يؤدوا دورهم البنائي الحقيقي وما يطلبه الإسلام منهم، وانهم هم من أذكى ثقافة التباعد وروح العدوان لدى هؤلاء الشباب، وان علينا أن نعيد النظر في أساليب تعاملنا مع الموروث الديني بما يؤسس لثقافة مقابلة تدعو إلى الخير والصلاح والوحدة والتقارب، والخروج من تحت عباءة الموروث إلى فضاء الحرية الأوسع، وان نتعامل مع النقول بنوع من الريبة والشك طالما أننا نعرف مقدار الضغط والتحريف والتغيير الذي تعرضت له خلال حقب تاريخية مختلفة، أبعدها عن حقيقتها وعن مقاصدها، فالشك ربما يوصلنا إلى يقين يختلف كثيرا عما اعتقد به أسلافنا.
بعد ان تحررت من قبضتهم منتصراً، آليت على نفسي أن أترك منهجي القديم وأبدأ في العمل وفق الرؤية التي خرجت بها، وكان أول كتاب ألفته برؤية أخرى هم كتاب "نحن والآخر والهوية" الذي طبع عدة مرات منها طبعة قناة العراقية الفضائية.
ومنذ عام 2010 ومن خلال كتابي الموسوم "نظرية فارسية التشيع بين الخديعة والخلط التاريخي والمؤامرة" نجحت في تجاوز مرحلة التأطير بشكل شبه كامل على أمل الوصول إلى فهم معمق لواقعنا الإسلامي العام، بعد ان ايقنت أن النجاح لا يتحقق من خلال الانحياز القطيعي للجماعة، بل من خلال العمل على فهم الآخر وفق معايير علمية غايتها فتح أبواب الحوار المنطقي الشفاف دون تجريح او تحيز، والتنازل عن كثير من القناعات التراثية، والتحرر من الخوف.
وقد نجحت في هذا المسعى بدليل أن الكتاب نجح في كسب هوية إسلامية عامة يستحيل معها ان ينسب إلى جهة ما أو فئة او جماعة.
وكان النجاح الذي حققته من خلال هذا الكتاب كاسحا إلى درجة أنه لا زال يتصدر قوائم المبيعات في معارض الكتب الدولية، ويجلب الاهتمام الكبير، وفي ذات الوقت كان حافزا لي لكي أتبنى هذه المنهجية الجديدة بعد أن أيقنت أن العلاج يجب أن يتم من خلال تشخيص دقيق لا من خلال رؤية سطحية.
بعد هذا التاريخ أنجزت أكثر من 30 مؤلفا كلها تقريبا اتبعت فيها المنهجية ذاتها والأسلوب ذاته، وقد لقيت استحسانا وقبولا لدى الفرق الإسلامية، طالما أنها تسعى إلى تشخيص العلة الأصلية، بحثا عن حل يرضي الأطراف، بدل أن تنخدع بالشكل النمطي العام، فالصداع مثلا لا يعالج بحبة أسبرين، بل يجب البحث عن مسبباته الأصلية، طالما أن هناك أكثر من مائتي نوع منه تصيب الإنسان مثلما يرى العلماء، ولكل نوع منها أسبابه وطرائق تشخيصه ومعالجته، ومتى ما تمت معرفة السبب الحقيقي للصداع وشخصت العلة الحقيقية، يتم وصف العلاج الذي سيكون ناجحا بالتأكيد.
وفق هذه المنهجية أصدرت مجموعة مؤلفات جوبهت بعضها بمعارضة من قبل القريب، كانت أشد وأقسى من معارضة الآخر المتشدد، ولكنها لقيت القبول والاستحسان من المعتدلين في الفرق الإسلامية، بما يؤكد ان الاعتدال وحده ممكن أن يوصلنا إلى فهم أنفسنا قبل محاولة فهم الغير، لكن بشرط أن يتعامل الإنسان من وحي الضمير وروح الإنسانية والوازع الأخلاقي النبيل، وأن يؤمن أن كل فئة وكل فرقة وكل مذهب وكل دين يعتز بموروثه ويقدسه غالبا، ومهمة الباحث الحقيقي تنحصر في أن يبحث عن المناطق الرخوة في هذا الموروث ويعمل على تفكيكها وربطها بكل المناطق الأخرى، وسيحصل حتما على الكثير من الإجابات لأسئلته المحيرة، وهذه الإجابات هي التي يجب أن يعول عليها في بناء منظومة البحث لينال قبول الجميع حتى ولو بمستويات مختلفة. فحينما تتفتح أبواب التسامح والقبول في مجتمع ما تتهدم السدود والحدود الوهمية.
وفق هذه المنهجية أصدر مؤخرا كتابا بعنوان "الإسلام ومحنة افتراق الطرق" تحدثت فيه عن التآلف والخلاف والفراق، والدعوة إلى التوحد، وحديث اختلاف أمتي رحمة، ودور اللغة في بلورة المفاهيم، ثم الحديث عن حديث تفترق أمتي ورأي المدارس الفقهية فيه؛ تلك المدارس التي اختلفت حول كل شيء باستثناء ما تدعم به مناهجها، وبينت أن الحديث يجب أن لا يعامل كنبوءة جامدة غير قصدية وجبرية الحدوث، بل كان يجب على الأوائل مثلما يجب علينا الآن أن نتعامل معه وكأنه تحذير نبوي بخطورة ما سيصيب الأمة إذا افترقت؛ وان هذا الافتراق والاختلاف سيحصل للأسف، وأن على الأمة كل الأمة أن تستعد للعمل على مجابهة الافتراق، وتعمل جاهدة على عدم تحققه من خلال تكاتفها وتعايشها وتعاونها، لكن مع ذلك ومع خطورة التحذير، لم يسعَ أي طرف من الأطراف الأولى على كثرتها إلى العمل على تجنب الافتراق، والانسياق خلف التحذير النبوي كوصية تحذير موجهة لكل مسلم تؤكد له أن عليه أن يعمل جاهدا من أجل أن لا يحدث الافتراق وتختلف الأمة فيما بينها.
الآن وبعد ان تحول الافتراق إلى عسكرة حقيقية تحمل شعارات التكفير والقتل والتهجير، ومع وجود هجمة شرسة تهدد وجود الإسلام في الصميم، في وقت تحول الكهنة إلى أبالسة، وانتقلوا من دعاة للتمسك بالدين وفق خطابات أغلبها لا تملك أصلا ثابتا في الشريعة؛ إلى معاول هدم تزرع الفرقة والبغضاء بين أفراد الأمة، وتحولت وصاياهم التي كان يجب أن تزرع روح المحبة في الإنسان إلى نيران تحرق الأخضر واليابس، وتستثير الجهلة والأميين وتدفعهم للبحث عن الجنان وحور العين من خلال قتل الآخر وسلب أمواله وهتك عرضه، كل ذلك باسم الدين وتحت راية الله أكبر، بات لزاما على كل حريص أن يبدا بالعمل على تهديم تلك الثقافات التراثية البالية واعتماد مناهج علمية في الحوار والبحث والكتابة، وهذا ما سعيت إليه من خلال هذا الكتاب.
صدر الكتاب بواقع 151 صفحة وبغلاف جميل تزينه لوحة للفنان العالمي الجزائري طيب لعيدي أهداها لي شخصيا لتزين غلاف هذا الكتاب عن دار ليندا للطباعة والنشر في سوريا بداية هذا العام.