التطور التاريخي لمفهوم الغائية
حاتم حميد محسن
2018-06-09 04:20
يشير مصطلح الغائية (Teleology) الى سبب او توضيح لشيء ما في انجاز هدفه او غايته. انه مشتق من كلمتين يونانيتين هما تيلوس (الغاية) ولوغوس (السبب او التوضيح). الغاية التي تُفرض عبر استعمال الانسان تسمى غاية خارجية extrinsic مثل استخدام الكأس. اما الغائية الطبيعية فهي شائعة في الفلسفة الكلاسيكية لكنها مثيرة للجدل اليوم وهي تزعم بان الوجودات الطبيعية ايضا لديها اهداف باطنية او داخلية intrinsic بصرف النظر عن رأي الانسان فيها او استخدامه لها. فمثلا ارسطو ادّعى بان الغاية الباطنية لجوزة البلوط هي ان تصبح شجرة بلوط كبيرة.
ومع ان الذريين القدماء رفضوا فكرة الغائية الطبيعية لكن التفسير الغائي للطبيعة اللا انسانية او اللا شخصية جرى استكشافه والقبول به في الفلسفة القديمة وفلسفة القرون الوسطى، غير انه جوبه بالرفض في العصر الحديث (1600-1900). وفي اواخر القرن الثامن عشر استخدم عمانوئيل كانط مفهوم التيلوس كمبدأ تنظيمي في كتابه (نقد الحكم)، كذلك كان التيلوس اساسيا في فلسفة هيجل التأملية.
لازال الفلاسفة والعلماء المعاصرون يناقشون ما اذا كانت قصة التيلوس مفيدة ودقيقة في عمل الفلسفة والعلوم الحديثة. فمثلا، في عام 2012 اقترح توماس ناجل تفسيرا غير داروني للتطور يدمج قوانين تيلولوجية طبيعية في تفسير وجود الحياة والوعي والعقلانية.
في الفلسفة الغربية نشأ مفهوم التيلولوجي في كتابات افلاطون وارسطو. الأسباب الاربعة لأرسطو تولي اهمية خاصة لـ "السبب النهائي" او الغاية لكل شيء. هو هنا يتبع افلاطون في رؤية الهدف في كل من طبيعة الانسان وما دون الانسان.
افلاطون
في حوار فيدو لافلاطون، يجادل افلاطون من خلال سقراط بان التفسيرات الحقيقية لأي ظاهرة فيزيقية يجب ان تكون غائية. هو يأسف على اولئك الذين فشلوا في التمييز بين الاسباب الضرورية للشيء والاسباب الكافية وقد اطلق عليهما تباعا بالأسباب المادية والنهائية (فيدو، ص 98-99).
هنا يجادل افلاطون بان المواد التي يتركب منها الجسم هي شرط ضروري لحركته وفعله بطريقة معينة لكن تلك المواد لا يمكن ان تكون شرطا كافيا لحركته وفعله (الشرط الضروري يجب ان يكون حاضرا في الحدث لكي يحدث لكنه لا يزود سببا كافيا لحدوث الشيء، اما الشرط الكافي هو الذي يصنع الحدث). فمثلا اذا كان سقراط جالسا في احد سجون اثينا فان مرونة الاوتار المربوط بها هي التي تسمح له بالجلوس، وبهذا فان وصف فيزيقي لأوتاره يمكن طرحه كشرط ضروري لفعل الجلوس الذي كان فيه (فيدو، ص996). غير ان هذا الشرط هو فقط شرط ضروري لجلوس سقراط. لكي نعطي وصفا فيزيقيا لجسم سقراط هو ان نقول بان سقراط جالس، لكن هذا الوصف لا يعطينا اي فكرة لماذا الجلوس وليس عدم الجلوس في المقام الاول. لكي نقول لماذا هو كان جالسا بدلا من عدم الجلوس علينا ان نوضح ما هو الشيء الخير او الجيد في جلوسه. لكي نعطي توضيحا لشيء ما علينا ان نقرر ما يتعلق بخيريته. خيرية الشيء هي سببه الحقيقي او غرضه (Timaeus 27d 8-29a).
ارسطو
بنفس الطريقة، جادل ارسطو بان ديمقريطس كان خاطئا في محاولته اختزال كل الاشياء الى مجرد ضرورة لأن عمل كهذا يتجاهل الهدف او النظام او السبب النهائي الذي خلق هذه الشروط الضرورية:
ديمقريطس يتجاهل السبب النهائي، يختزل كل عمليات الطبيعة بالضروري. الان هي ضرورية، ذلك صحيح، ولكن لاتزال هي لغرض سبب نهائي ولأجل الأحسن في كل موقف. وهكذا، لا شيء يمنع السن من ان يتشكل بهذه الطريقة ولكن ليس بسبب هذه الاسباب وانما بسبب الغاية... (ارسطو، اجيال الحيوانات V8,789a8-b15).
في الفيزياء رفض ارسطو افتراض افلاطون بان الكون خُلق بمصمم ذكي مستعملا اشكالا خالدة. ارسطو يرى ان الغايات الطبيعية يتم انتاجها بواسطة "الطبيعة"(مبادئ التغيير هي داخلية للكائن الحي)، والطبيعة كما يرى ارسطو لا تتأمل.
هذه الآراء الافلاطونية والارسطية هي في تصادم مع تلك الاراء المبكرة لديمقريطس ولاحقا للكروتوس اللذين كانا يؤيدان ما يسمى حاليا بالمصادفة accidentalism:
لا شيء في الجسم يُصنع لكي نستعمله. ما حدث لما يوجد في الجسم هو سبب استعماله (Lucretius. on the nature of things.,IV,833)
المعارضون
منذ فرنسيس باكون، جرى عمدا تجنب التفسيرات التيلولوجية في علم الفيزياء لمصلحة التركيز على التفسيرات المادية والفعالة. السببية النهائية اعتُبرت زائفة او ذاتية جدا.
بعض الحقول خاصة ضمن البايولوجيا التطورية تستمر باستخدام لغة تيلولوجية عندما تصف الميول الطبيعية نحو ظروف غائية معينة. وبينما يجادل البعض بان هذه النقاشات يمكن التعبير عنها في اشكال غير تيلولوجية، آخرون يرون ان اللغة التيلولوجية لا يمكن منعها من طرح اوصافا في علوم الحياة.
الاقتصاد
لعبت غايات الانسان التيلولوجية دورا حاسما في عمل الاقتصادي لودوج فون مايسس Ludwig Von Mises خاصة في تطوير علم الباروكسولوجي. هو اعتقد بان افعال الانسان والسلوك الهادف هي افعال تيلولوجية مرتكزة على افتراض مسبق بان افعال الفرد محكومة او تنشأ عبر غاياتها المختارة، وبعبارة اخرى، ان الفرد يختار مايراه الاكثر ملائمة لتحقيق ما يسعى اليه من هدف. مايسس اكد ايضا على ان التيلولوجي المتعلق بفعل الانسان ليس مستقلا عن السببية كما يقول "لا يمكن تصميم فعل بدون فكرة محددة عن العلاقة بين السبب والنتيجة، التيلولوجي يفترض السببية سلفا".
التاريخ
عندما عرّف ارسطو التيلوس ذلك كان في سياق من الجدل الطويل في السياسة والتي كانت تشير الى الهيكل السياسي والاجتماعي لدولة المدينة. ارسطو ادّعى ان السياسة هي الميدان الاساسي لخلق السعادة الانسانية – اي ان الفرد يمكنه خلق تيلوس فقط بالمقدار الذي تسمح به بيئته السياسية والاجتماعية. هذه الفكرة كانت اساسية لدى الآباء الامريكيين المؤسسين الذين كتبوا اعلان الاستقلال القائل بان كل انسان ولد ومعه الحق في الحياة والحرية ومتابعة طريق السعادة. فكرة التيلوس اصبحت ايضا اساسية في معظم الدول الحديثة خاصة دول اوربا التي توفر الآن لمواطنيها تعليم مجاني ورعاية صحية ومساعدات اخرى.
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه تلك الدول تطور انظمة لترسيخ وتعجيل التيلوس لدى مواطنيها، برزت ثورة اخرى اعطت معنى جديدا للتيلوس وهي ثورة شارلس دارون الذي طور في القرن الثامن عشر نظرية التطور عبر الاختيار الطبيعي التي توضح بالضبط كيف ان الكائنات الحية تبدو تيلولوجية. كيف يبدو كل نوع وكل عضو في الكائن الحي يعمل لأجل انجاز هدفه الخاص. العين لكي ترى، القلب لكي يضخ الدم، الدماغ لكي يفكر، وكامل اعضاء الجسم لكي يتكاثر الكائن الحي وهو الهدف الطبيعي النهائي.
هل نظرية التطور توضح التيلوس ام تتعارض معه ؟
اذا كان هناك من يرى ان نظرية دارون توضح الغائية في الكائنات الحية فان آخرين يؤمنون بعكس ذلك بقولهم ان التطور يعمل من خلال عمليات عشوائية غير مصممة. بعض العلماء يرون ان نسبة التيلوس للكائنات الحية تشكل سوء فهم كبير للتطور وخطر جسيم على العقلانية. نسبة التيلوس للكائنات الحية يمكن استخدامها لتبرير التصميم الذكي الديني وهو انكار للعلم باعتباره الطريقة الوحيدة لإشتقاق الحقيقة الموثوقة. هم يؤكدون ان الاحياء ليس لها تيلوس، فمثلا، انت لا يجب ان تمتلك القدرة على التفكير لكي تكون ممتازا في جهودك المهنية وانما بسبب ان اسلافك تغيروا بما يكفي لتكون اكثر عقلانية من الاخرين وهذا الحدث ساعدهم في البقاء اطول ولديهم اطفال اكثر من غيرهم. امكانية العقل لخلق العلوم والتكنلوجيا او اي شيء اخر لم تكن السبب في تطورها. كل شيء تم مصادفة بفعل العمليات الميكانيكية العمياء للاختيار الطبيعي.
آخرون لاحظوا بانه على الرغم من ان وظائف التكيف التطوري (مثل القلب او الدماغ) لم تتطور لتعمل كما تقوم به، لكنه من المستحيل الحديث عنها او فهمها بدون الاشارة الى التيلوس الخاص بها. لا معنى للحديث عن قدرتنا على التفكير بدون ذكر ما ننجزه لأن التطور رغم انه تصادفي واعمى لكنه يقود الى أحياء لها امكانات طبيعية معينة. فمثلا العقل يعطينا القدرة على حل المشاكل وهو ما ساعد اسلافنا على البقاء، لذا من الصواب ان يكون لدينا عقل بسبب غايته حتى لو كانت تلك الغاية ليست السبب المباشر لتطور ذلك العقل.
الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة
تاريخيا، يمكن تعقب التيلولوجي الى الفلسفة الارسطية. عقلانية التيلولوجي جرى استكشافها من جانب عمانوئيل كانط كما انه كان اساسيا في فلسفة هيجل التأملية ومختلف صيغ المدارس الهيجلية الجديدة والتي اعتبرت تاريخ الجنس البشري في تضاد مع دارون وايضا مع المادية الديالكتيكية لكارل ماركس وانجلس ومع ما يسمى الان الفلسفة التحليلية. نقطة الانطلاق لم تكن حول المنطق او الحقيقة العلمية وانما حول "الهوية". وعي الانسان الفردي هو في عملية من السعي لتحقيق الاستقلالية والحرية، وهو ليس لديه خيار سوى التعامل مع الحقيقة الواضحة وهي ان الهويات الجمعية مثل التعددية في الرؤى العالمية والاخلاق والهويات القومية والثقافية تقسّم العرق الانساني وتضع مختلف الجماعات في تضاد مع بعضها.
هيجل تصور "الكلية" في المنافسة المتبادلة بين الجماعات في الرؤى واشكال الحياة في التاريخ كونها "انسياق نحو هدف" موجّه نحو نهاية التاريخ. التناقضات الموضوعية للموضوع وللذات سوف تتراكم بالنهاية الى شكل من الحياة يترك صراعات العنف في الخلف. هذه الفكرة التيلولوجية ذات الهدف للعملية الكلية للتاريخ تتجسد لدى العديد من كتّاب القرن العشرين رغم خفوتها الواضح بعد الحرب العالمية الثانية.
بالمقابل، التيلولوجي المرتكز على "القصص العظمى" جرى التخلي عنها من جانب الموقف الما بعد حداثوي واعتُبر التيلولوجي كاختزال واستبعاد وضرر للذين تضاءلت قصصهم او جرى تجاهلها.