الثقافة والحضارة من ثقافة النخب الى ثقافة الجماهير

حاتم حميد محسن

2018-04-18 06:56

لم تكن نظريات علم الاجتماع المصدر الوحيد في خلق وتطوير الآراء حول الثقافة وانما هناك مؤثر آخر يتمثل بالتقاليد الفكرية السائدة والتي بدورها تأثرت بميادين اخرى كالنقد الادبي. هذا الاتجاه سمي بثقافة وتقاليد الحضارة culture and civilization tradition(1).

ان ما نقصده بالتقاليد هي محاولة تقييم مختلف الثقافات تماما كما يقوم الناقد الادبي بتقييم اهمية وعلمية مختلف الكتب. كان الاتجاه التقليدي هذا خطيرا في نقده للثقافة الشعبية. وممجدا لقيمة الثقافة العليا بينما يعطي قيمة اقل لثقافة العامة. ان الاتجاه الحضاري التقليدي بشكل عام يدعم الميول النخبوية في الثقافة والتي ترى ثقافة الجماهير هي أدنى قيمة من ثقافة النخبة. وتعبير الثقافة العليا يواجه خطرا ويتجه نحو الانحدار. ان العديد من الكتاب يطرحون اسبابا مختلفة لتدهور الثقافة. لقد برز الاتجاه الحضاري التقليدي من اجواء القلق التي رافقت مظاهر التصنيع والتمدين urbanization والحداثة في القرن التاسع عشر. فالتغيرات الكبيرة التي احدثتها الثورة الصناعية قادت الى حالة من القلق الحاد حين اصبحت المظاهر الجميلة تحت التهديد.

ويرى جون ستوري ان اسباب القلق تلك تعود الى ظهور الثقافة المتميزة للطبقات الخاضعة. فالطبقة الصناعية في المدن النامية كان بإمكانها خلق ثقافة مستقلة بعيدة عن تدخل الطبقة المسيطرة. فالتصنيع والتمدين اعاد رسم الحدود الثقافية، فلم يعد هناك ثقافة مشتركة مع الثقافة القوية وانما اصبح ولأول مرة في التاريخ وجود ثقافة منفصلة للطبقات الخاضعة في المراكز الصناعية والضواحي.

الثقافة (دراسة الكمال)

يُعتبر ماثيو ارنولد (1822-1888) من أشهر كتاب الثقافة والحضارة، فهو كان شاعرا وناقدا ومدرسا في احدى المدارس. الا ان اهم اعماله هو كتاب (الثقافة والفوضى) الذي صدر لأول مرة عام 1869 واعيد طبعه عام 1960. يرى ارنولد ان الثقافة هي دراسة الكمال والتي من شأنها ان تقود الى كمال متناسق لكل جوانب انسانيتنا ثم الى كمال عام بتطويرها لكل اجزاء المجتمع. والناس يصبحون مثقفين باتباعهم طريق الكمال.

يرى ارنولد ان متابعة طريق الكمال لم يعد هو الشائع في بريطانيا في القرن التاسع عشر، فالناس أصبحوا ماديين الى حد كبير ويهتمون كثيرا بالماكنة والانتاج، لقد وصف ارنولد قداسة الماكنة وتحدث عن خطورة المساواة بين الحضارة والثروة المادية. فالثقافة الحقيقية يتم اكتسابها فقط بمعرفة جميع المسائل التي تهم الناس وكذلك معرفة افضل ما قيل وافضل المعتقدات في العالم، حيث من خلال المعرفة يتم تحويل روافد من الافكار الحرة والجديدة الى ما لدينا من مخزون من العادات والافكار. وحين يدرس الناس ارقى انواع الشعر والادب سيصبح بمقدورهم تطوير انسانيتهم ليصبحوا قريبين من الكمال، وبذلك سوف يدفعون مجتمعهم نحو الاحسن.

