جنود العقل وبيادق الجهل
محمد علي جواد تقي
2019-12-31 07:53
أ رأيت أن دعاك صديقك الى عين ماءٍ لتروي به ظمأك ثم لا يبرح أن يعيدك الى مكانك دون ان تلامس شفتيك الماء! بماذا يمكن وصف هذا العمل؟ علماً؛ لدينا مثلاً باللهجة العراقية الدارجة يحكي نفس المثل بمن يفرّط بالعقل بشكل غريب ولا يجعله نوراً يهتدي به السبيل في الحياة.
منذ آلاف السنين والعلماء والحكماء يحثون الخطى للوصول الى العقل؛ في كنهه، ودلالاته، ساعدهم في ذلك الانبياء والمرسلين من السماء، وكلٌ أدلى بدلوه في تعريف العقل حسب قدراته الاستيعابية وبنيته النفسية وكل ما له تأثير في هذا المشوار الطويل والمستمر حتى اليوم، والجميع يدعّي انه يمثل العقل بأفضل صوره، وأكبر قدر من الفوائد في الحياة، بيد ان الفيصل النهائي بين هذا وذاك، ليس في طريقة الوصول الى العقل وحسب، وإنما في وجود بصمات الجهل في الطرق الصحيحة التي تفضي الى نتائج "لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها"، وهذا ما يجعلنا نعيش في ظل معادلات يدعي اصحابها أنها عين العقل، وهي التي تفضي الى الحق والخير والسعادة، ولكن لمجرد وضعها على المحك تظهر نتوءات الجهل السوداء وما تفرزه من أزمات ومحن ومعاناة لا تُعد.
ليثيروا دفائن العقول
جملة وردت في إحدى خطب أمير المؤمنين، عليه السلام، في وصفه لمهام الانبياء والرسل تؤكد لنا الطريق الصحيح لمعرفة العقل من خلال العقل نفسه وليس بالبحث عن طرق أخرى بعيدة عنه، وربما مناقضة، مثل؛ التحليل، والقياس، والجدل، بينما نجد أن العقل من أعظم ما وهبه الله –تعالى- للانسان، وليس من العدل أن يعطي الله شيئاً غامضاً وغير مفهوماً للانسان فتذهب به المذاهب بغية الحصول على المعرفة الحقيقية للعقل، ولذا يأتي القرآن الكريم ليساعد الانسان في مسعاه هذا ويطلق مصطلح "التذكّر" بمعنى وجود منابع النور في فطرة الانسان عليه إثارتها والاستضاءة بها من خلال ما يقدمه الوحي من سنن وقوانين متطابقة مع العقل والفطرة، فكلما تنبّه اليها وآمن بها، كان أقرب الى الفلاح، والنجاح في الحياة.
التاريخ يحكي لنا تعاقب الحضارات والملوك ممن ملكوا الأرض وشيدوا وفعلوا المستحيلات في زمانهم للاستقواء والتميّز، وكانوا يعدون انفسهم روّاد استخدام العقل على سائر البشر المستعبدين، ولكن؛ غاب عنهم أن لهذا العقل جنود كُثر فيما كان لديهم بعضها وأبرزها؛ العلم، والشجاعة، ولم يتعرفوا على سائر الجنود الذين عدّهم واحداً، واحداً، الامام الصادق، عليه السلام، في رواية مطوّلة يذكرها الشيخ الكليني في "الكافي"، عن احد الاصحاب سأل عن جنود العقل وجنود الجهل.
وأن لكل منهما خمسة وسبعين جندياً، كل جندي يمثل قيمة سامية يقابله جندي يمثل قيمة مناقضة، مثل؛ "الخير وهو وزير العقل، وجعل ضده الشر، وهو وزير الجهل، والايمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط، والشكر وضده الكفران، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة وضدها الغضب، والعلم وضده الجهل..."، الى آخر الرواية.
