مقارنة بين تأملات ديكارت والتأملات البوذية
حاتم حميد محسن
2019-06-09 05:37
لماذا اطلق ديكارت (1596-1650) على رسالته الشهيرة Meditations on first philosophy بـ "التأملات في الفلسفة الاولى"؟. التأمل to meditate يعني التفكير بعمق حول شيء ما. سنحاول النظر فيما اذا كانت طريقة ديكارت والفلسفة الغربية عامة لها علاقة "بالتأمل" بالمعنى الشرقي للكلمة. سننظر في اساليب التأمل في المدارس التقليدية للبوذية وخاصة اساليب مدرسة زن البوذية (Zen Buddhism).
هدوء الذهن
هل ان الفلسفة الغربية تسعى الى الاطمئنان وهدوء البال. ان الهدف من التفلسف الغربي هو ايجاد حلول للأسئلة العميقة مثل معنى الحياة او طبيعة الذهن، وان كل نظرية فلسفية هي محاولة لحل مشكلة فلسفية. تطوير مثل هذه النظريات قد يوفر ولو للحظة حالة من الهدوء والاطمئنان.
ان الشيء الذي يركز عليه فلاسفة الغرب هو السؤال الذي يسعون للاجابة عليه، مثل "ماهي الحقيقة" او "ماهي اللغة؟". هذه الاسئلة تشبه الالغاز (koans) (1) التي تركز عليها البوذية اثناء التأمل. الالغاز هي بيانات محيرة او أمثال غامضة، او مفارقات او اسئلة ليس لها اجوبة منطقية. من بين تلك الاقوال المتعارفة هو "ما صوت التصفيق في يد واحدة؟". انها تتطلب من عضو الجماعة الدينية ان يتخلى عن قدراته المنطقية ويتحول بدلا من ذلك الى الحدس او الى اللاعقلي. بهذا المعنى، الالغاز لا يمكن حلها، انها يمكن فقط الاجابة عليها. الوصول الى جواب ملائم للالغاز قد يستغرق اياما او شهور او مدى الحياة. استاذ البوذية يعرف من اجوبة الطلاب ما اذا كانوا جاهزين للانتقال الى لغز آخر او ما اذا كانوا قد "رأوا الضوء". الأسئلة الفلسفية تشبه الألغاز في كونها تشوش الذهن بعدم امتلاك اجوبة مطلقة، وانها ايضا اسئلة يمكن للفلاسفة ان ينفقوا حياتهم في الاجابة عليها. وعندما يوجد "الحل"، يمكن ان يشعر الفيلسوف بالسعادة والتنوير.
غير ان هناك اختلاف هام: الفلاسفة يثقون بعقلهم في الاجابة على الألغاز. الالغاز الفلسفية تُعرض ايضا بطريقة تقترح هناك جواب عقلاني، بينما الألغاز البوذية ليست كذلك. الاجوبة الفلسفية ايضا سيكون لها معنى بذاتها وللآخرين وليس فقط لـ "المتأمل". لذا بالرغم من ان الفلسفة تسعى فعلا لهدوء الذهن، فهي تسعى لذلك باستخدام اسلوب مختلف عن اساليب البوذية. كذلك، موضوعها في التحقيق او سؤالها الفلسفي له جواب مصمم لينال القبول من الآخرين وكذلك لإرضاء الفيلسوف صاحب السؤال.
ألغاز ديكارت
لننظر الآن في ديكارت خصيصا. لغز ديكارت الفلسفي هو "ماذا أعرف على وجه التحديد؟". في بداية تأملاته هو يوضح كيف وصل الى مرحلة في تفكيره لم يعد فيها متأكدا من اي شيء. الحواس احيانا تخدع، كما يقول "من الحكمة ان لا نثق كليا بمن خدعنا حتى ولو مرة واحدة"(ص12). هو يعرف انه في هذه المرحلة من اللّايقين، ربما هو لا يمتلك حتى بدن، انه يحلم فقط بانه جالس بجانب المدفأة يكتب تأملاته. ربما ايضا ان واحد زائد واحد لا يساوي اثنين وان هناك من يخدعنا للاعتقاد بذلك. قد يكون هو ذاته غير موجود. لتحقيق اي هدوء ذهني في هذا الموقف من الشكل الراديكالي يحتاج ديكارت ايجاد شيء ما مؤكد. الطريقة التي ينوي بها ايجاد هذا هو من خلال الممارسة الذاتية للمنطق.
