النهضة الحسينية المباركة من منظور حقوق الانسان

لطيف عبد سالم العكَيلي

2016-11-24 07:19

لا نبعد عَنْ الصَوَابِ إذا قُلْنَا إنَّ وَاقِعَةَ الطَف الأَلِيمة، أفرزت معطياتها، وَعكس تأريخها جملة مِنْ الصَفْحات المهمة، وَالَّتِي تباينت فِي العميقِ مِنْ ثنَاياها المواقِف الإنسانيَّة، وَاختلفت الموازين فِي بُطُونِ حَلَقَاتها المُتَناثِرة فِي فَضَاءٍ زَمَاني وَمَكَاني فسيح يزيد عمره عَنْ أربعة عشر عقداً عبر مجموعة صور ازدحمت جنباتها بمتناقضاتِ سير الرِجَال وَأَشْبَاه أو أَنْصَاف الرِجَال ما بين الرِّفْعَة وَالخِسَّة.

لا رَيْبَ أَنَّ الألمَ المُمَض الَّذِي يعتصر قلب مَنْ يحرص عَلَى التمسكِ بانتمائِه إلى الإنسانيَّة، فضلاً عَنْ تمسكه بمَنْظُومَةِ القيَّم النبيلة، يفضي بصَاحبِه وسط دَافع لاشعوري إلى انزلاقِ دموع الحُزْن وَالأسى مِنْ مآقيِه، وَهو يتأمل اغرب سُلُوكيات البَشَر وَأرذلها، وَالَّتِي تعكس مجريات بعض الأحداث المتعلقة بفصولِ معركة كَرْبَلاَء الَّتِي عبر عَنْ مَأْسَاتها المستشرق الإنجليزي إدوارد براون ( Edward Browne ) بعبارةٍ مقتضبة نَصها: وهل ثَمّة قلب لا يغشاه الحُزْن والألم حين يسمع حديثاً عَنْ كَرْبَلاَء.

يمكن القول إنَّ بشاعةَ جرائم بني أمية فِي منازلة كَرْبَلاَء، تُعَد فِي واقعِها الْمَوْضُوعي انتكاسة كبيرة للبَشَريَّة، ولاسيَّما الوقائع والأفعال الَّتِي تندرج تحت طائلة ما يشار إليه اليَوْم باسْمِ حُقُوق الإنْسَان (Human rights)، إذ لم تقتصر بذائة آلياتها عَلَى تشويه الوجه المشرق للإنسانيَّةِ الَّذِي شكلت معالمه بأبهى صورها تعاليم ديننا الحنيف، وَسيرة الرَسُول الكَريم صلى الله عليه وَآله وَسلم بعد أَنْ تماديَ قادة جيش ابن زياد وَجنده فِي غَيّهم وَهَمجيتهم، مجسدين حرصهم عَلَى التمسكِ بنهجِ الضَلالة، وَطريق الانْحِراف الَّذِي ساهم بفاعليةٍ فِي التأسيسِ لمَشْروعِ الإطاحة بوَشائجِ المَنْظُومَة القيمية وَإجهاض فاعلية أواصرها، وَالَّتِي ما يزال العَالم حتى يومنا هَذَا أسير الكثير مِنْ نتائجها. وضمن هَذَا السياقِ أجد مِنْ المناسبِ وَالمهم التذكير بمقولةِ الأديب الألماني يوهان فولفجانج فون جوته (Johann Wolfgang von Goethe) الَّتِي يعكس فيها أَزْمَة القيَّم الإنسانيَّة فِي الحيَاة المعاصرة، إذ يقول ما نصه: إنَّ مأساةَ الحُسَين هي مأساة للضَميرِ الإنسانيَّ كله، وَأنَّ الحُسَينَ جسد الضَمِير الإنسانيَّ بدفَاعِه عَنْ القيَّمِ وَالمثل الإنسانيَّة الرفيعة.

غَنِيٌّ عَنِ البَيَانِ أَنَّ ما أفرزته مجريات يومِ عاشوراء مِنْ مآسٍ وأهوالٍ ما تَزال توشح جبين الإنسانيَّة ببصمةٍ سوداء تأبى مفارقته، وَتلزم البَشَريَّة جمعاء بعدمِ تجَاهلها، بوصفِها انتهاك فاضح لحُقُوقِ الإنْسَان، الأمر الَّذِي يتطلب إخضاعها لطرائقِ البحث وَالتحليل الْمَوْضُوعي بقصدِ توظيفها فِي مُهِمّةِ التعرف عَلَى حقيقةِ إنسانيَّة النَهْضة الحُسينية المبَارَكَة قبَالة وحشية الأساليب الَّتِي اعتمدها (حفنة مِنْ الأقزام) بحسبِ وصف المفكر الايرلندي جورج برنارد شو (George Bernard Shaw) للجَيشِ الأموي.