وعندما نستعيد صفحات التاريخ القديم والحديث ايضاً، نجد الأطلال وما شيّدوه وبعض المنجزات العلمية التي تعد آنذاك مفخرة عظيمة لهم، ولا نجد أثراً لاصحابها كبشر وما يخلفوه لأبناء جنسهم، وما اذا خلفوا تجارب ناجحة في الحياة تضيء للاجيال بما يسعدهم ويهديهم لحل مشاكلهم، أم انهم كانوا سبباً لإبادة الملايين من ابناء جنسهم، ومن هم مثلهم في التكوين البشري، مع فارق الطبقية الاجتماعية، فاصبح هنالك فرعون، وهنالك الملايين من العبيد يعملون مثل الآلة، بل وأسوء، لتحقيق أحلام فرعون بالصعود الى مرتفع "ليطّلع الى إله موسى"، ولا شأن له بعشرات الآلاف ممن يموتون فداءً لبناء الاهرام.
بالمقابل نرى شخصاً لا يملك من حطام الدنيا سوى ثوبه البالي، يطارده الحكام بالضرب، والتعذيب، والتهجير، مثل أبو ذر الغفاري، الذي لم يكن بطلاً فاتحاً، ولا ملكاً مطاعاً، ولا حتى وجيهاً اجتماعياً، ولكنه تميّز عن آلاف البشر من اترابه عندما شغّل عقله للحظة واحدة ليكتشف أن إلهه ليس هذا الذي يبول عليه "الثعلبان" ولا يقدر الدفاع عن نفسه، فتحولت الى نكتة محببة لاصحاب النبي الأكرم، كلما ارادوا الترويح عن انفسهم، يروي فيها ابو ذر قصة إسلامه، ثم يتحول الى إيقونة الصدق والعدل للاجيال طول الزمن، حتى بلغ سمو قامته أن يعده اليوم من هم لا يؤمنون بالدين والاسلام، بانه بطل الدفاع عن المحرومين والمقاتل الاول ضد المتلاعبين بثروات الأمة.
يساقون الى الموت وهم يضحكون!
هم يرفعون الشعارات الكبيرة بدلالاتها، ويتسابقون للتضحية من اجلها، سواء؛ في معارك على الحدود، او في نشاطات سياسية داخلية، كأن تكون تظاهرات، او اعتصامات وغير ذلك على أمل تغيير الواقع المرير الى الافضل، بيد أنهم لا يلبثون أن يكتشفوا ما هو أدهى وأمرّ، بأنهم لم يكونوا سوى كبش فداء، او جسر للعبور نحو المناصب والمصالح والامتيازات.
لكن كيف يحصل هذا؟
الديكتاتورية الفردية، كما نظيرتها السياسية لها دور مباشر صنع بيادق الجهل على رقعة الساحة السياسية، فالذي يحكم العقل ويستنير به لاكتشاف الحقائق، ثم لاختيار الحسن في الانتخابات البرلمانية، او غيرها، انسانٌ كهذا من المستحيل تطويعه وتوجيهه الوجهة التي يريدها الآخرون، لان العلم والمعرفة ومنظومة القيم السامية هي التي تقوده في الحياة وليس هذا او ذاك.
ولضمان وجود هذه البيادق الطائعة لابد من غلق أي كوة نور متجهة الى قلب الانسان، فلا رؤية، ولا استماع واعٍ، ولا مشاركة، ولا أية محاولة يفهم منها الخروج على الطاعة، وفي سورة الزمر، يربط القرآن الكريم بين التخلّي عن الطاغوت (الديكتاتور)، والاستماع الواعي واكتشاف الحقائق: ((وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)).
وفي الحديث المسهب عن أدوات الوعي في الشعوب المأزومة، يجري الحديث عن المسموع والمطبوع، وما يجود به الخطباء والادباء والكتاب والمفكرين، انما العبرة في النتائج، فالاستماع موجود، والكتاب مبذول، ولكن؛ لا فائدة من كل هذا مع عدم تحويل هذا الكم المعرفي الى ثقافة و ايمان تمكن صاحبها من سلوك الطريق الآمن الذي لا يؤدي به الى ما يجلب الندامة. يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: "من قعد به العقل قام به الجهل"، كما جاء عنه: "صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله".
كلما نجحت المحاولات في استثارة العقل وتحكيمه في معالجة الازمات، وفي البحث عن الحقوق الضائعة، كلما تراجعت الخسائر في هذا الطريق مهما كانت التحديات السياسية الداخلية منها والخارجية، فالعقل الموهوب الهياً، أعظم سلاح يمتلكه "الانسان العاقل"، لانه يحول بين صاحبه وبين الانقياد نحو الموت، والمزيد من التضحيات بالنيابة (كبش فداء)، وأن يكون بيدقاً في جيش الجاهلين.