ان القراءة تعتبر هي المفتاح في كل ذلك. يقول ارنولد ان حياة الانسان في كل يوم تعتمد من حيث قيمتها وتماسكها على ما يقوم به من قراءة او عدمها، وكذلك على نوع الشيء الذي قرأه. حيث ان بعض القراءات أكثر قيمة من غيرها وان الذوق الشعبي للقطاعات الواسعة من السكان هو بالتأكيد غير مثقف. فالطبقة العاملة في الضواحي هي اساس الخطورة وهي تشكل المجموعة الاجتماعية غير المثقفة فهي فقدت احترام ومراعاة سلّمها الاجتماعي والحّت على عمل ما تحب وهذا قاد الى احتجاجات سياسية خطيرة وخلق اجواءً هددت بالانحراف نحو الفوضى التي من شأنها ان تحطم الحضارة والثقافة. يصف ارنولد ما حدث بقوله (أعداد من الرجال في جميع انحاء البلاد يبدأون في التحدي وممارسة حقوق الرجل الانجليزي بعمل ما يحب وحقه في التظاهر متى ما يحب وبالاجتماع والتمرد والتهديد وتحطيم الاشياء كيفما يشاء).

ان الحل لمشكلة الطبقة العاملة يكمن في تعليمهم، وبدون التعلم لن يتمكنوا من الحصول على الثقافة ولن يسهموا بدور بنّاء في المجتمع.

من الانتقادات التي وجّهت الى ارنولد انه كان يحاول ابقاء الطبقة العاملة في مكانها وانكاره لحقّها في تطوير ثقافتها، كذلك يؤخذ على ارنولد عدم رغبته في المشاركة بالسياسة كوسيلة لاستخدام الثقافة في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وهذا ما جعله غير قادر على تحقيق اهدافه وجعل كتاباته بلا جدوى.

انحطاط الثقافة

حاول ليفس (F.R.Leavis) ان يكشف تأثير ضياع الثقافة الفلكلورية على قيمة الفن والادب، فهو يقول: في الماضي كانت الثقافة، حتى الثقافة العالية في متناول الجماهير. فالنخبة المثقفة ليس وحدها من يشاهد مسرحيات شكسبير بل كذلك الجموع الواسعة للناس العاديين. اما في الثلاثينات فقد تغير الموقف كليا. هو يعتقد انه في كل عصر هناك جماعة صغيرة جدا يعتمد عليها مدى الاعجاب بالأدب والفن، وهذه الجماعة الصغيرة كانت قادرة على تمييز الادب العظيم من السطحي طبقا لما تحكم به فطرتهم في الجمال. وهؤلاء هم وحدهم يقررون من سيعقب الكتاب المعاصرين مثل شكسبير ودانتي. اما المجموعة التي هي اكبر بقليل فهي بإمكانها التمييز بين الرديء والجيد من الادب والفن لكنها سوف لن تتمكن ابدا من تكوين حكم جمالي حول الاعمال الجديدة في الفن.

ثقافة النخب وثقافة الجماهير

يرى ليفس ان صيانة وديمومة الثقافة يعتمد على احتفاظ الاقلية النخبة بأكثر الاذواق تميزا. ولكن في اعوام الثلاثينات من القرن الماضي أصبح ذوق هذه المجموعة وثقافة الجماهير كلاهما تحت تهديد خطير. فالنخبة المثقفة تعرضت للتهديد من جانب المنتجات التي افرزتها ثقافة الجماهير، وهذه المنتجات اصبحت متوفرة لكل شخص وبكميات كبيرة مما اغرق الاحساس الجمالي لثقافة تلك النخبة. يقول ليفس (كان القارئ اثناء مراحل حياته يتحرك ضمن عدد محدود من الاشارات(signal)، حيث لم يكن التنوع فيها كبيرا. وبذلك فهو كان قادرا على اكتساب قدرة التفرد او التميز وهو يتجه على طول الخط.

اما القاريء الحديث اصبح عرضة لسيل من الاشارات الهائلة في تنوعها وأعدادها مما جعل من الصعب عليه القيام بالتمييز ما لم تكن لديه موهبة خاصة او مزايا معينة). وهذه المشكلة اصبحت اكثر سوءا بفعل تأثير التغيرات الاجتماعية والثقافية على بقية السكان. يرى ليفس ان الأضرار الثقافية نتجت عن مظاهر التحديث مثل اختراع السيارة وانتشار الثقافة الامريكية وتشتت العوائل وتأثير عمليات البيع والانتاج الواسع والتنميط السلعي. لقد كان ليفس حادا في نقده للاعلام المسيطر انذاك كالراديو والافلام باعتبارهما نوع من التسلية السلبية كونهما لايشجعان الناس على التفكير لانفسهم ولا يسمحان باستخدام العقل بشكل بنّاء. والسينما خصيصا تعرضت للهجوم الشديد لأن الافلام تستلزم الاستسلام والانسياق وراء الاغراءات العاطفية الرخيصة في ظل اجواء من التنويم للمتلقي.

نقد آراء ليفس

1- انه بالغ في مدى جاذبية وانسجام الثقافة الفلكلورية لما قبل الصناعة. فهو تجاهل امية وفقر وقصر حياة الناس العاديين في فترة ما قبل الصناعة في بريطانيا. والافراد الذين هم بدون نقود وبدون تعليم ويعيشون سنوات قليلة يصبح من الصعب عليهم تطوير ذائقتهم للفن والادب.

2- يرى سترانيتي (Dominic Stranati) ان نظريات النخبة مثل (نظرية ليفس) فشلت في تبرير ادعاءاتها بان الثقافة العليا لها خصائص سامية، ومن هذه الزاوية فنحن لا ننظر فقط بإعجاب الى انواع معينة من الثقافة الشعبية وانما نثمن اي منتج للثقافة الشعبية باعتباره فنا عظيما لدى من يحبون تلك الفنون.

ويقول سترانيتي ان آراء النخبويين ارتكزت على مجموعة من القيم الافتراضية المزعومة التي تطبع الثقافة الشعبية. فاذا رأى أحد الافراد ان موسيقى معينة افضل من سمفونية بيتهوفن او فيلم معين افضل من موسيقى موزارت، فلا نستطيع الحكم على الرأي الصواب لأنها ببساطة مسألة ذوق.

3- وبناءً على النقطة اعلاه فان آراء النخبويين حول الثقافة لا تأخذ بالاعتبار كون التذوق تعبير عن بنية اجتماعية، فكما يذكر بورديو عام 1984 ان ما يعتبر ذوق جيد هو مرتبط بعادات مجموعات اجتماعية معينة بما في ذلك اسلوب الحياة وشكل السلوك.

ثقافة الجماهير

كان في امريكا في الخمسينات اهتماما كبيرا بما يسمى ثقافة الجماهير، والكتابات التي تدور حول هذا الموضوع كانت تتشابه بشكل او بآخر مع أعمال الكتاب الآخرين مثل ليفس. غير ان اهتمامات الثقافة الجماهيرية ذهبت الى ما هو أبعد من الفن الذي كان محل التركيز الاساسي للنقد الادبي.

والنقاد في الخمسينات كانوا ايضا اقل نخبوية من ارنولد و ليفس. فهم كانوا ربما من الراديكاليين الذين يسعون الى تغيير المجتمع وليسوا من المحافظين الراغبين بالعودة الى العصر الذهبي حين كانت الثقافة العليا هي صاحبة السيادة، ومن الكتاب الذين مثّلوا هذا الاتجاه اثنان هما روسنبرك وماكدولاند.

برنارد روسنبرك وثقافة الجماهير في امريكا

في عام 1957 شن روسنبرك هجوما عنيفا على الثقافة الجماهيرية في امريكا. وحسب رأيه انه بالرغم من المستوى المعيشي المرتفع الذي حققه المجتمع الامريكي الا ان ذلك كان على حساب الثقافة التي عانت من التدهور. فالتكنلوجيا الجديدة أزاحت معظم الأعمال اليدوية الشاقة والروتينية ذات الطابع المتكرر والتي استهلكت المزيد من وقت الافراد، فحصلوا على المزيد من التسلية والراحة ومع ذلك فهم يشعرون بأقل قناعة مما في السابق. ويصف روسنبرك ذلك الموقف بقوله: (قبل ان تمكّن الانسان من تطوير ذاته كانت انسانيته في تراجع، وقبل ان يتمكن من بناء عقله كان يتعرض الى الموت، فالحرية وُضعت امامه لكنها انتُزعت بعيدا، فالحياة الغنية والمتغيرة التي يعيشها الفرد اصبحت نمطية، فالتشابه دائما في تزايد حيث اننا اكثر شبها مما كنا في الماضي ونشعر بإحساس عميق بالغربة والاحتباس).

