حور العين في زيارة الأربعين
مروة حسن الجبوري
2015-12-01 06:55
السماء ملبدة بالغيوم، وصقيع البرد، حركة الطرق مستمرة، الأقدام تدب في الطرقات، فالناس لا يوقفهم البرد ولا الغيوم عن السير، لكن منهم من يأخذ قسطاً من الراحة وبعدها يكمل، ومنهم من تجده فرحاً سعيداً نشيطا مستمراً، جميعهم على يقين بأن الطريق إلى الجنة يستحق التعب، وهاهم الأطفال في الشارع، الصغير والرضيع شاركوا أهلهم في المسيرة، تضيء السماء خيوطها ليستدلوا بها طريقهم، فطريق الجنة أهل السماء أعلم به من أهل الأرض.
أغلقت الشوارع، أقفلت المحلات، الكل كان مسرعا.. تخطوا بخجل أقدامهم، يتحاورون بأحاديثهم عن ما جرى ويرددون بعض القصائد، يجمع شملهم السير نحو الحسين (ع)، فهناك أب وأم وإخوة وأحبة يسيرون وأعلامهم ترفرف فوق رؤوسهم، الريح مازالت تعصف، والدخان بدأ يخرج من المواكب، اجل انه الطريق إلى كربلاء بين خادما يخدم في الموكب وبين ناعي ينعى في الطريق.
خيام نصبت تستقبل الزائرين تقدم لهم ما لذ وطاب، خدمات راقية جدا لا ترى لها مثيلا في أي مكان آخر، حان الآن وقت صلاة الظهر، أصوات الاذان ترفع من المواكب الحسينية، الكل يردد الصلاة، الصلاة يرحمكم الله.. يازائر الصلاة، فرشوا السجاد على طريق الزائرين وهناك شيخ يصلي بهم.
توقفت عن المسير ونزلت في أحد المواكب لأداء صلاة الظهر، في هذا المكان المبارك، بعدها أكملت الطريق، فجأة أمسكت يدي احدى الفاطميات السائرة إلى كربلاء وقد اغبر لونها وتورَّمت قدمها، متسائلة عن رقم عامود 100 لأن والدتها تنتظرها هناك!؟.
أجبت: عزيزتي أن هذا العمود يبعد عنا كثيراً فنحن الآن في عامود رقم 70 !!
الزائرة: آه بعيد حقا! ماذا أفعل الآن؟!
قلت لها: هل لي بمساعدتك عزيزتي.؟
الزائرة: كنت أسير مع والدتي وأختي ولكن تعبت كثيراً جلست في أحد المواكب وبعدها لم أر والدتي ولا أختي.
سألتها: والآن ماذا تفعلين؟.
الزائرة: لا اعلم؟.
قلت لها: إذا رغبتي أرافقك حتى تصلين إلى اهلك.
الزائرة: نعم احتاج أن ارافق أحدا فالظلام سيأتي وأنا لا أعرف الطريق جيداً.
فلت: هيا عزيزتي اتصلي على والدتك واخبريها انني ارافقك.
الزائرة: نعم الآن، أكملت المكالمة الهاتفية مع اهلها، على بركة الله نسير.
ما هو اسمك عزيزتي؟
الزائرة: اسمي هو وردة
اسمك جميل انت حقا وردة من أين أنت قادمة؟
الزائرة: من البصرة.
أهلا ومرحبا بكم كم عمرك؟
الزائرة: عمري هو 40 عاما.
بارك الله في عمرك عزيزتي.
خيم الصمت لحظات ونحن نسير ونستمع إلى القصائد ونردد معهم، وردة تمرر حبات سبحتها بين أناملها وتتنهد.. غابت الشمس خلف المواكب، وصدحت الأصوات من كل الجهات، تفضلوا إلى سفرة العشاء، يتصدرها أنواع متعددة، وطبق الحلوى، والأهم بالنسبة لنا شرب الشاي الساخن.
