أكذوبة الإرادة الحرة!
د. ميثاق بيات ألضيفي
2019-03-30 04:05
مثلت الاكتشافات العلمية الجديدة والتطورات التكنولوجية تحديا أعمق للمثل الليبرالية لحرية الإنسان، وتمكنت فكرة الارادة الحرة من البقاء لعدة قرون مع تزايد التقنيات القادرة على تآكل حرية الإنسان من الداخل، ولاستيعاب هذا التحدي الجديد دعونا نبدأ بفهم معناها في العالم المعاصر ولنحاول إدراك ماهية نظرتها للعالم بشكل عام، ولو اردت اختبار نفسك فطبقها عليك كاشفا دورها ومستقصيا اثرها وأسأل ذاتك هل تعتقد أنه يجب على الناس انتخاب حكومتهم بدلاً من طاعتها بصورة عمياء؟ وهل تعتقد أن الشخص يجب أن يختار مهنته بدلاً من الانتماء بالولادة لطبقة ما؟ وهل تعتقد أن الشخص يجب أن يختار زوجته بدلاً من الزواج بحسب اختيار وقرار من والديه؟ إذا أجبت بنعم على الأسئلة الثلاثة فتهانينا أنت ديمقراطي !!
الديمقراطية تدافع عن حرية الإنسان لأنها تفترض أن الناس كيانات فريدة تتمتع بالعقل ومن الناحية النظرية بإلأرادة حرة، وهذا هو ما يجعل المشاعر الإنسانية والقرارات أعلى سلطة أخلاقية وسياسية في العالم ولكن ولسوء الحظ فأن الإرادة الحرة ليست حقيقة علمية وإنما أسطورة، نحن نتباهى بأن قراراتنا هي انعكاس للإرادة الحرة لأرواحنا الأبدية والتي هي مستقلة تمامًا عن أي قيود فيزيائية وبيولوجية، غير إن هذه الأسطورة لا علاقة لها بما يخبرنا به العلم عن البشر بأنهم وبلا شك لديهم إرادة لكنها ليست حرة مع انهم يتخذون القرارات لكنها ليست قرارات مستقلة أبدًا إذ يعتمد كل واحد منهم على الظروف البيولوجية والاجتماعية الخارجة عن إرادته.
هذه ليست نظرية مجردة فمن السهل ملاحظتها وأذا راقبت رأيك بعناية فستدرك أن لديك القليل من التحكم في ما يحدث فيه وأنك لا تقرر بحرية بالذي تفكر فيه أو ما تشعر به أو ما تريده، حتى حين تحاول النوم فأحيانا ستظل مستيقظًا من خلال سلسلة مستمرة من الأفكار والمخاوف المزعجة وإذا كان لنا أن نختار بحرية فلماذا لا نستطيع وقف تدفق الأفكار والاسترخاء؟ ورغم أن الإرادة الحرة كانت دائمًا خرافة إلا أنها كانت مفيدة في القرون السابقة ومع ذلك فإن الإيمان بالإرادة الحرة أمر خطير إذ تمكنت الحكومات والشركات من اختراق الأدمغة البشرية أو قرصنتها وإن أسهل الأشخاص الذين يتم التلاعب بهم هم أولئك الذين يؤمنون بالإرادة الحرة. وكل من يؤمن بالقصة الليبرالية التقليدية سوف يميل إلى التقليل من أهمية هذه المشكلة على اساس إن لا أحد يستطع أن يتنبأ بقراره أو يتلاعب به لأن قراره هو انعكاس لإرادته الحرة، ولذا فليس غريبا إن قلنا إن تجاهل المشكلة لن يجعلها تختفي بل إنه سيعمل فقط على جعلنا أكثر عرضة للخطر. وان الإيمان الساذج في الإرادة الحرة يعمينا وعندما نختار شيئًا ما أو منتجًا أو مهنة أو زوجا أو ننتخب سياسيًا نقول إننا أخترناه بمحض إرادتنا ولا يوجد سبب يدعو للفضول حول الاسباب والقوى التي دفعتنا إلى اتخاذ ذلك القرار والأختيار.
ولقد طورت الديمقراطية ترسانة مثيرة للإعجاب من الحجج والمؤسسات للدفاع عن الحريات الفردية ضد الهجمات الخارجية من الحكومات القمعية والمتعصبة، لكنها ليست مستعدة لوضع لا تقوض فيه الحرية الفردية من الداخل ففيها لم تعد مفاهيم الحرية و الفرد منطقية، وللبقاء على قيد الحياة الفكرية نحتاج إلى أن نترك وراءنا الرؤية الساذجة للبشر كأفراد أحرار وأن نقبل ما نحن فيه واقعيا لأننا نحن بحاجة إلى معرفة أنفسنا بشكل أفضل، وبينما أنت تقرأ هذه السطور فبذات الوقت تعمل الحكومات والشركات الكبرى لقرصنتك إذ تعرفوا على دواخلك أكثر مما تعرفه بنفسك عن نفسك فلهذا يمكنهم بيع كل ما يريدونه اليك سواء كان منتجًا أو فكرة أو سياسة.
من المهم بشكل خاص معرفة نقاط ضعفنا لأنها الأدوات الرئيسة لأولئك الذين يحاولون قرصنتنا عبر المخاوف الموجودة فينا مسبقا والكراهية والتحيزات والرغبات، ولا يستطيع القراصنة خلق الخوف أو الكراهية من لا شيء لكن عندما يكتشفون ما يخشاه الشخص ويكرهه بالفعل فيسكون من السهل عليهم تشديد المكسرات العاطفية المقابلة وإثارة غضبه أكثر وأكبر. وإذا لم نتمكن من التعرف على أنفسنا وحمايتها من خلال جهودنا الخاصة فربما يمكننا أن نستخدم نفس التكنولوجيا التي يستخدمها القراصنة لحماية اجهزتهم وذلك عبر أستخدامنا لبرنامج مكافحة الفيروسات للعقل وللارادة وسوف يتعلم ذلك المساعد المصطنع من التجربة ما هو الضعف الخاص للشخص وسيكون قادرًا على منعهم.
ومع ذلك فكل هذا ليس إلا جانبا هامشيا وإذا كانت قراراتنا وآرائنا لا تعكس إرادتنا الحرة فما الفائدة من العقل والقرار والسياسة؟ طوال قرون ألهمت المثل العليا مشاريع سياسية تهدف إلى إعطاء أكبر عدد ممكن من الناس القدرة على متابعة أحلامهم وتحقيق رغباتهم عبر التلميح والسير لنكون أقرب وأقرب من الوصول إلى الهدف غير إننا لم ندرك أنه كل ذلك ما كان في الحقيقة سوى خدعة تمت بذات التقنيات التي اخترعناها لمساعدة الناس على متابعة أحلامهم والان هي تسمح لهم بإعادة تصميمها فكيف إذن يمكننا الوثوق بأي من أحلامنا؟
من الممكن أن يمنحنا هذا الاكتشاف نوعًا جديدًا من الحرية بتعاملنا بحزم مع رغباتنا وسعينا إلى الحرية اللازمة لتحقيقها فماذا سيحدث إذا توقفنا عن الطاعة العمياء لرغباتنا وارادتنا المزيفة؟ ماذا سيحدث عندما نلاحظ بعناية الفكرة التي تطرأ في أذهاننا ونسأل أنفسنا من أين أتت؟ ماذا سيحدث لو اعتقدنا أحيانا أننا إذ نبذنا الإرادة الحرة فسنصبح غير مبالين تمامًا وسنتوقف في الزاوية ونترك أنفسنا تموت من الجوع، غير إن الحقيقة ترتكن في التخلي عن هذا الخداع الممكن أن يثير فينا فضول عميق وطالما أننا نتعاطف بحزم مع أي تفكير ورغبة تنشأ في أذهاننا فلن نحتاج إلى بذل جهود كبيرة لمعرفة أنفسنا لأننا نعتقد أننا نعرف جيدًا من نحن، لكنه عندما يدرك المرء أن هذه الأفكار ليست أفكاره وهي مجرد اهتزازات كيميائية حيوية معينة، كما أنه حين يدرك أنه ليس لديه فكرة عمن أو من هو ومن يكون، فستكون تلك بداية مغامرة لاستكشاف أكثر إثارة يمكن للمرء القيام به.
وهنا نتساءل بعمق كيف يكون هنالك وجود للديمقراطية في عصر تستطيع فيه الحكومات والشركات الكبرى قرصنة ارادة الناس؟ أين التأكيدات لسيد الشعارات "يعرف الناخب ما هو مناسب"؟ وكيف نعيش عندما نفهم أننا فكريا واراديا قابلين للقرصنة وأن قلوبنا يمكنها أن تكون عميلة للافراد والمنظمات والحكومات؟ وأن الفكرة التي تتبادر إلى الذهن لا تكون نتيجة للإرادة الحرة بل لخوارزمية تحركنا وتعرفنا أفضل من أنفسنا؟ هذه هي الأسئلة الأكثر إثارة للاهتمام والتي يجب أن تواجهها البشرية وتجيب عليها!.