الدرس الاسباني
عبد الامير المجر
2018-02-13 04:10
لم تكن الاوضاع في اوربا الثلاثينيات على ما يرام، فثورة اكتوبر الاشتراكية، حركت الراكد في العقول والنفوس معا، والتوق الى حياة أفضل دفع الملايين الى تبني مبادئ تلك الثورة، التي لم يعرف اغلب هؤلاء حمولتها الثقافية العميقة، بقدر ما عرفوا انها تسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية وكرامة الانسان.
اسبانيا، لم تكن بعيدة عن هذا الاحتدام العقائدي، لكنها كانت في موقع جيوسياسي حساس للغاية في حسابات الكبار، وقتذاك، فالصراع على النفوذ في العالم على اشده والمستعمرات في الشرق تحديدا، كانت بمثابة ساحات لوجستية هائلة تغذي هذا الصراع وتسيل لعاب الدول الاستعمارية، لما تكتنزه من ثروات... وسط هذا البحر الهائج، حصل في اسبانيا تحول دراماتيكي خطير.. فبعد انتخابات شهدتها المملكة الاسبانية في العام 1931فازت (الجبهة الشعبية) التي ضمت عدة منظمات يسارية، واعلنت قيام الجمهورية، ونصبت مانويل ازانيا رئيسا للبلاد، فغادر الملك الفونسو الثالث عشر البلاد لاجئا مع عائلته الى ايطاليا.. انقسم الاسبانيون بين موالين للعهد الجديد وبين رافضين لما اسموه انقلابا على الشرعية.. وفي العام 1936 أي بعد الانتخابات الثانية في العهد الجمهوري، حيث تكرست الى حد ما الجمهورية، تحركت المعارضة بقيادة مجموعة من الجنرالات، على راسهم الجنرال المنفي (خوسية سانخورخو) للاطاحة بالجمهوريين، وقد قتل هذا في حادث طائرة اثناء عودته لاسبانيا من البرتغال، ليصبح خلفه فرانكو قائدا لجبهة الوطنيين، او هذه تسميتهم، وهكذا اندلعت الحرب الاهلية الاسبانية التي استمرت الى العام 1939 حيث انتصر الوطنيون على الجمهوريين، واصبح فرانكو زعيما مطلقا للبلاد منذ العام 1939 لحين وفاته في العام 1975.
من الامور الطريفة التي حصلت حينذاك، ان اليساريين، بعد اندلاع الحرب دعوا الى تشكيل جيش عالمي للدفاع عن الجمهورية! فتطوع الكثيرون من مختلف انحاء العالم في ذلك الجيش، الذي يقال انه اتسم بعدم الانضباط وتخللت ممارساته خروقات وحصلت بين فصائلة تناحرات وصدامات، بينما كان على الطرف الاخر، جيش منضبط عسكريا، يقف على راسه جنرالات محترفون، ويقال ان فرانكو الذي كان قائدا للفيلق المغربي قبل تسلمه قيادة جيش الوطنيين، وزع هدايا على جنوده من المسلمين وقال لهم اننا نحارب الشيوعيين الكفار! وقد وقفت الى جانب فرانكو المانيا وايطاليا وبعض الدول الاوربية الاخرى، بينما وقف السوفييت والمكسيك التي كانت تقف على راسها حكومة يسارية الى جانب الجمهوريين.
ما اردنا قوله من هذه السطور التاريخية التي قد تكون معروفة للبعض وغير معروفة للبعض الاخر، ان هناك درسا بليغا من تلك الحرب، وهو ان القوى اليسارية التي فازت بالانتخابات، لو احترمت الدستور او غيرت بعض بنوده فقط، واستمرت في الحكم من دون ان تعلن الجمهورية، لما اندلعت الحرب، لانها بقرارها الخاطئ هذا زجت باسبانيا في اتون صراع اقليمي ودولي خطير، فاوربا الراسمالية لن تتقبل نظاما شيوعيا في دولة حساسة كاسبانيا، وهو ما حصل فعلا، وهنا تكمن خطورة التحول الراديكالي الذي تفرضه على الناس احزاب او قوى ترى انها اصبحت فوق الدستور بمجرد حصولها على تفويض مؤقت من الشعب بانتخابات قد لاتربحها مرة اخرى. والدرس الاخر، ان فرانكو ومن معه من الجنرالات لم يكونوا بالضرورة اعداء لشعبهم كما وصفتهم الدعاية اليسارية على وجه الخصوص وبالغت في ذلك، وان كان دكتاتورا فعلا او اصبح كذلك، وانما ايضا صاحب رؤيا ومشروع سياسي لكن باتجاه يميني متعارض مع اليسار الراديكالي، بدليل انه جنّب الشعب الاسباني ويلات حتمية، كانت ستقع لاسبانيا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، لانها ستكون الهدف التالي لهتلر بعد فرنسا، بوقوفه على الحياد من تلك الحرب وانشغاله ببناء بلاده .. اما الشيء الذي قد يكون خافيا، لكنه لايخفى على من يقرؤون الاحداث في سياقها الستراتيجي، هو ان هناك خطوطا حمراء في السياسة الدولية، لاسيما في مراحل واماكن معينة، يجب ان لايتجاوزها بلد ما مهما كان وزنه، لان العواقب تكون مدمرة، وهذه الحقائق لايتناقلها الاعلام عن اللقاءات الرسمية بين الزعماء، بل تتم عن طريق المسالك الضيقة التي يتواصل من خلالها هؤلاء الزعماء مع بعضهم وياخذون اسرارها معهم الى القبور.
قراءتنا لهذه التجارب العالمية، تدعونا جميعا لادراك حقيقة اساسية، هي ان الاقصاء والرغبة في التغيير الشامل والمفاجئ تحت ضغط رفضنا لهذه الجهة او تلك، يقود بالضرورة الى كوارث، تدفع وللاسف اثمانها الشعوب وقد تتسبب لها باعاقات تاريخية، والشواهد اكثر من ان تسعها هذه السطور. ولعلنا اليوم نسمع اصواتا من البعض يدعون الى اقصاء كامل لاحزاب الاسلام السياسي في الانتخابات القادمة، واقامة ما يسمونه بالدولة المدنية، وفي المقابل نسمع ايضا دعوات الى تكريس المحاصصة الطائفية والجهوية تحت عناوين جديدة، في محاولة لاقصاء قوى الاعتدال والمدنية، ويعلو الحديث عن ان الانتخابات القادمة وحكومة الاغلبية السياسية المنتظرة، ستكون لحظة مفصلية في تاريخ العملية السياسية!
متجاهلين حقائق واضحة على الارض، لاينبغي القفز عليها بهذه الراديكالية، لاننا بذلك ندفع باتجاه صراع عقائدي حاد، سيجعل من العراق ساحة صراع اقليمي ودولي، وهذا ما يجب ان ننتبه اليه، فالتغيير سياتي حتما لكن بالتدريج، وعلينا ان لانستعجله بالشعارات الاقصائية، بل بالعمل الجاد على انهاء اسباب وجود الفساد والطائفية، وترصين مؤسسات الدولة وليس تغيير الوجوه السياسية فيها، وهو ماينبغي ان يكون الهدف الاساس من الانتخابات القادمة، كونها الوسيلة الوحيدة التي تجنبنا تداعيات أي انفلات يسعى اليه البعض من حيث يدري او لايدري.