عن التطورات الحالية في العراق
موقع الامام الشيرازي
2018-07-19 09:29
حارث حسن
أتابع تعليقات بعض ممثلي الأحزاب المهيمنة، ومعظمها تحاول أن تربط ما يحدث من اضطرابات بأجندة سياسية أو بتدخل خارجي ما، رغم فقدان الدليل، ورغم أن صور الاحتجاجات ومشاهدها تظهر أن معظم المشاركين فيها من الشباب، ويغلب عليها الطابع الارتجالي من حيث التنظيم والقيادة.
أعتقد بأن ذلك يعكس طريقة التفكير السائدة لدى الطبقة الحزبية المهيمنة، التي مازالت تعتمد على قاموسها القديم وتوجهها في إنحيازاتها السياسية الأيديولوجية في تقدير المواقف، بدل البحث عن المعطيات التي أعتقد أنها كانت حاضرة وواضحة، ولا يغفلها إلا من لا يوجد في خريطة تفكيره أشياء مثل السخط المجتمعي، البطالة، الحوكمة الفاشلة، الفوارق الطبقية، وطبعاً هذه أمور ليست من أولويات قوى تعتقد أنها جزء من معركة أيديولوجية ضخمة أو صراع جيوسياسي كوني أو ببساطة، أن وجودها في الحكم هو ثمن تضحياتها السابقة، ولا يترتب عليه أية مسؤوليات حقيقية.
أتذكر أنني قبل عامين، سألت واحداً من كبار السياسيين العراقيين، ومن صنّاع ومشكّلي الوضع السياسي بعد العام ٢٠٠٣ سؤالاً بسيطاً: في ظل تراجع أسعار النفط والموارد المتاحة، ومع مجتمع متضخم ديموغرافياً، تبلغ فيه نسبة من هم تحت ٢٤ عاماً حوالي ستين بالمئة، ومع قطاع عام منتفخ وغير فعّال، وفساد مستشري، ألا تخشون من أزمة اجتماعية-اقتصادية تؤدي الى اضطرابات؟ نظر إليّ الرجل وكأنني أتحدث عن شيء غريب لم يفكر به أصلاً، (وهو الذي كان موقعه يتطلب منه التفكير به في كل يوم)، وبعد صمت، عاد الى حديثه المفضل عن المؤامرة الكونية والصراع الجيوسياسي والمحاور الإقليمية...
لا يمكن حتى للعلوم الاجتماعية أن تتنبأ بلحظة حصول انفجار اجتماعي أو اضطرابات (درس الربيع العربي)، لكن ما يمكنها أن تفعله هو أن تبحث عن المعطيات والحقائق الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقتها بالوضع السياسي وطرق الحكم، لتؤشر ما إذا كان الوضع القائم قابلاً للاستمرار أم إنه في لحظة معينة، ومع توفر شروط موضوعية أو ذاتية محددة، قد يؤول الى أزمة خطيرة.
وأعتقد أن الكثير من المعطيات كانت تشير الى أن العراق مقبل على أزمة اقتصادية واجتماعية، قد تتسبب بانفجار جديد، وفي الحقيقة، تأكدت لدي هذه المعطيات في ورشة عمل نظمت في بغداد، مطلع آذار الماضي، حول الاقتصاد السياسي في العراق، وبعد الورشة كتبت تقريراً للأسف تأخر نشره، ولكن موعد إطلاقه الرسمي سيكون في يوم ١٧ تموز، أشرت فيه الى أن الاضطراب المقبل في العراق قد لا يكون ناتجاً عن تحدي جماعة جهادية كداعش، بل بسبب شكاوى اجتماعية-اقتصادية، ناتجة عن فشل طرق الحكم (وبعبارة أوضح، إن أكبر تحدي للطبقة السياسية الشيعية -كما هو الحال مثلاً بالطبقة السياسية الكردية- ليس تمرداً في المناطق ذات الغالبية السنية، بل تمرداً في المناطق ذات الغالبية الشيعية).
يكفي فقط ملاحظة المعطيات الديموغرافية، من حيث نسبة الشباب العالية، ثم ربطها بالوضع الاقتصادي حيث تتراجع موارد الدولة ويعجز القطاع العام (المتضخم اصلاً) عن استيعاب البطالة، في ظل عدم تطور قطاع خاص فعال، ومع استشراء الفساد السياسي والمحسوبية، وما خلقه ذلك من تباينات طبقية، وصعود بعض الفئات التي لديها امتياز الوصول الى مفاصل السلطة، (وفي العراق السلطة السياسية هي التي تشكل -الى حد كبير- الحظوظ الاقتصادية وليس العكس)، يمكن فهم بعض أسباب ومحفزات هذه الاضطرابات. ببساطة، حجم الطلب والحاجات الاجتماعية صار يتجاوز بقدر كبير قدرة الموارد المتاحة ونظام السلطة الذي يديرها على تلبية هذا الطلب، والمعادلة في هذه الحالة، إما أن تصبح الدولة العراقية أكثر قمعية لمنع حركة الاحتجاجات من تهديد سلطة المسيطرين عليها، أو تصبح أكثر هشاشة لأن قوة الحركة الاحتجاجية تفوق قدرتها على الاستجابة، وقد يفضي الوضع في أسوأ سيناريو الى انهيارها.
بغض النظر عن مآلات هذه الأحداث، وعن طبيعة الفعل المضاد الذي ستلجأ له القوى المهيمنة سياسياً وعسكرياً، فإن على الطبقة السياسية العراقية أن تتخلى عن قاموسها القديم، وأن تفهم أن لغة الهويات والاستقطابات الجيوسياسية لا يمكنها لوحدها أن تفسر الأحداث، فضلاً عن تكون قادرة على التعامل مع التحدي الاجتماعي- الاقتصادي الراهن والمستقبلي.