دموية الدين أم دموية السلطة؟

قراءة في التشويش الفكري للميديا

عادل الصويري

2018-12-26 07:30

يختلط الأمر دائماً عند كثير من الأجيال الشابة المتفاعلة انفعالياً مع الضخ الذي يستهدف الأديان، وخصوصاً في المواقع الاتصالية الالكترونية بحيث يتم تصوير كل أحداث الخراب على أنها نتاج الأديان التي تزيد من مشاكل الإنسان بحسب الرؤية الضيقة والممنهجة لهذا الضخ.

إنَّ تسارع الوتيرة الاتصالية في العقود الأخيرة ضَيَّقَ إلى درجة كبيرة فرص إنضاج الوعي لدى الأجيال الشابة التي ارتضت بأن تمارس ببغائيةً تقليديةً لا تستند إلى المعرفة، فراحت تهاجم الدين بهدف عرض العضلات من دون التدبر في الفكرة التي يتم على أساسها توجيه النقد، فضلاً عن المجانية النقدية الهذيانية التي صارت متاحة.

ومن المواضيع التي يكثر الكلام فيها؛ تلك المقارنة غير الناضجة ــ تنضج فقط في الوسائل الاتصالية ــ بين ديانة وأخرى، من دون أن يتم الالتفات إلى قصدية تسقيط الأديان من خلال إشاعة الموجة النقدية المتهافتة والقائمة على الإطلاقية في منح صفة الدموية لهذا الدين، وصفة السلمية للدين الآخر. وفحوى هذه الموجات النقدية الموجهة للأديان يتمحور حول الحروب الكثيرة التي شهدتها الفترات الزمنية لتلك الأديان. لكن الجانب المُغَيَّب، والذي يحرص أصحاب القصد على تغييبه؛ هو مسببات تلك الحروب وجذورها الأصلية، إذ إن أسباب تلك الحروب ناتجة أصلاً عن انحرافات القيم الدينية، التي غالباً ما تولد الصراعات الدموية؛ لذا نحن إزاء دموية سلطوية يراد تذويبها، وتحميل هذا الدين أو ذاك مسؤولية حدوثها.

والقسم الثاني من هذا النقد المجاني يرتكز على ما يُعرف بـ (دموية الإسلام)؛ لتصوير هذا الدين على أنه دين للتوحش والاستعمار، في حين أن مسببات الدموية السلطوية الانحرافية هي ذاتها، لكن عملية الاخفاء جارية بوتيرة متصاعدة، فلا سبيل للحديث عن الدموية السلطوية التي حدثت في أزمنة الديانات الأخرى، كالصراع السلطوي مثلاً بين الكنيسة وبين حكام الدولة البيزنطية.

لا شيء أخطر على الأجيال الشابة من الوقوع في فخاخ التشويش الذهني والفكري، يقول الكاتب والروائي المعروف يوسف زيدان : "إن الخطأ الذي ارتكبناه ، فأربكنا و شوّش علينا ، هو أننا توهمنا أن تاريخ الحكام و الخلفاء و السلاطين ، هو تاريخ الإسلام . و أهملنا الوقوف عند صناع التاريخ الحقيقي ، الإنساني ، من صوفية و علماء و أدباء و فلاسفة مع ان هؤلاء العباقرة كانوا في كل مرحلة تاريخية ، و في تاريخ الجماعات الإنسانية جمعاء ، هم الأكثر تأثيراً علي المدي القريب و البعيد المحلّي و العالمي الإسلامي و الإنساني"

الميديا آخر الأسلحة قبل الاحتضار

ويبدو أن مروجو هذه الموجات النقدية انتبهوا إلى أن "علمانيتهم" تعيش حالة احتضار؛ لذلك فإن الميديا تعتبر آخر أسلحتهم التشويشية ، فضلاً عن موجة تحديث متأخرة لدى بعض العلمانيين الذين انتبهوا إلى المعطيات الإقصائية لمنظومتهم، وإلى الأزمة الواضحة لخطابها، تستدعي الركون إلى واقعية عودة الدين ليأخذ مكانه الطبيعي في الفكر المعاصر والحداثي، من خلال تبيان الرؤية الدينية وموقفها من التجديد والمعاصرة، بعد مراجعة الأفكار الإصلاحية التي انطلقت من المفكرين الإصلاحيين الدينيين الذين اعتمدوا السؤال المهم الذي طُرح في قرون ماضية: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ مع التركيز على عدم اختصار الإسلام للحداثة بنمط فكري يرى أن الدول التي حباها الله بالموارد هي دول متقدمة على صعيد العمران ــ مثلاً ــ ، بل نريد أن تكون حداثتنا منطلقة من العقل والأفكار التنويرية، وليس فقط من خلال المردودات الاقتصادية لهذه الموارد.

وهذا يعني أن صراعاً خفياً بدأ يظهر بين العلمانيين أنفسهم، بين من يتبنى الإقصاء التسقيطي للقيم الدينية، وبين من يدعو لمراجعة أزمة الخطاب التي قد تثير تساؤل الـ (ما بعد)، حيث ظهر مفهوم (ما بعد العلمانية) نتيجة الخطاب العلماني المرتبك، وهو مصطلح يبدو أنه يشير إلى خلخلة في القناعات، خصوصاً المتعلقة بالدين ودوره في الحياة. وفي الحقيقة أن ظهور هذا المصطلح هو تأكيد لقناعة أن العلمانية بكل موجهّاتها التشويشية وصلت لمرحلة الاحتضار الفكري، وفقدت كل مقومات وأدوات إدامة الصراع الزمني المرهق بينها كمنظومة تدعو لتحييد الدين، وبين أخرى ترى في الدين والدفاع عنه مبرراً لتأكيد حضورها السلطوي، وهو الصراع الذي لم يعد بتلك الأهمية التي تستوطن ذهنية البشرية بعد التغييرات الكبيرة التي يشهدها العالم، وبذلك ليس هناك من حل أخير لدى متبني التشويش الذهني والفكري سوى الميديا، وهو رهان قد يسقط خلال فترة ليست بالطويلة.

ذات صلة

لماذا لا يدفعون الثمن؟التنفيذ المركزي واللامركزي في العراق.. التخصيصات الاستثمارية مثالاًالتفكيرُ عراقيَّاًفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.. التطور والنقدالإرهاب الصامت