التكنلوجيا وثقافة الجماهير

اذاً من المسؤول عن هذا الموقف المؤسف؟ طبقا لما يراه روسنبرك ان التكنلوجيا هي المتهم الأخير في ذلك. ففي الدول الشيوعية كالاتحاد السوفيتي والدول الرأسمالية كالولايات المتحدة نجد ان تكنلوجيا الاعلام الجديد سمحت بتطوير ثقافة الجماهير، حيث ان الافراد وحين أصبح لديهم مقدار لا بأس به من وقت الفراغ، سارع الاعلام الواسع مثل الراديو والافلام والروايات الشعبية الرخيصة لملء ذلك الفراغ، حيث وفرت المسلسلات التلفزيونية والاذاعية وقصص البوليس السرية والمجلات الشعبية شكلا من التسلية النمطية الرخيصة، وحتى الجامعات التي نجحت في تبسيط علومها وجعلها سهلة الفهم اصبحت من الجامعات الشعبية.

لقد كان روسنبرك حادا في نقده للكتب الشعبية المكتملة ذاتيا والتي تعد الناس بتعليمهم المهارات الضرورية لتحقيق النجاح بقليل من الجهد. فهناك سلسلة من الكتب بعنوان (كيف) او (How to) تنصح وتوجه الافراد على كيفية استعمال خيالهم لتوليد طريقة جديدة في فن البيع. فالنجاح لازال شيئا مقدسا لدى المجتمع الامريكي، والمسوقون للثقافة الجماهيرية يقولون بإمكانية ترويجها عبر الاستيعاب السلبي. يرى روسنبرك ان الناس لم يعد امامهم من التحديات كي يفكروا لأنفسهم، واصبحوا بلا حيوية ويسهل استغلالهم، والثقافة الجماهيرية اصبحت تهدد ليس فقط ذائقتنا وانما تدمر إحساسنا وتفتح الطريق امام الاستبداد. اعتقد روسنبرك كغيره ان ظهور الفاشية في المانيا في الثلاثينات كان بسبب كون المانيا ذات مجتمع جماهيري كان فيه هتلر قادرا على استغلال انصياع وسلبية الجماهير عبر الإعلام الواسع.

نظرية ماكدونالد في الثقافة الجماهيرية

اتّبع ماكدونالد اتجاها مشابها لروسنبرك ولكن بشكل اكثر تفصيلا. فقد ميز بين ثقافة العامة والثقافة العالية وثقافة الجماهير.فالفن الفلكلوري folk art هو ثقافة عامة الناس في مجتمعات ما قبل الصناعة، وقد خرج هذا الفن من الأسفل على شكل تعبيرات عفوية للناس خلقوها هم بأنفسهم دون الاستعانة بالثقافة العليا لكي تلائم حاجاتهم الخاصة. وثقافة العامة لا تنتج فنا عظيما ولكنها لها بعض المزايا كونها ثقافة اصيلة وحقيقية رغم اساليبها المحدودة، فهي انبثقت من جماعات حقيقية فيها تفاعل الافراد مع بعضهم.

اما الثقافة العليا لم تُعرّف بشكل واضح الا ان ماكدولاند اعتبر معناها الظاهر يكفي للاشارة اليها، وهو يصنف ضمن الثقافة العليا الأعمال الكلاسيكية للفنانين الكبار والموسيقيين والكتاب (مثل ليوناردو دافنشي وبيتهوفن وشكسبير) وكذلك اعمال الفنانين المبدعين في القرن العشرين امثال الرسام بيكاسو والشاعر رامبو والموسيقار سترافنسكي والكاتب جيمس جويس. والثقافة العليا يُنظر اليها كإنتاج للاشخاص العظماء الذين بمقدورهم انتاج اعمال تروق للاقلية من الناس الذين يقدرون بإعجاب مثل هذه الاعمال.

اما الثقافة الجماهيرية فهي تختلف عن كل من الثقافتين السابقتين فهي تمتلك القليل من المزايا ان وجدت، وهي صُممت لتنال اعجاب ذوي المكانة المتدنية، فلا تحمل صفة التحدي وليس لديها ما تقوله من حيث الاهمية فهي لا تعبر عن ثقافة حقيقية كما تقوم بذلك ثقافة الفلكلور ولا تحقق اي قيمة فنية ذاتية كما تفعل الثقافة العليا، هي ببساطة ثقافة نمطية ذات صبغة تجارية فرضتها شركات الاعمال على الجمهور بهدف تحقيق الربح.