أولى إشراقات نَهْضة كَرْبَلاَء المعبرة عَنْ المثلِ الإنسانيَّة الرَفيعة، تجسدت بركونِ الإمام الحُسين عليه السلام إلى اعتمادِ الكَلِمَة نهجاً للتسَامحِ وَالحفاظ عَلَى عرى وحدة الأمة، وَالنصيحة سبيلاً لمواجهةِ أعداء الله وَالإنسانيَّة الَّذين تشدقوا بأعلى سقوف الحماقة ارتفاعاً، بوصفِها لغةً أو عنواناً لرغبةٍ جامحة فِي إيقاد الحرب مِنْ دُونِ الاحتراز لمأساوية نتائجها؛ تعبيراً عَنْ الإصرارِ عَلَى نبذِ فكرة الاستماع إلى نداءِ الحق والعقل، وَالتمسك بتنفيذِ أوامر الطغاة بالانتقامِ مِنْ سبطِ رسول الله صلى الله عليه وآله وَسلم بغضاً لأبيه، وَما فعله بأشياخِهم يوم بدر وحنين مثلما أعلنوها بوجهِه صراحة فِي آخرِ مراحل المنازلة يوم كان الإمام فِي اليومِ العاشر مِنْ المحرمِ سنة 61 للهجرةِ وحيداً فِي الميدانِ وَهو ينادى برفيعِ صوته: هل مِنْ ناصرٍ ينصرني، هل مِنْ معينٍ يعينني؟.

بعد أَنْ استنفد الإمام الحُسين عليه السلام جميع ما متَاح مِنْ وسائلِ الحوار مَعَ قومٍ لا يملكون آذاناً صاغية لنداءِ السلام، وَالمتمثل بما طرحه سيد الشهداء مِنْ وعظٍ وإرشاد؛ لعقدِهم العزم عَلَى محاربتِه فِي ظلِ استحواذ الباطل عَلَى عقولِهم ونفوسهم، لم يكن أمام أبو الثوار خياراً إزاء هَذَا الواقعِ سوى الاستعداد لوقوعِ السيف ما بين الفريقين، وَالقتال حتى النصر أو الشهادة ومثلما يقول الشاعر:

إذا لم يكُن إلا الأسِنَّةُ مركباً فما حيلةُ المُضطَرِّ إلا رُكُوبُها.

الْمُلْفِتُ أَنَّ الإمام الحُسين، لَمْ يفقد الأمل فِي سعةِ أفق تأثير الكَلِمَة؛ لإدراكِه فعل السيف بتمزيقِ وحدة الأمة، ولعلَّ الصحابي الجليل زهير ابن القين استثمر هَذَا المعنى عند مخاطبته جند ابن زياد قائلاً: سنصبح أمة وَأمة فِي حالِ وقوع القتال ما بيننا، بعد أَنْ كنا أمة.

لأَنَّ الإمام الحُسين جُبل عَلَى التمسكِ بثَّقَافَةِ التسَامح، وَمعرفة الرأي وَوجهَات النظر أو ما يشار إليه فِي المفَاهيمِ الحديثة بـحُرِّيَّةِ التَّعْبِير (freedom of expression)، كان حريصاً عَلَى منعِ قومه مِنْ الشروعِ بقتال؛ تفادياً لوقوعِ الحَرَب مادام هناك متسعاً لمحاولةِ سيادة تأثير الكلمة سعياً لرأَبِ الصَّدْعَ. وَهو الأمر الَّذِي جعل الإمام لا يُرْكِن إلى مبارحةِ لغة الحوار حتى مَعَ اقتراب لحظةِ المنازلة التاريخية حين عمَدَ إلى إلقاءِ الحجة عَلَى الَّذين جرى استنفارهم مِنْ قبلِ عبيد الله بن زياد والي يزيد بن معاوية عَلَى الكوفةِ والبصرة لمحاربتِه عبر إشعارهم بالنهايةِ الحتمية لغيهم وقساوة قلوبهم وابتعادهم عَنْ طاعةِ الله تبارك وَتعالى، مبيناً لهم قرب ما سيحل بهم مِنْ مصير مظلم بعد قتل ابن بنت نبيهم، وَالَّذِي حدد الإمام زمان حدوثه بدقةٍ متناهية مِنْ خلالِ مضمون عبارتهِ (ريثما يركب الفرس)، تعبيراً عَنْ سرعةِ النهاية المنتظرة لِمَنْ وَصَفهم الإمام عليه السلام بقومٍ كفروا بعد إيمانهم.

إِشْراقة أخرى مِنْ إنسانيَّةِ الفكر الحُسيني وَنَهْضته المباركة، وَالَّتِي تعكس صياغة فكرية دقيقة لمفهومِ حُقُوق الإنْسَان وَتأصيلا له، تجسدت بتسامحِ الإمام الحُسين مَعَ جَيشِ الحر بن يزيد الرياحي الَّذِي جاء بقصدِ محاصرته، وإجباره عَلَى الانصياعِ للحُكْمِ الأموي، حيث كان جَيشُ الحر بمنتهى التعب مِنْ شدةِ حَرَارَة الصحراء وَقلة الماء، بالإضافةِ إلى أنَّ وجوه الجند كانت مخطوفة مِنْ شدةِ العَطَش، حيث أمر الإمام الحُسين بإرواءِ الجنود وَخيولهم، وَهو القائل: المباغتة وَالغدر ليسا مِنْ مبادئِنا، هَدفنا هو تطبيق المبادئ وَالقيَّم، بخلافِ رغبة بعض أصحابه، وَالَّذين اعتبروها فرصة ثمينة للقضاءِ عَلَى جَيشِ الحر وَتحقيق نصر مبكر.

إنَّ الحديثَ عَنْ انتهاكاتِ حقوق الإنسان التي مارسها يزيد بن معاوية فِي أعوامِ حكمه، لا يمكن بحثها فِي مقال راي أو دراسة مقتضبة؛ لسعةِ آفاقها وقساوة مكنوناتها، الأمر الَّذِي فرض علينا الإشارةِ فِي بحثِنا الحَالي وَعَلَى عجالةٍ إلى بعض المواقف وَليس أغلبها، ولاسيَّما محاصرة جيش عمر بن سعد نهر الفُرات لأجلِ منع الإمام الحُسين عليه السلام، وَأهل بيته وَأصحابه مِنْ تغطيةِ حاجتهم إلى الماء، حيث ضرب حاجزاً ما بينهم والنَهر بقصدِ ممارسة الضغط النَفْسِيَّ الَّذِي بوسعِه المسِاهمة فِي المقاصدِ الخاصة بإرغامِهم عَلَى التسليمِ، فضلاً عَنْ تحقيقِ غريزة الانتقام مِنْ بيتِ النبوة. وَلعلَّ أشخاص مثل مهاجر بن أوس وَعمر بن الحجّاج وَعبد الله بن الحصين وَغيرهم مِنْ الَّذين دخلوا التأريخ عبر أقذر أبوابه بعد أَنْ فقدوا أبسط مقومات الوازع الانساني وَهُم يتباهون فِي المنَاداةِ بعبارة: يا حُسين، هَذَا الماءِ تشرب منه السبَاع والطيور وَأنت لا تذوقه، خير مصداقٍ عَلَى انتهاكِ الجَيش الأموي لأبسطِ المثل الإنسانيَّة، وَالَّتِي تعرف فِي عَالمِ اليَوم باسْمِ حُقُوق الإنْسَان. وَعَلَى الرغمِ مِنْ نبلِ موقف الإمام الحُسين فِي حادثةِ جَيش الحر، فأنّ مخيمه عليه السلام بحسبِ المؤرّخين تعرض للعطشِ قبل ثلاثة أيام مِنْ عاشوراء بسبب محاصرة نهر الفُرات مِنْ قبلِ أناس ( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم ) بالاستنادِ إلى وصفِ الإمام الحُسين فِي خطبته، بالإضافةِ إلى أنَّ أحدَ الأفراد الَّذين مَنعوا الإمام عليه السلام مِنْ شربِ المَاء، كان أبو الثوار قد سقَاه الماء مَعَ بقيةِ أفراد جَيش الحر وَخيولهم مثلما أشرنا إليه آنفاً.

إنَّ تضحياتَ الإمام الحُسين عليه السلام، وَإيثاره وَشهادته مَعَ أبنائِه وأصحابه فِي كَرْبَلاَء، كانت تعبيراً عَنْ تبنيه لمنهج الحرية، وإصراره عَلَى عدمِ الانصياع للظالم، فضلاً عَنْ ارتكازِ دعوته الإصلاحية عَلَى صِيَانَة الكَرَامة الإنسانيَّة، وَرفض الاستلاب وَالإذلال وَالاستعباد. وَلأنها نهضة إصلاحية لخدمةِ الإنسانيَّة جمعاء، بوصفِها غير محددة بدِينٍ أو مَذهبٍ أو قومية، فأنَّ النَهْضةَ الحُسينية اخترقت الآفاق لتوقظ الضمير الإنسانيَّ فِي كلِ زمان، فلا عجب مِنْ قولِ الباحث الإنجليزي جون أشر john Ussher ) ): إنَّ مأساةَ الحُسين بن علي تنطوي عَلَى أسمى معاني الاستشهاد فِي سبيلِ العدل الاجْتِمَاعِيّ، كذلك إشارة الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن (Abraham Lincoln) إلى أنَّ القرآنَ وَمحمد وَالحُسين ثالوث مقدس يجب النظر إليهم نظرة تقديس لأنَّ فيهم الكثير مِنْ المثل العليا واحترام حُقُوق الإنْسَان.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا