متى نجعل من فاجعة البقيع يوماً عالمياً؟
عبد الرزاق عبد الحسين
2018-06-24 07:55
الأمم المتقدمة تحتفل بإرثها، وتحتفي بما ينجزه الماضون من أبنائها، فكل صنعٍ ماديٍّ أو فكريّ معتبَرٍ يُنجَز ماضياً، سيدخلُ في عِداد التراث الخاص بالأمة وبالتاريخ الإنساني، ولا يجوز التطاول عليه أيّاً كانت الذرائع التي تشخص بالضد منه، فما بالك حين يترفّع هذا المنجز ويسمو على العادي، فقبور الأنبياء والأولياء لها قدسيتها على المستوى الإنساني، ومن بابٍ أولى أن تقدّسها الأمة التي تنتسب لها.
في البقيع دُفِنَ كثير من الأئمة والأولياء في زمن النبي محمد (ص)، وبعض القبور علَّمها الرسول (ص) بنفسه، أي وضع لها العلامات (الأسماء والتواريخ) بيده الكريمة، واستمر المسلمون في هذا النهج بعد ذلك ولم يعترض أحد منهم على تشييد القبور، الإمام محمد الشيرازي يقول:
(أبتدِئ الدفن في جنة البقيع منذ زمان النبي الأعظم)ص)، وأحياناً كان الرسول (ص) بنفسه يعلّم على قبر المدفون بعلامة). ويضيف (قًدس سره): (ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين وبأمر من العلماء. كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما. وقد تلقى جميع المسلمين بكل حفاوة وترحاب هذه الظاهرة الشرعية لا في المدينتين وأطرافها فحسب، بل في سائر بلاد الإسلام كالهند بما فيها الباكستان وبنغلادش، وكذا العراق وإيران ومصر وسوريا وإندونيسيا وغيرها/ المصدر، كتاب البقيع الغرقد للإمام الشيرازي).
فلماذا يأتي اللاحقون ويهدّمون الأضرحة والقبور؟، ومن أباح لهم مخالفة ما سنّهُ الرسول الأكرم بنفسه؟، ثم من سمح للوهابيين أن يتجرّؤوا فيفعلوا فعلتهم النكراء، ويهدموا قبور أولياء الله وأئمة المسلمين من أبناء الشجرة المحمدية المباركة؟، غريب أمر هؤلاء حقا، وهم يخالفون سنن المسلمين وما بدأه الرسول (ص) بنفسه، ثم يعلنون بلا خجل أو حياء بأنهم يسيرون على نهج الإسلام، إنه في الحقيقة إسلامهم المناهض لإسلام (محمد).
يُكمل الإمام الشيرازي كلامه فيقول: (إلى أن هدم الوهابيون أكثرها في الحجاز منذ مئتي سنة، ثم استرجعها سائر المسلمين، وبعد زهاء ثمانين سنة استولى الوهابيون على البلدين المقدسين مرة ثانية وهدموا القباب وأحرقوا المكتبات! وكانت فيها كتب ثمينة جداً.. ولو كان دأب الوهابيين أو كان إيحاء من الخارج إليهم بهدم المساجد لهدموها أيضاً).
هذا يعني أن الوهابيين لم يكفِهم هدم قبور أئمة المسلمين من نسل الرسول الأكرم (ص)، فأوغلوا بجرائمهم ليحرقوا عينة الكتب التي تركها علماء المسلمين لمن يأتي بعدهم، فحرموا هذه الأمة من فكر سديد، ولعل الأشدّ خطرا نواياهم البائسة في هدم قبة الرسول، لو لا التظاهرات العارمة التي ضجّت بها بلدان المسلمين رافضة لهذا المعلَن الخطير.
يرد أيضا في كتاب البقيع الغرقد: (كما أنّ الوهابيين أرادوا هدم قبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لكن تظاهر المسلمين في الهند ومصر ولعل غيرهما أيضاً، أوقفهم عن ذلك في قصة معروفة، وهم يحنّون لذلك إلى الآن، حتى أن عالمهم (بن باز) لا يزور مسجد الرسول (ص) قائلاً: ما دام هذا الصنم (أي قبة الرسول) هناك لا أزوره، لكن الزمان مرّ عليه ولا يأبه بكلامه أحد).
تُرى أي الأسباب أشعلت فتيل التطرف هذا، وما الوقود الذي أدام هذا الاشتعال التطرفي في الفكر والفعل الشنيع، إن الفكر الوهابي المحرّض المتشنّج الداعي إلى إثارة الفتن هو من يقف وراء ترويج السبّ وتأليب المسلمين على بعضهم، فهم لم يكتفوا بما فعلو من أعمال هدمٍ وحرق، فذهبوا إلى تأجيج المسلمين بعضهم على بعض، مستخدمين الفكر المريض سفينة للوصول إلى ما يهدفون.