يقول ماكدولاند (الثقافة الجماهيرية فُرضت من الأعلى حيث جرى تصميمها بواسطة التقنيين، وجرى استئجارها من جانب رجال الاعمال، اما المتلقين لها هم من المستهلكين الانفعاليين والسلبيين، حيث ان هؤلاء كانت مشاركتهم مقيّدة بالاختيار بين الشراء او عدمه. والمسوقون لهذه الثقافة انما يستغلون الحاجات الثقافية للجماهير لغرض جني الارباح او لغرض الحفاظ على السيادة الطبقية لهم). الثقافة الجماهيرية مهدت لخلق الدكتاتورية فهي ليست مجرد ثقافة يختارها الفرد وانما هي سيطرة سياسية ايضا.

ماهي مشكلة الثقافة الجماهيرية؟

لماذا اصبحت الثقافة الجماهيرية تشكل مشكلة؟

1- اعتقد ماكدولاند ان الثقافة الرديئة تطرد الثقافة الجيدة. الناس وجدوا ان الثقافة الجماهيرية سهلة الفهم وتأخذ القليل من الجهد الذهني ولذلك فهي قُصد منها تجاهل او إضعاف الثقافة العليا.(انها تهدد الثقافة العليا بسبب انتشارها الواسع وكمياتها الهائلة والمخيفة، فالطبقة العليا التي بدأت باستعمال هذه الثقافة لتوليد النقود من الاذواق السخيفة للجماهير ولكي تسيطر عليهم سياسيا، انتهت لتجد ان ثقافتها الخاصة تتعرض للهجوم بل وللتدمير بنفس الاداة التي طورتها هي بغباء).

2- ان نتيجة ذلك هو ان تقود ثقافة الجماهير الى خلق ثقافة نمطية واحدة. والثقافة العليا سوف تُبتذل وتندمج بشكل مبسط من ثقافة الجماهير، فمثلا، الثقافة العليا للمسرح سوف تُقوّض من جانب الثقافة الجماهيرية للسينما، فالمسرحيات صُممت بطريقة مبسطة في محاولة لبيع حقوق الافلام، فلو كانت المسرحية شديدة التعقيد من حيث صعوبة تحويلها الى فيلم، سوف يصعب تسويقها. ان أشكال الثقافة الجماهيرية كالقصص البوليسية كانت تأخذ اسلوبا ابتكاريا زائفا لكي تبدو ذات اهمية فنية اكثر مما هي عليه في الواقع. لذلك أصبح التمييز بين الثقافة العليا والثقافة الجماهيرية اكثر صعوبة بعدما تحطمت الحدود بينهما.

3- رأى ماكدولاند ان الثقافة الجماهيرية قادت الى تحويل الكبار الى يافعين والاطفال الى بالغين، حيث اكدت البحوث ان البالغين الامريكيين يقرأون بشكل متزايد الرسوم الساخرة في الصحف وكذلك مشاهد العراة، وهم يشاهدون ايضا برامج التلفزيون المخصصة للاطفال. اما الاطفال كان بإمكانهم مشاهدة الافلام الموجهة للبالغين سواء في السينما او التلفزيون، ونتيجة ذلك هو خلق حالة من (صبيانية البالغين) ان صح التعبير يصبحون فيها غير قادرين على مسايرة حياة البالغ بدون الهروب الى الثقافة الجماهيرية لغرض التسلية، وكذلك ايجاد اطفال يقظين اكثر من اللازم ينمون بسرعة.

4- والأخطر من ذلك ان الثقافة الجماهيرية تقوّض النسيج الاجتماعي، فهي تخلق مجتمع جماهيري يصبح فيه الافراد ذرات متناهية حين يفقدون التزامهم تجاه الجماعات الصغيرة ويصبحون غير قادرين على التفاعل مع بعضهم بطريقة ناجحة، وبدلا من ذلك يصبح الناس منعزلين يرتبطون فقط بانظمة مركزية ومنظمات كالإعلام الواسع والاحزاب السياسية والشركات. فالفرد الجماهيري هو ذرة منعزلة نمطية لا تختلف عن آلاف وملايين الذرات الاخرى التي تشكل هذا الحشد المهجور (المجتمع الامريكي).