اذا كان البوذي يواجه سؤال "ماذا أعرف بالضبط؟" كلغز فهو ايضا مطلوب منه ان يمارس التحليل الذاتي. الجواب الى اللغز لايمكن البحث عنه في العالم الخارجي. غير ان الجواب لا يتطلب من عضو الجماعة الدينية عمل أحكام او استنتاج او استدلال. العضو قد يجيب على اللغز بعدد من الطرق: بان يكون صامتا، بانحناء الرأس، او بالصراخ او عبر التحدث عن شيء ما لايبدوا ذو علاقة. ديكارت لم يقم بأي من تلك. جوابه على السؤال يأتي على شكل استنتاج يصل اليه منطقيا.
احد انواع الاستنتاج المنطقي يعتمد على مثال معين طبّق على فرضية عالمية ليصل الى استنتاج. فمثلا:
كل البوذيون يتأملون (فرضية عالمية)
ديكارت هو بوذي (مثال محدد)
لذلك فان ديكارت يتأمل (استنتاج)
غير ان عملية تفكير ديكارت حول ما هو مؤكد (والتي بدأها في عمله السابق خطاب حول الطريقة) تنتج حجة غير كاملة: حيث الحجة لم تكن بها الفرضية واضحة وتسمى هنا (enthmeme). اي، هي استنتاج بدون فرضية عالمية. حجته الشهيرة في "انا افكر اذاً انا موجود"(ص17) هي يُفترض ان تكون على الشكل التالي:
كل الاشياء التي تفكر موجودة (فرضية عالمية)
انا افكر (مثال محدد)
لذا انا موجود (استنتاج)
طبقا لهذا التفسير، ديكارت يفترض، لكنه لم يكتب، الفرضية العالمية بان كل الاشياء المفكرة موجودة. لذا فان بعض الفلاسفة ينسبون جواب ديكارت "انا أفكر إذا انا موجود" الى ألغازه باعتباره مجرد حدس.
ربما نال ديكارت المزيد من راحة البال لو انه انشغل بطبيعته البوذية.
الضوء الطبيعي
خاصية اخرى في تأمل ديكارت مشابهة للبوذية هي "الضوء الطبيعي". خلال ما يسميه "افكار واضحة ومتميزة" يعرض الضوء الطبيعي الحقائق لديكارت والتي لا يمكن الشك فيها. القاعدة العامة لديكارت هي ان "كل ما اتصوره بوضوح وتميّز يجب ان يكون حقيقيا" (ص24). ديكارت يستعمل الضوء الطبيعي للعقل للاستنتاج (من بين اشياء اخرى) انه موجود، وان الله موجود، وان الخداع هو عدم الكمال، والاشياء المادية حقا تمتلك خواص هندسية ورياضية.
البوذيون من طائفة (زن) يدّعون ايضا ان الاجوبة التي يستلمونها من التأمل في الالغاز هي افكار واضحة ومتميزة. تلك هي طبيعة "رؤية الضوء". الاجابات الجيدة لألغاز البوذية يجب، وفق معايير ديكارت، ان تكون حقيقية. هي ايضا ربما اقرب الى الحقيقة (اذا كان هناك شيء منها) منه الى استنتاج ديكارت، لأن حجة ديكارت حول الوثوق بالضوء الطبيعي هي دائرية. هو يعتقد ان الضوء الطبيعي موثوق لأن الله موجود ولا يخدعه حول ما يتعلق بالضوء الطبيعي، مع ذلك، ديكارت يحتاج الضوء الطبيعي لإثبات ان الله ليس خادعا... هذا الضوء الطبيعي يخبر ديكارت ان الخداع هو شيء ناقص (غير تام): ولذلك، فان الله، الذي حسب التعريف وجود كامل، لايمكنه خداعه حول ما يحكيه له الضوء الطبيعي.
التحولات في الوعي
مثلما ديكارت، البوذيون يميلون نحو الايمان بالثنائية، يعتقدون ان الذهن والمادة هما منْ يشكل الحقيقة النهائية (باراماثا). هذا الادّعاء موجود في النصوص البوذية المسماة (Abhidharma Pitaka)، وهو الجزء المهم من الكتاب المقدس الذي يعرف بـ (Tripitaka). هذا القسم من الكتاب يؤكد ايضا بعدم وجود (انا) او فرد – كما ادّعى هيوم ايضا في الرد على افتراض ديكارت بانه (هو) يقوم بالتفكير. اعتقد هيوم ان الذات الموحدة هي وهم وان هناك فقط مجموعة من الادراكات الحسية. اذا كانت الذات حقا وهم، عندئذ التأمل يتطلب تحولا في الوعي لكي يدرك المتأمل الحقيقة النهائية.
التجريبيون، الذين يثقون بالتجربة كمصدر للمعرفة، سوف لن يهتموا بالتحول في وعيهم بعيدا عن الدليل الذي يعرضه العالم لهم. العقلانيون مثل ديكارت، من جهة اخرى، قد يحوّلون جيدا وعيهم بعيدا عن عالم الظهور عندما يتأملون الاستنتاج، المنطق، الرياضيات والهندسة.
لننظر ما الشيء الذي يحوّل العقلانيون وعيهم نحوه قبل مقارنته بالتحول في الذهن البوذي. العقلاني سوف يوجّه انتباهه نحو شيء ما مطلق – نحو مفاهيم او افكار. ديكارت يحوّل وعيه نحو فكرة الله، مثلا: الفكرة بانه يعتقد هي فكرة فطرية. الفكرة التي يمتلكها في ذهنه هي عن وجود تام ولامتناهي. هذا يختلف جدا عن الفكرة التي يمتلكها عن نفسه. هو يعمل اخطاء، وعرضة للتغيير، وهو سوف لم يعد له وجود في يوم ما، كشيء يفكر متجسد، ويمتلك مشكلة في الخروج من السرير في الوقت المحدد لتعليم ملكة السويد الفلسفة. لذا فان ديكارت هو متناهي وغير تام. لكن الضوء الطبيعي لديكارت يخبره ان السبب يجب ان يكون مساوي او أكبر من نتيجته (هذا يسمى مبدأ المساواة السببية). لذا فان سبب فكرة الله يجب ان تكون شيء ما مساوي لفكرة الله او أكبر منها. ولكن ماهو الشيء الذي هو مساوي او اكبر من فكرة الكائن التام؟ الاحتمال الوحيد هو ان الله يجب ان يكون هو السبب في فكرة الله التي يمتلكها ديكا رت.لذا فان الله موجود.
لسوء الحظ، لم ينجح ديكارت في تحويل وعيه كليا. في الحقيقة، هو لم ينجح في إبعاد فكره عن العالم الخارجي ابدا، لأن فكرته عن الله يمكن بنائها بسهولة من التجربة. هو يعتقد ان فكرة الله هي فطرية. ولكن اذا كانت فطرية فان كل شخص يجب ان يحوز عليها. غير انه، وكما اشار جون لوك في نقده للأفكار الفطرية ان بعض الناس ليس لديه اي فكرة عن الله وآخرين لديهم فكرة مختلفة عن الله. هيوم اقترح اصلا جيدا لفكرة الله: ان الذهن يبدّل، يركّب ويضخّم الافكار المشتقة من انطباعات الحواس ليخلق الفكرة. وكما يؤكد هيوم، "ان فكرة الله التي تعني ذكي بلا حدود، حكيم، كائن خيّر تأتي من التمدد الى ما وراء جميع حدود نوعيات الخيرية والحكمة التي نجدها في اذهاننا"مضيفا ان هذه الافكار الاخيرة هي مستنسخة من الانطباعات الحسية (تحقيق متعلق بالفهم الانساني، ص8). اذا كان هيوم مصيبا عندئذ فان ديكارت لم يكن ناجحا في حقيقة إبعاد نفسه عن عالم الحواس.
هو ربما حاول إبعاد وعيه بعيدا عن عالم المظاهر مثلما تفعل الثيرافادا البوذية اثناء ممارسة تأمل الـ (ساماتا). تأمل الساماتا يستلزم التركيز على التنفس او على اشياء محايدة لكي يحقق الهدوء استعدادا لنوع ثاني من التأمل يسمى فيباسانا(تنقية الذهن) الذي يهدف لتحقيق الفهم العميق. عندما يصبح الممارس اكثر خبرة فهو سوف يمارس حالة عميقة من الاستيعاب تسمى جهانا(Jhana)(2). البوذيون الثيرافاديون يميزون بين ثمانية انواع من الجهانا. عندما يتقدم المتأمل من جيهانة الى اخرى، هو يمارس أعمق مستويات التركيز، الى النقطة التي بها يتجاوز الزمان والمكان وحتى اللاشيئية في تجربته، والمتأمل يدخل عالم اللامادية. في الجهانة السادسة سوف يواجه البوذي الناجح وعيا غير مقيد، في الجهانة السابعة يواجه اللّاشيئية، وفي الثامنة لا يواجه فهما ولا عدم فهم. هذه هي عوالم اللامحدود، اللاشيئية، ولا ثنائية الوعي. الذهن هنا اكبر من اي فكرة عن اللامحدود والكائن التام، تلك الفكرة ستكون فقط عائقا لإنجاز التنوير. بكلمة اخرى، بالنسبة للبوذي الثيرافادي، ان فكرة الله ستكون صرف للذهن وعدم تركيز يقف عائقا في طريق رؤية الطبيعة الحقيقية للواقع.
ألم يكن صرف الانتباه هذا هو بالضبط ما حدث لديكارت؟ لو كان ديكارت قادرا على التخلي عن فكرته حول الله، لربما وصل الى ادراك عميق... ومرة اخرى، لو انه فعل هذا، هو ربما لم ينتج رسالة شديدة الاثارة الفكرية لدرجة تركت فلاسفة الغرب منشغلين منذ ذلك الوقت.
الفلسفة الغربية عموما
لذا فان ديكارت لم يكن بوذيا تماما، لكنه امتلك فعلا امكانية ذلك. لو انه استخدم الضوء الطبيعي دون ان يرتبك بفكرة الله، ربما تقدم كثيرا نحو التنوير.
ماذا نستطيع قوله حول الفلسفة الغربية بشكل عام؟ الى اي مدى كانت طرقها منسجمة مع البوذية؟
ان هدف الفلسفة لم يبتعد كثيرا عن اهداف البوذية. كل من الفلسفة والبوذية يريدان راحة البال، ولكي يكونا عقلانيان ذلك يتطلب تحولا في الوعي، وان الاسئلة الفلسفية تبدو احيانا مشابه للاقوال والوصايا البوذية. البوذي المتنور يمكنه الاستجابة الى اي نوع من السؤال، الالغاز، او الاسئلة التي لم يُجب عليها باستعمال الطرق البوذية. الفيلسوف، من جهته، له مهمة مختلفة. اولا، هو يحتاج للتمييز بين الاسئلة العقلانية والاسئلة غير العقلانية قبل ان يحاول الاجابة على الاسئلة العقلانية بطريقة منهجية. حالما تُطرح الاسئلة الصحيحة، الفيلسوف لا يُحتمل ان يسقط في التناقضات او يرتكب اخطاء في المنطق. هو عندئذ يستطيع السماح لقدراته العقلية ان تنمو بلا حدود بأمل ايجاد جواب، لكن يجب ان لايقع في فخ التفكير بان الجواب سيكون القول الاخير حول المسالة. سؤال اليقين لايمكن ان يكون سؤالا فلسفيا سليما، كما أظهر ديكارت بشكل لا ارادي، طالما لاشيء في عالم الفكر مؤكد، ولكن في عوالم ما وراء الفكر والافكار ربما يكون كذلك.