أكد ذلك الإمام الشيرازي شخصيا فقال: (لقد رأيت أنا بنفسي عند ذهابي إلى الحج رواج مختلف أنواع السباب وأنواع الخشونة إلى حد غريب من أناس يدّعون أنهم أتباع القرآن! الذي يقول: أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
وأمر طبيعي حين يسود منطق السبّ وتأليب القلوب المتآخية على بعضها، وترويج أسلوب الخشونة والتعنيف، تتأزم علاقات المسلمين مع بعضهم، بالأخص حين يجد المستعمِر أداة تحقق له ما يصبو إليه: (ونتيجة لذلك العنف والخشونة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبأمر من المستعمرين جاء هدم البقيع وسائر البقاع المشرفة هناك/ البقيع الغرقد).
فما هو المطلوب من مسلمي هذا العصر، هل الصمت على الوهابيين وفكرهم الأعوج هو الحلّ، وهل ترك قبور الأئمة الأطهار مهدّمة حتى يومنا هذا هو المنهج الأصحّ، بحجة عدم إثارة الفتن، أليس الصحيح إعادة الحقوق إلى آل البيت (ع) هو المنهج القويم، ثم ألا نحتاج كمسلمين إلى يومٍ عالمي في حملة لا كللَ يعتورها ولا ملل نخصصه تحت عنوان (إعادة قبور البقيع مطلب إسلامي)، فمتى سيتحرك المسلمون صوب هذا اليوم المنشود، وماذا ينتظرون كي يبدؤوا حملتهم الإسلامية العالمية لإحقاق الحق، ووأد حملات المغرضين المنحرفين؟.
إن المسلمين يحتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تثبيت وإعلان يوم عالمي يتجدد على الدوام، ويحيي ويُظهر الآثار المفجعة لهدم قبور أئمة المسلمين في البقيع، كما أننا يجب أن نستحثّ المنظمات العالمية المستقلة المعنية بالتراث العالمي والإسلامي، كي يقفوا إلى جانب إعادة هذه المناقب النبوية المكرّمة، بالأخص أن من اقترف هذه الفعلة النكراء هم من حاملي سيوف الشر، فقاموا بما قاموا بقوّة الأشرار وليس الأخيار كما يدّعون، لذلك هؤلاء في طريقهم إلى السقوط لأنهم يخالفون سيرة الرسول (ص)، بيْدَ أن التعديل يستوجب المثابرة والحثّ على إعلان اليوم العالمي للبقيع كي تكون المواجهة جلية وحاسمة أيضا.
(إن الذين هدموا بقاع البقيع وسائر البقاع المباركة لم يفعلوها إلا بالسيف من دون أي منطق عقلائي، وهذا خلاف سيرة جميع الأنبياء والمرسلين والأئمة الصالحين، كما أنّ المنطق هو الذي يصلح للبقاء، وإلا فصاحب السيف يسقط حين يسقط سيفه، والسيف مؤقت جداً/ المصدر: البقيع الغرقد).
وأما سقوط سيوف الشر وأصحابها، فيريد عملا لا يكلّ، وأيادٍ لا تملّ، وقلوبٍ لا تزلّ، فبقاء هذه السيوف مشرعة يعني أن المسلمين يغضون الطرف عن أصحاب الفكر التكفيري المتطرف، ولا تعنيهم القلوب التي تغصّ بالغلّ، ولا يعبأ مسلمو الحاضر بمستقبل أبنائهم المسلمين من الأجيال التي تلوح في أفق الحياة، فالأمر تعوزه الإرادة وقبلها حسن التفكير والتخطيط، ومن بينها وقد يكون أهمها إعلان (اليوم العالمي لإعادة قبور البقيع) جهاراً نهاراً، دونما تردد، فنحن نقف في مواجهة إرادة الفكر الشرير، وطالما بقيت القبور الشريفة مهدّمة، هذا يعني أن سيوفهم لا تزال مرفوعة على رقاب المسلمين، فارضين عليهم القبول بالهدم بالقوة:
(إنَّ بقاء القبور المباركة مهدَّمة دليل على أنه لازال السيف بيد الهادمين إلى الآن، ولكن عندما يسقط السيف من أيديهم، ستجد المسلمين جميعاً في نفس اليوم آخذين في البناء./ الإمام الشيرازي: البقيع الغرقد)، فمتى يبدأ المسلمون بمهمتهم في إحقاق الحق وتقليم براثن الباطل؟؟.