خلاصة آراء مكدولاند

تعتبر آراء مكدولاند من الآراء المتشائمة، فهو لايرى هناك اشارات قوية لبقاء الثقافة العليا. وحتى جهود النخبة من الفنانين والمبدعين هي تحت تهديد خطير من جانب الثقافة الجماهيرية، حيث اصبح الناس تحت طوق شديد من المجتمع الجماهيري والثقافة الجماهيرية بزخمها المتواصل مما احبط رغبتهم في المقاومة تحت تأثير منتجات عدة أجيال من الثقافة الجماهيرية الساذجة. والابطال فقط يستطيعون مقاومة مثل هذا الضغط وهم قلة والمسافة بينهم متباعدة. غير ان مكدولاند لا يرى الموقف ميؤوسا منه بالكامل. فلاتزال ثقافة النخبة رغم ضآلة عددها وتأثيرها قادرة على اضاءة شعلة الثقافة العليا.

نقد نظرية الثقافة الجماهيرية

قام سترانيتي (عام 1995) بتقييم نظرية الثقافة الجماهيرية، وهو في عمله هذا يركز على النقاط التالية:

1- ان نظرية الثقافة الجماهيرية لا تختلف كثيرا عن نظريات النخبة مثل (ليفس) و (ارنولد) كونها فشلت بالاعتراف بإمكانية فهم وتفسير واحترام الثقافة الجماهيرية من جانب الجماعات الاخرى الغير نخبوية في المجتمع. وهو يرى ان هذه النظرية تعتمد على افتراضات زائفة حين اعتبرت الجماهير مغفلة ثقافيا تستهلك اي شيء من النفايات القديمة حين تُطرح امامها بواسطة الإعلام الواسع.

ان مستهلكي الثقافة الجماهيرية هم عادة واعون ويرفضون العديد من المنتجات مثل الافلام والبرامج التلفزيونية التي يرونها غير كافية وغير ممتعة. فالمستهلكون هم غير سلبيين ويميزون في اختياراتهم من حيث نوعية المعروض امامهم.

2- لم يقبل سترانيتي بالرأي القائل بإمكانية التمييز بين ثقافة فلكلورية اصيلة ومتعالية وثقافة جماهيرية وضيعة. مثال على ذلك الموسيقى التي تتأثر دائما بالتقاليد الموسيقية. فالأصالة لا تقرر عدد المستمعين الذين يتمتعون بالموسيقى، فموسيقى البوب تعطي المشاهد نفس المتعة التي تعطيها اي موسيقى شعبية اخرى.

3- ان نظرية الثقافة الجماهيرية تفترض وجود حدود فاصلة بين الثقافة العليا وثقافة الجماهير ولكن ذلك لم يثبت في الواقع. حيث هناك دائما تداخل واعادة رسم لتلك الحدود ولا يوجد ثبات موضوعي او تاريخي لهما. هذه النظرية هي عمل سياسي بدلا من ان تكون تقييما موضوعيا لمختلف الثقافات، حيث انها تمثل رد فعل النخبويين حين شعروا بالتهديد من جانب النمو المتزايد في الثقافة الشعبية. فالثقافة الشعبية تهدد الترتيب الهيكلي للاذواق لانها تعطي لكل شخص فرصة اختيار ما يراه الافضل بين الكتب او الافلام او الموسيقى او اللوحات الفنية ومثل هذا العمل يضعف القوة الرمزية للمبدعين والمثقفين تجاه معايير الاذواق التي تُطبق على استهلاك المنتجات الثقافية.

يرى سترانيتي ان تلك الحجج غير مقنعة ومن غير المحتمل الاحتفاظ باستمرارية سلطة تلك الحجج في احكامها النخبوية.

...................................
الهوامش
(1) وفق هذا المفهوم يُنظر الى ثقافة الجماهير كمصدر قلق للاقليات. اولئك الذين بيدهم السلطة السياسية يعتقدون دائما بضرورة مراقبة ثقافة منْ ليس بيدهم السلطة. الثقافة يُنظر اليها كمؤشر لأشياء اخرى. قادة المجتمع والحكومة جعلوا من اولى مهامهم السيطرة على ثقافة الناس والطريقة التي يتصرفون بها. هم استعملوا هذه كوسيلة لمنع اي معارضة لهم وايضا كوسيلة لترسيخ طرقهم في الاخلاق. الرؤية العامة كانت لو ان الجماهير تطور ثقافة بدون تدخّل او اتجاه مفروض عليها فان ذلك سيقود الى الفوضى (كيف يمكن للناس غير المتعلمين وغير المنضبطين ان يطوروا لوحدهم مجتمعا سلميا متكاملا بشكل جيد؟)
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا