التعددية والسلم المدني، حالة العراق
د. عبد العظيم جبر حافظ
2015-05-12 06:00
يكاد لا يخلو مجتمع من المجتمعات من التعددية سواء أكانت اجتماعية او ثقافية او دينية او مذهبية، وما دام الاختلاف حاضرا في ذهنية وسلوك وفكر الانسان فان التعددية تبدو طبيعية.
وان التعدد بمعنى- التنوع والاختلاف- ظاهرة واقعية وطبيعية، وهي لا تعد مشكلة، غير انها تظهر مشكلة حين يؤدي هذا التعدد الى آثار سلبية يهدد أمن المجتمع واستقراره، حينما أصبح حديث (الوحدة) من خلال- الصهر- هو السائد، وهنا يدخل عامل فلسفة النظام السياسي واحدا من المؤثرات على طبيعة التعددية وتوظيفها ايجابا او سلبا، فمن اجل توظيف التعددية لصالح امن المجتمع واستقراره يتحتم ادارة التنوعات (التعدديات) بشكل سلمي يستجيب للخصائص والثقافات الفرعية والعامة على حد سواء ومن هيمنة ثقافة او دين او مذهب، وهذا ما نجده في النظم السياسية الديموقراطية الليبرالية، وبالعكس منه في النظم السياسية الشمولية.
لقد اكتسبت التعددية (الاثينية) اهمية خاصة على الصعيدين العملي والأكاديمي في ظل ما طرحته الصراعات الانسانية التي شهدتها مجتمعات مختلفة على امتداد دول العالم مثل: (يوغسلافيا، الشيشان، راوندا، زائير، كندا، الهند...) من تحديات لأنماط ادارة التنوعات الاثنية، وما ينجم عنها من صراعات في هذه المجتمعات..... ويمكن القول ان اساليب ادارة التعددية الاثنية قد خضعت لاختيارات سياسية وحسابات ايديولوجية مختلفة أسفرت عن تنوع واختلاف في طبيعة تلك الأساليب على نحو ألقى بظلاله على الرضا والقبول السياسي من جانب الجماعات الاثنية في المجتمع المعني، وعلى الاستقرار الداخلي للنظام السياسي في هذا المجتمع(1).
وتشير خبرة الدول النامية عامة والدول الافريقية خاصة الى انه معظم هذه الدول في تعاملها مع واقع التعددية قد مرت بما أطلق عليه البعض- باللحظة الليبرالية- والمقصود بذلك انها قد مارست تجارب دستورية وبرلمانية وانتخابات واستفتاءات على النمط الغربي، الا ان هذه البلدان غلبت في النهاية- الشكل السلطوي- أو الشكل التسلطي للدولة بدرجات متفاوتة في محاولة للإسراع بتحقيق الاندماج الاجتماعي (2). بين الجماعات الاثينة المختلفة، الا انه مع تفاقم عجز هذه الانظمة عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وعجزها عن الوفاء بالاحتياجات المادية والمعنوية للشعوب والأماني الوطنية/القومية، وازاء تزايد الطابع السلطوي للدولة، تفاقمت مظاهر عدم الاستقرار في هذه المجتمعات، الأمر الذي أسفر عن انهيار دول، مثل: ليبريا، الصومال) والاطاحة بانظمة مثل: (راواندا، زائير، اثيوبيا، سيرالون)، وتفاقم الأزمات الداخلية في بلدان مثل: السودان، نيجيريا، السنغال، موريتانيا، غينيا بيساو..).
اذن: تلعب التعددية دورا متعدد الجوانب في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، الامر الذي أثار ويثير الكثير من المشكلات النظرية والعملية على المستويين النظري والتطبيقي.
وما دام الحديث عن التعددية (pluralism) في بداية المقال لازال نظريا، (قبل الدخول في حالة العراق) فلا بد ان نشير الى ان التعددية تعني تعدد اشكال الروح الاجتماعية في نطاق كل جماعة، وتعدد الجماعات داخل المجتمع وتعدد المجتمعات نفسها (3). اما معجم المصطلحات السياسية فيعرفها بانها: تعني وجود مؤسسات وجماعات غير متجانسة في المجتمع المعاصر يكون لها اهتمامات دينية واقتصادية واثنية وثقافية متنوعة، والتعددية من الناحية السياسية تصف مجتمعا تكون القوة فيه موزعة بصورة واسعة على جماعات مرتبة في انماط متنوعة للصراع او المنافسة او التعاون، وقد تشير التعددية السياسية كذلك الى المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية التي يمكنها ان تشارك في مزاولة السلطة (4).
ويمكن القول باختصار ان التعددية تعني: تعدد الجماعات الاجتماعية التي تتبنى مفاهيم متميزة للواقع وحقائقه وللمستقبل السياسي بهذا الواقع: وبهذا المعنى فان التعددية الاجتماعية هي ظاهرة ملازمة لكل مجتمع بشري، [وجدير بالذكر] بان السلطة الديموقراطية الليبرالية تقبل بوجود التعددية وتوزع عبر مؤسسات تتحدد صلاحياتها ويراقب بعضها بعضا بالتبادل، ولا يتحقق ذلك الا بالبدء برأس الهرم السياسي عبر فصل السلطات الثلاث، أي منع السلطة التنفيذية من التحكم والتدخل في شؤون المشرع والقاضي بهدف الوصول الى حالة من التوازن ما بين السلطات الثلاث (5).
اما السلم المدني، فله دلالات كثيرة، في اي مجتمع سواء كان متجانسا ام يشتمل على تعددية، ومن هذه الدالات: دالة العيش المشترك، ودالة الرغبة في التعايش والتضامن بين ابناء المجتمع الواحد، [بمعنى سيادة الرضا في المجتمع]، لكن هذا الرضا لا يأتي عن طريق التمني والرجاء ولا يتولد شفويا، وانما يأتي عن طريق توسيع المشاركة السياسية والادارية والاقتصادية والثقافية بين شرائح المجتمع كافة (6)، ودالة احترام التنوع والاختلاف اللذان يحولان دون تمركز الحكم في [أيدي جهة واحدة] ويساعد ذلك على تحقيق المشاركة وتوزع المنافع (7). ودالة سيادة الولاء الوطني على الولاءات الأخرى دون اغفال او اقصاء او صهر الولاءات الاخرى، ويتعزز هذا الولاء (الوطني) كلما كانت الحكومة/او الدولة قائمة على اسس كاملة من المساواة والعدالة بين جميع مواطنيها دون تمييز او تفريق لأي سبب كان (8). وعليه فان السلم المدني هو اشاعة ثقافة السلام وترويجه والتسامح والانفتاح على الآخر والاعتراف به [عن طريق ثقافة الحوار وتعزيز عملية قبول الرأي الآخر]، وفهم المختلفين فيما بينهم وتجسير الهوة بين مختلف الاطياف والشرائح الاجتماعية، والايمان بالتعددية الفكرية والسياسية والدينية، ودولة القانون والدستور، والتداول السلمي للسلطة، ورفض جميع اشكال العنف والتطرف في العقيدة والفكر والممارسات القمعية في المجتمع، والايمان بمبدأ الحوار الديموقراطي الشفاف، وحرية الكلمة والتعبير، وتتبنى مبدأ الحوار المفتوح (9).
وبقدر تعلق الأمر بالعراق، فأنه يتكون من اطياف وشرائح متنوعة من القوميات والاديان والمذاهب- هذا التعدد والتنوع انسحب على الشعور بالانتماء الى كل هذه الدالات، ومرد ذلك الى خطأ السياسات منذ بدء تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وفي عدم ادارتها لطبيعة هذه التعددية باتجاه السلم المدني وتوزيع السلطة والثروة، وما أدل على ذلك. فان طبيعة التحديات التي يواجهها العراق حاليا ما هي الا نتيجة لأزمة تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921. ففي ظل النظام السياسي العراقي/الملكي (1921-1958) كانت القوى اليمينية هي المسيطرة على مقاليد الحكم، ونرى بان المجتمع العراقي ذا تركيبة واحدة لاتوجد فيه تمايزات اثنية، وهو تفكير مخالف لطبيعة الانسان في الوجود، فمن غير الممكن دمج طائفة او شريحة من المجتمع بالأخرى الاحتفاظ كل منها بخصائصها وثقافتها دون الأخرى، بمعنى ان عدم الاعتراف بالآخر المختلف أدى الى معضلة او ازمة احتكار السلطة من قبل فئة معينة ومن ثم تجعل من (ستار الوحدة) والخوف من التفتت مبررا لعزل الجماعات الوطنية (10).
أما في العهد الجمهوري (1958-2003) فقد اتسم بالفردية مرة والمركزية مرة، والمركزية الشديدة تارة، فمنذ عام 1963 اختفت مظاهر التعددية السياسية والثقافية وتسلط حزب البعث بشكل مطلق على السلطة، ولم يقف عند هذا الحد، بل عمل على تصفية كل ما يعارضه على مستوى الفكر والتعبير، بمعنى موت السياسة وتغييب التعددية.
باختصار، ان ضيق الأفق السياسي للأنظمة السياسية السابقة أدى الى غياب المشاركة السياسية في المجتمع والدولة العراقية، وحرمان الانسان العراقي من التمتع بحقوقه وحرياته المدنية والسياسية، هذا النهج يدل على عدم الاعتراف بالتعددية سواء كانت السياسة منها او الاجتماعية او الثقافية، الأمر الذي ادى الى احتماء كل طائفة او شريحة الى احضانها بدلا من الانتماء الوطني ومن ثم تذمر المواطن العراقي، وانبعاث روح التمرد والمعارضة بمعنى آخر غياب السلم المدني.. ولعل التغير السياسي في العراق في 9/4/2003 قد أكد مرة اخرى ان التعددية كانت مغيبة، والدليل انتشار وتزايد الاحزاب السياسية العراقية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية، فضلا عن تزايد تشكيل منظمات المجتمع المدني والتي وصلت الى اكثر من خمسة آلاف منظمة والتي كانت غائبة ومحظور تشكيلها، سوى ان بعض المنظمات والاتحادات كانت واجهات سياسية وامنية للحزب الحاكم. اي تابعة للسلطة وغير مستقلة تماما.
وبشكل عام فان التغيير السياسي في 9/4/2003 يعد تحولا سياسيا نوعيا في تاريخ العراق السياسي بما سمح للمكبوت السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي من ان يمارس دوره في هذه الصعد [على الرغم من وجود التحفظات والاشكاليات التي ترد على طبيعة النظام السياسي والدستور ودوره] لكنها نتيجة طبيعة لما عاناه العراق من ازمات عديدة واجهت الانسان والمجتمع والدولة بمعنى ان التغيير السياسي في العراق بعد عام 2003 قد اعترف بواقع التعددية في العراق دستوريا وقانونيا، الامر الذي هيأ الفرصة بالمساهمة في المشاركة السياسية عبر المؤسسات السياسية، مما يمكن المجتمع والدولة تدريجيا بناء السلم المدني في العراق.
وعلى الرغم في التحديات التي يواجهها النظام السياسي فان الدستور قد اعترف بالتعددية والتنوع العراقي بكافة اشكاله، وما هذه التحديات الا دلالة على اهمية المسار السياسي الجديد تريد العودة بالعراق الى الدكتاتورية والشمولية وعدم الاعتراف بالآخر تحت شعار [الوحدة] ومن ثم غياب السلم المدني..... ولكن ما ظهر على السطح العراقي بعد عام 2003 من موجات العنف والتطرف السياسي والديني والارهاب المحلي والاقليمي دلالة على اهمية ونوعية التغيير السياسي ازاء التعددية، فقد طالت موجة الارهاب الكثير من الطوائف والاقليات سبيلا الى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي ومن ثم القضاء على محاولة بناء السلم المدني، غير ان حاجة الانسان الى التغيير والتمسك بمبادئ الديموقراطية والتوق الى الحرية والدفاع عن قيمها سيعزز من امكانية النظام السياسي في مواجهة التحديات والوصول الى حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي ومن ثم تعزيز مبدأ الاعتراف بالآخر لإقامة السلم المدني..
اذن ما العمل في سبيل اقامة السلم المدني..؟
اولا: اللجوء الى خيار [الحوار] مع الآخر المختلف، فالحوار وسيلة لفهم الآخر، وهذه المهمة تقع على عاتق المجتمع والدولة.
ثانيا: تجاوز الحساسيات والمشكلات من قبل القوى السياسية والمجتمعية ووضع شرط الثابت الوطني أساسا لكل حوار سياسي ومجتمعي.
ثالثا: العمل على اجراء (المصالحة الوطنية) الحقيقية وتطوير آلياتها ووسائلها عبر فتح قنوات الاتصال مع كل القوى السياسية والمجتمعية المشاركة في العملية السياسية أو خارجها، بشرط ان لاتعارض المشروع الوطني الديمقراطي (11).
رابعا: قيام الحكومة بواجباتها الموكولة لها وأهمها، الخدمات العامة لإشعار المواطن العراقي بان الحكومة تعمل لأجله وعلى درجة واحدة من المساواة، هذا الأمر يشجع ويعزز روح السلم المدني في نفوس المواطنين.
خامسا: الافادة من دور القوى الاجتماعية في اشاعة مبادرة السلم المدني في التقريب بين وجهات النظر ومحاصرة الازمات.
سادسا: الافادة من تجارب دول العالم التي مرت في عمليات التحول الديموقراطي، وادارة التعددية في المجتمعات الانقسامية سيما تجربة (جنوب افريقيا) المعاصرة.
سابعا: الابتعاد عن الخطابات الاعلامية والسياسية الطائفية في المحافل كافة داخل وخارج العراق، كخطوة لزرع الشعور المشترك بأهمية المواطنة.
ثامنا: اشاعة وتعزيز النهج الديمقراطي/الليبرالي/التعددي في الحياة السياسية والمجتمعية والتثقيف عليه، سيما في التربية والتعليم.
تاسعا: الايمان بالتسامح بين الأطراف المختلفة، وعن طريق تقديم قدر من التنازلات المتبادلة بدون خسارة أو ربح الا بربح المعادلة الوطنية.
عاشرا: اللجوء الى خيار- التوافقية- لمرحلة مؤقتة لزرع الثقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية والاسهام في المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، ومن ثم مغادرتها الى تطبيق الآلية الديموقراطية (حكومة + معارضة).
احدى عشر: تطوير عمل مؤسسات المجتمع المدني وتعزيزها ودعمها من قبل السلطة في عملية ارساء السلم المدني عبر تغلغلها في مختلف الصعد الاجتماعية والثقافية.
ثاني عشر: بناء مؤسسات الدولة على اساس سيادة القانون (12)، واعادة النظر في الكثير من القوانين والانظمة السابقة السائدة والمناهج التربوية والتعليمية وتخليصها من النزاعات العنصرية والدكتاتورية مع التأكيد على حق المعارضة... ولضمان توفير اجواء صحية للتعايش بين ابناء المجتمع العراقي ينبغي ان تسعى الدولة بكل الوسائل الى ضمان العدل وعدم التمييز في التشريعات وفي انقاذ القانون والاجراءات الادارية واتاحة الفرصة المتكافئة للجميع دون تهميش او اقصاء لأية فئة او طائفة.