في ذلك الزحام ووسط تلك الجموع الغفيرة من النساء، جلسنا حول خيمة مخصصة للنساء، نشرب الشاي الساخن، ونكمل حديثنا فالطريق مع وردة ممتع جدا. سبحان الله قتل مظلوما فأحيا الله أمره! عبارة رددتها وردة وهي تتكئ على يدي.
رجعت وردة إلى الذكريات الماضية قائلة: أتمعن في السنين المظلمة التي كان المشي فيها إلى الحسين بالسر! فلم يمنعني حاكم ولا ظالم من السير إلى كربلاء، وكذلك كبر سني من الشوق إلى ذلك الحبيب بين الحين والآخر؛ كي أنهل من العلم والمعرفة وأتخلق بأخلاقه! كنت آوي إليه بين الحين والآخر واشكو له، بعد الله سبحانه وتعالى دوماً، كي يخفف عني همومي ومعاناتي!! وكنت ابكي كثيرا عندما اسمع ان أحدا زار الحسين، أنظر لكل سائر، فتهم نفسي وتسبقني بأخذ يده، (لبيك لبيك يا زائر الحسين).
نسير بين البساتين ونختفي بين البيوت ليلا حتى لا يرانا أزلام صدام اللعين، واستمرت السنون وبقي ذكر الحسين. دموعي لا تقف. وردة بارك الله فيك وزاد في عزمك، كلامك أوقفني، ما هو تحصيلك الدراسي؟.
الزائرة وردة: انا لم ادخل المدرسة فوالدي فلاح ونعيش في قرية لا يوجد فيها مدرسة لكن هنالك قارئة تقرأ القرآن الكريم نذهب كل يوم نستمع منها الآيات القرآنية.
عجبا يا وردة كلامك بليغ، وكأنك في الجامعة.
وردة تشير إلى ناحية النجف الاشرف وتقول: نعم خريجة جامعة علي والمعلم اسمه الحسين.
قلت لها: انا سعيدة جدا بالتعرف عليك عزيزتي، الحسين جمعني بك ما رأيك يا وردة نقرأ زيارة الناحية المقدسة؟
الزائرة: أي زيارة تقصدين؟
هنالك زيارة في كتاب (ضياء الصالحين) اسمها زيارة الناحية وهي مخصوصة للإمام الحسين وما جرى عليه واردة عن الإمام المهدي المنتظر (ع).
الزائرة وردة: لم أسمع عنها من قبل.
قلت لها: إذن لنبدأ بالزيارة..... بسم الله الرحمن الرحيم السلام على ادم صفوة... الزائرة وردة تردد معي كل العبارات ولكن عبارة واحدة جعلتها تقف وتقول لا استطيع القول، (والشمر جالس على صدرك) أخذت تلطم على رأسها وتنادي يا حسين، الزيارة اخذت ساعة ونصف من الوقت، فحال وردة لا يوصف ونحن نقرأ الزيارة في الخيمة والأخوات يرددون معنا، أجواء إيمانية، تهفو نحو الحسين بشهقة وحسرة، خرجنا من الخيمة في تسابق الأرواح قبل الأجساد، وردة مازالت دموعها تنهمر، وانفاسها تردد يا حسين، جزاكَ الله خيرا فأنا اول مرة أسمع بهذه الزيارة، ما أعظم المصيبة.
عزيزتي وردة كل ما جرى على الإمام الحسين عليه السلام ورد في هذه الزيارة وما جرى على زينب الكبرى.
الزائرة: سلام الله عليهم كل ما نقدمه قليل بحقهم!!
نعم ياوردة.
ويمضي الوقت يكاد العصر ينتهي، والحديث مع وردة ممتع جدا، نحن الآن قرب العمود 80، أقدام وردة تتسارع مع عمرها وتعدل اعوجاج ظهرها، خطوة تستند على كتفي، وخطوة يسندها العلم المرفوع على كتفها، بين السير المزدحم، الشوارع تزداد بالزائرين مسرعين إلى أرض لا شبيه لها، أرض الأحلام.
الزائرة وردة أمية في أمور دينها لا تعرف شيئا، فقط الصلاة والصوم والزكاة والخمس، هذا كان واضحاً من كلامها. مكتب الإرشاد الديني على طريق الزائرين، للإجابة على الاستفتاءات.
وردة متسائلة: لمَ كل هذا التجمع هنا؟
عزيزتي هنا مركز التوجيه والإرشاد الديني أي الإجابة على أسئلة الناس الدينية مثل الصلاة، والصوم، الخمس، أو أسئلة نسائية خاصة.
الزائرة وردة تجيب وعلامة التعجب في عينها حقا !!
أنت تعرفين أكثر مني ما هو عملك أختي؟
أجيبها: أنا طالبة في الحوزة العلمية.
الزائرة: ما شاء الله انت طالبة في الحوزة، إذن انت تعرفين المسائل.
أجبتها: انا طالبة عزيزتي اعرف القليل من بعض علوم أهل البيت عليهم السلام، فنحن قطرة في بحر العلماء.
وردة: سبحان الله هل أسألك بعض الأسئلة؟
قلت لها: تفضلي صديقتي على الرحب والسعة.
الزائرة وردة: عندما أصلي أشك في صلاتي دائماً بشكل يومي وانا كما تعرفين كبيرة في العمر لا استطيع ان أعيد صلاتي.
قلت لها: إذا كان الشك كثيراً فلا تبطل صلاتك.
الزائرة وردة: ما هي الاغسال الواجبة؟.
أجبتها: غسل الميت، غسل الحيض، والنفاس، غسل مس الميت، غسل الجنابة.
سألتني وردة: وهل دفع الخمس واجب علينا؟.
أجبتها: وردة عزيزتي أن دفع الخمس هو إعطاء حق الإمام المعصوم من أموالنا، نعم الخمس واجب، وإذا لم يدفع الخمس يكون غاصبا لحق إمامه. فهذه الأموال التي بين أيدينا لها حقوق ويجب ان تدفع.
أسئلة وردة تتدفق عليَّ بين لهفة السؤال، وعشق المعرفة وهي بهذا العمر المتقدم، أسئلتها تفرحني كثيراً، ينطبق عليها القول اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، أذان المغرب يطرق الأبواب والكل يتهيأ لاستقبال الصلاة، أصوات أئمة المساجد ترتفع، والمآذن تصدح، بالآذان الله أكبر، الله أكبر، جل اسمك وعلا مكانك انت ارحم الراحمين، هيا يا وردة دعينا نحل ركابنا في هذا الموكب المقدس نجدد الوضوء، ونصلي، وردة نعم جاء وقت الصلاة الحمد لله المسافة قربت.
في الخيمة وبين النساء الكل في حالة إحضار القلب والتوجه نحو القبلة، أخت كانت حائرة لا تعرف ماذا تقول، وردة بعادتها تحب أن تتكلم وتسأل عن أي شيء أمامها، قائلة: ما بك أختاه هل تحتاجين مساعدة؟
أجابت الاخت العلوية: نعم لدي سؤال ولا أعرف من أسأل؟
الزائرة وردة: إسألي هذه المرأة التي تجلس خلفي فهي طالبة في الحوزة.
العلوية: صحيح؟.
وردة: نعم.
جاءت الاخت وطرحت سؤالها وحصلت على الإجابة الصحيحة وعلى رأي مرجعها.
في الخيمة أخوات يقفنَ لأداء صلاة المغرب صلاة جماعة تجمع كل الزائرين، تسبيح الزهراء عليها السلام، أصوات التسبيح والتهليل، ترتفع من المواكب الحسينية، بعد الصلاة وقراءة التعقيبات، رن هاتف وردة والدتها تنتظرها قرب الموكب الفلاني بجانب العامود، وردة ابلغت والدتها بانها بصحبتي ولا تريد مفارقتي حتى تصل إلى غايتها ومناها الحسين.
جاء الليل مسرعاً وقد مد ظلامه ونثر نجومه وهدأ نبضه، ها هم المشاة يقلّون شيئا فشيئاً، بين نائم، وبين من يأخذ قسطاً من الراحة، وآخر يمد جسده النحيل على الارض، بانتظار بزوغ الفجر، مازلنا في الطريق، فجأة تحدثت وردة عن عمل لخدمة الزائرات من خلال المحاضرات الدينية، حول أهمية الحجاب الشرعي، وما هي ضوابطه وشروطه، وعن حرمة المكياج والتزيين أمام الأجانب، مشروعها كان عمل خيري، نابع من الحب الحسيني وحب الخير للآخرين، وتقديم النصيحة لهم وان كانت هي لا تملك المعلومة والثقافة الكافية، تحاول أن تدفعني إلى هذا العمل وتشجعني، بكلماتها البسيطة لأجل الحسين، قدمي لهم ما تعرفينه من الاجوبة.
إصرارها على المساعدة يجعلني أسارع الى الخيام لنشر الرسالة وبيان الاحكام الشرعية، وتوضيح مسائل عاشوراء لمجموعة من النساء اللاتي يأخذن قسطا من الراحة.. مسيرة الاربعين دروس ومناهج اخلاقية ودينية، الكل يستمع، الكل يقدم المساعدة في سبيل توصيل رسالة الحسين بأية طريقة.
وردة من الورود الزاهرة في طريق الاربعين على الرغم من بساطتها إلا انها اثبتت مدى عشقها للحسين. اقتربنا من العامود والاهل مازالوا ينتظرون وردة، والدتها امرأة كبيرة في العمر، تربط عصابة على رأسها، تراب الطريق غير لون عباءتها، والمسافة طويلة تورمت قدمها، أختها في ربيع عمرها، تمسك بيد والدتها لتوصلها إلى كربلاء، لا يمنعهم العمر، بل تأنس أرواحهم لذلك المكان.
وبعد ان توجهنا إلى مشارف أرض كربلاء للزيارة وانا بالطريق مع أهل وردة قلت:
أأمشي على سكينة أم أكون مسرعة؟.
فجاءني الرد سريعاً من والدة وردة: أو لك قدرة على الصبر تقدمي سريعاً وعانقي ما كنت تنتظريه كل هذه الأيام.
وبعد الدخول بين الحرمين، ماذا اقول اخيراً يا مولاي تكحلت عيناي برؤية قبتك ونالني الشرف في زيارتك، في هذا الوقت بعد كل هذا الانتظار وبعد ان وصلت إلى قبر الحسين عليه السلام، تجددت احزاني من جديد لمصيبة ما أعظم رزيتها في الإسلام.
الزائرة وردة جلست تقبل أعتاب كربلاء بشوق وحسرة، تلم جراحها وتستعد لدخول إلى حرم الإمام الحسين بالدموع قائلة لبيك يا حسين، من جنة الله استودع وردة صديقة الطريق الحسيني، حسينية في أخلاقها، زينبية في حجابها، فاطمية في مواساتها، استودعكم عند الإمام الحسين فلا يضيع من استودع عند الحسين ونسألكم الدعاء.
وردة تحتضني وتقول: طريق الزائرين مدرسة وانا تعلمت من هذه المدرسة كثيراً، بارك الله فيكم، فراقك صعب، ولكني سأتذكرك في دعائي وصلاتي، تعلمت الأحكام الشرعية، والزيارات وغيرها مما كان غائبا عني، أختي الكريمة وردة المواكب الحسينية هي مدارس لنا نأخذ منها العَبرة والعِبرة.
خذي هذا الكتاب وتذكريني به أنه مفاتيح الجنان، وسبحة من تراب الحسين، هدية مني لكم، أسأل الله أن يرجعكم سالمين غانمين، ولا تنسي الدعاء بتعجيل الفرج. أيتها الحسينيات إن شاء الله العود إليها في العام القادم.