النموذج الأكمل لحركات التغيير
صباح الصافي
2025-06-30 03:53
تواجه كثير من الثَّورات وحركات الإصلاح والتَّغيير أزمة أخلاقيَّة حادَّة، تنشأ من التباين بين القيم المعلنة لتلك الحركات وبين سلوك الأفراد الذين يتولَّون قيادتها أو ينتمون إلى صفوفها. وعندما تنفصل المبادئ عن الواقع الأخلاقي للمجتمع الثَّائر، تفقد الثورة شرعيتها وتتحوَّل إلى صراع خاوٍ من الروح والمعنى. ومن هنا، فإنَّ أحد أسرار خلود ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) يكمن في انسجام جوهري وعميق بين القيم التي نادت بها، والسلوك الذي تجسَّد في أفعال أنصاره، حتَّى أصبحت ثورته تجسيدًا حيًا للأخلاق الإلهيَّة في ميدان المواجهة.
لقد امتاز أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) بصفاء الإيمان، وصدق الولاء، وشجاعة الموقف، حتَّى أصبحت بطولاتهم ومواقفهم المخلصة صفحة مشرقة في سجِّل الإنسانيَّة؛ فهم الصفوة المختارة التي آزرت الحقَّ يوم تخلَّى عنه النَّاس، وحمت الإسلام حين تلبَّس الباطل بثوبه، وثبتت مع الإمام المعصوم (عليه السلام) حين باع الآخرون دينهم بثمن الدُّنيا.
لذلك، تبرز الحاجة المُلِحَّة إلى دراسة معمَّقة لشخصيات أولئك الأبطال، والوقوف على ملامح واقعهم الإيماني والعملي باعتبارهم النموذج الأكمل لأيّ مشروع تغييري أصيل. وهذه الدِّراسة لا تكتمل إلَّا من خلال مقارنة واعية بين أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) وأولئك الذين انخرطوا في معسكر يزيد بن معاوية وعمر بن سعد؛ إذ يظهر الفارق الأخلاقي والحضاري بين الجانبين؛ فكلُّ حركة إصلاحيَّة حقيقيَّة لا تُكتب لها الحياة إلَّا إذا كانت أدواتها البشريَّة متباينة جذريًا عن الواقع الفاسد الذي تنوي تغييره. وأمَّا إذا تماهى الثوار مع خصومهم في الذهنيَّة والسلوك، فإنَّ الفشل سيكون المصير الحتمي، مهما كانت الشعارات لامعة.
وهكذا كانت ثورة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) منسجمة في جوهرها، متكاملة في عناصرها، تنبض بالحياة في القيم والسلوك معًا، لتقدِّم للبشريَّة أعظم درس: وأنَّ التَّغيير الحقيقي يبدأ من تزكية النفوس، وثبات المبادئ، وصفاء الولاء؛ لذلك سنحاول أن نذكر أهمَّ السمات التي اتَّصف بها أنصار الإمام الحسين (عليه السلام)؛ وهي:
1. وفاء لا تزعزعه السيوف ولا تُغريه الدنيا.
في مسيرة كلِّ ثورة عبر التاريخ، تحتل القيادة موقع القلب النَّابض الذي يصوغ الرؤية، ويرسم الأهداف، ويشحذ الهمم، ويزرع في النفوس بذور الثَّبات والصَّبر. غير أنَّ القيادة، مهما بلغت من الحكمة والبصيرة، تبقى بحاجة إلى رجال أوفياء يحملون في قلوبهم صدق الولاء، ويقفون إلى جانبها في أحلك الظروف؛ فالثَّورة هي نسيج من علاقة متبادلة بين قائد مُلهِم وأتباع يضحّون عن بصيرة ويقين؛ وكلَّما تعمَّق الإخلاص في قلوب الجنود لقائدهم، زادت فرص الثَّبات والانتصار.
وما من لوحة في التَّاريخ تصوّر هذا التلاحم كما جسَّدته ملحمة كربلاء؛ لقد بلغ الإخلاص لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قمَّته حتَّى غدا عنوانًا خالدًا للوفاء والبذل والفداء، ومثالًا ناصعًا يضيء صفحات التَّاريخ؛
فحين غادر الإمام الحسين (عليه السلام) مكَّة متجهًا نحو العراق، التفَّ حوله جمع غفير، كان فيهم من ظنَّ أنَّ المسير ثورة تشبه غيرها من الحركات التي تطمح إلى الحكم وتسعى وراء السلطة، فخُيِّل لبعضهم أنَّ الطريق سيقود إلى مناصب وغنائم، وتوقَّع آخرون مكاسب سياسيَّة تُرفع بها رؤوسهم بين النَّاس؛ لقد قرأوا نهضة الإمام بعين ماديَّة، وقاسوا أهدافها بموازين دنياهم.
لكن الإمام الحسين (عليه السلام) كان أعمق رؤية، وأصفى بصيرة، فقد علم منذ البداية أنَّ طريقه ليس ساحة للغلبة السياسيَّة؛ بل طريق للفداء وإحياء للضمائر وتطهير للأرواح؛ لذا لم يكن مستعدًا لأن تُبنى ثورته على أكتاف المترددين، ولا أن يشارك في مشروعه من لم يُزِل من قلبه حبَّ الدُّنيا، وكان يعلم أنَّ الثَّورات التي تُؤسس على الطمع آيلة إلى الزَّوال، وأنَّ القمم لا يعتليها إلَّا أصحاب النفوس الطاهرة والقلوب العظيمة.
ولهذا نجده في كلِّ محطَّة من محطَّات رحلته إلى كربلاء كان يُوضح للنَّاس المصير القادم؛ قال الإمام الصَّادق (عليه السلام): "يَا أَبَا حَمْزَةَ أَقُولُ لَكَ مَا يُغْنِيكَ سُؤَالَهُ: إِنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ مَكَّةَ دَعَا بِكَاغَدٍ، وَكَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَنْ لَحِقَ بِي مِنْكُمْ اسْتُشْهِدَ وَمَنْ تَخَلَّفَ لَمْ يُدْرِكِ الْفَتْحَ وَالسَّلَامُ"(1) لم يغرّهم بالوعود، ولم يُجاملهم بالكلمات. وواجههم بالحقيقة: وأنَّ من أراد البقاء معه، فليُسلِّم قلبه وروحه، لا فقط جسده ولسانه؛ ولذا لم يبق معه في كربلاء إلَّا الصفوة؛ وتلك القلوب المؤمنة التي تجاوزت المصالح الشَّخصيَّة، واختارت أن تموت في كنف ولي الله لا أن تحيا على مائدة الطغاة. ومن تلك اللحظة، تجلَّت أعظم صورة في التاريخ لوفاء لا يخونه الخوف، ولإخلاص لا تُزعزعه السيوف، ولحبٍ لا يعرف التَّراجع.
لقد سجَّل أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) موقفًا لا تبلغه الأقلام، حين صدقوا في بيعته، وثبتوا معه حتَّى آخر رمق، وأثبتوا للعالم أنَّ القائد الذي يُلهم أرواح أتباعه بالإيمان لا يُخذَل، وأنَّ الإخلاص، حين يتجرَّد من الدُّنيا، يصنع ملحمة لا تنطفئ أبدًا.
لذلك وقف، وخطب فيهم، وعرَّفهم بالمصير المحتوم الّذي ينتظره، قائلًا: "الحَمدُ للَّهِ وما شاءَ اللَّهُ ولا قُوَّةَ إلَّابِاللَّهِ، وصَلَّى اللَّه عَلى رَسولِهِ وآلِهِ وسَلَّمَ؛ خُطَّ المَوتُ عَلى وُلِد آدَمَ مَخَطَّ القِلادَةِ عَلى جِيدِ الفَتاةِ، وما أولَهَني إلى أسلافي اشتِياقَ يَعقوبَ إلى يوسُفَ، وخُيِّرَ لي مَصرَعٌ أنا لاقيهِ كأنِّي بأوصالي تُقَطِّعُها عِسلان الفَلَواتِ، بَين النَّواوِيسِ وكَربَلا، فَيَملأْنَ مِنِّي أكراشاً جَوفاً، وأجرِبةً سُغباً، لامَحيصَ عَن يَومٍ خُطَّ بِالقَلَمِ، رِضى اللَّهِ رِضانا أهلَ البَيتِ، نَصبِرُ عَلى بَلائهِ ويُوِّفينا أُجورَ الصابِرينَ لَن تَشِذَّ عَن رَسولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وآله لُحمةٌ هِي مَجموعةٌ لَهُ في حَظيرةِ القُدسِ تَقَرُّ بِهِم عَينُهُ، ويُنجِزُ لَهُم وَعدَهُ، مَن كانَ باذِلًا فينا مُهجَتَهُ، ومُوَطِّناً عَلى لِقائنا نَفسَهُ فَليَرحَل؛ فإنّي راحِلٌ مُصبِحاً إن شاءَ اللَّهُ"(2).
وبذلك أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يُفهم كلَّ أولئك الذين تبعوه بدافع دنيوي، أنَّه حامل رسالة ومشروع إلهي، لا يبتغي من وراء حركته إلَّا إقامة الحقِّ ودفع الباطل، ولو كان الثَّمن دمه ودم أهل بيته وأصحابه (عليهم السلام).
لقد مرَّ الأنصار باختبارٍ عسيرٍ في ليلة العاشر من المحرَّم، حين خيَّرهم قائدهم العظيم بين البقاء والرَّحيل، وأراد لهم النَّجاة بأنفسهم، فخاطبهم بكلمات ملؤها الشفقة والإباء، قائلاً: "أَمَّا بَعْدُ، فَإنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَاباً أَوفَى وَلَا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي؛ فَجَزَاكُمُ اللهُ عَنِّي خَيْرَ الْجَزَاءِ.
أَلَا وَإنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَانْطَلِقُوا جَمِيعاً في حِلٍّ؛ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ. هَذَا اللَيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا.
فنهض إخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وأبناء عبد الله بن جعفر، ومسلم بن عوسجة، وزهير بن القين وجماعة آخرون من الأصحاب فتكلَّم كلٌّ منهم معتذراً كلاماً معناه: لا بقينا بعدك! لا أبقانا الله بعدك! لن يكون ذلك منَّا أبداً! لوددنا لو كان لدينا عدَّة أرواح لنفديك بها جميعاً!"(3).
2. سيوف مشرعة وقلوب ساجدة.
من أبرز السمات التي أشرقت في وجوه أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، هي تلك الروح المتجهة بكلِّ وجودها إلى الله (سبحانه)، حتَّى غدت أيَّام التَّاسع والعاشر من محرَّم مشهداً نابضاً بالعبوديَّة المجرَّدة من شوائب الدُّنيا وأدران الغفلة.
لقد تحوَّلت أرض كربلاء في تلك اللحظات المهيبة إلى محرابٍ فسيح، وارتفعت خيام الحسين (عليه السلام) كمآذن ترتفع منها أنفاس التهجد، وتنبض فيها الأرواح بنداء العبوديَّة والخضوع. فلم يكن سلاحهم ضجيجًا، بل خشوعًا، ولم يكن حديثهم عن الدنيا وزخارفها، بل كان تسابيح وتلاوات ودعاء يملأ الزمان والمكان. حتَّى أعداؤهم، وقد تبلدت أحاسيسهم، لم يستطيعوا أن يُنكروا أن أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) هم أكثر النَّاس ذكرًا لله (جلَّ جلاله) وأصدقهم توجّهًا نحوه.
لقد اتَّخذوا من القرآن الكريم غذاءً لأرواحهم، ومن الدعاء وقودًا لصبرهم وثباتهم، ومن الدموع وسيلة لشحذ عزيمتهم، وتعميق ولائهم لإمامهم (عليه السلام). كان ذكرهم لله (سبحانه) حالة وعي دائم، وتجديدًا صادقًا للعهد الذي قطعه الله (تعالى) عليهم في عالم الذرّ، يوم اصطفاهم لحمل أمانة الحقِّ ونصرة وليِّه (عليه السلام).
ومع دنوّ ساعة الشَّهادة، ترفَّعت نفوسهم عن حاجات الجسد، وانصرفت عن زخارف الدنيا، حتَّى الطَّعام - وهو أبسط مطالب الإنسان- لم يخطر ببالهم، إذ كانت أرواحهم مشغوفة بحلاوة القرب من الله (تعالى)، مستغرقة في لذَّة المناجاة، التي أروت ظمأهم وأشبعت جوعهم. لقد أحياهم نور الإيمان، وألهبتهم حرارة العبادة، حتَّى تلاشت في أعينهم الماديات، وفقدت الدُّنيا سلطانها عليهم؛ لأنَّ قلوبهم كانت معلَّقة بالملكوت، مترفعة عن كلِّ ما يشدّها إلى الأرض.
كانت كربلاء، في حقيقتها، ساحة مواجهة بين قلوبٍ طاهرة وسيوف ظالمة، وكان فيها القرآن يُتلى من صدورٍ عامرة، لا من مصاحف، والدعاء يُرفع ترقّبًا للقاء المحبوب، وشوقًا لرضوانه؛ ولهذا، فإنَّ اللحظة الأخيرة من حياتهم كانت أبهى لحظاتهم؛ لأنَّها لحظة بداية الخلود؛ فتصف الروايات المعسكر في ليلة العاشرة من محرَّم "وباتَ الحُسَينُ عليه السلام وأصحابُهُ تِلكَ اللَّيلَةَ ولَهُم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحلِ، ما بَينَ راكِعٍ وساجِدٍ وقائِمٍ وقاعِدٍ، فَعَبَرَ عَلَيهِم في تِلكَ اللَّيلَةِ مِن عَسكَرِ عُمَرَ بنِ سَعدٍ اثنانِ وثَلاثونَ رَجُلًا. وكَذا كانَت سَجِيَّةُ الحُسَينِ عليه السلام في كَثرَةِ صَلاتِهِ وكَمالِ صِفاتِهِ"(4).
لقد اختار الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه أن يملأوا تلك السَّاعات الأخيرة بأعمال تقرّبهم إلى الله (تعالى)، وكأنَّهم كانوا يرَون أن أعظم ما يُمكن فعله في لحظات المواجهة المصيريَّة هو التوجّه الكامل إلى المولى بالجوارح والجوانح معًا. وكانوا على يقينٍ بأنَّ يوم العاشر ليس موعدًا للقاء العدو فحسب، وإنَّما لحظة اللقاء مع الله (سبحانه)، وأنَّ هذه الليلة المباركة هي الفرصة الأخيرة لنقش أسمائهم في سجل أوليائه المقرَّبين. لقد علموا أنَّ السجود، وتلاوة القرآن، ورفع الأكف بالدعاء، أعظم قيمة من كلِّ استعداد ميداني؛ لأنَّ النصر الحقيقي يُمنح من الله (تعالى) لأولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبلغوا مقام الإخلاص في آخر امتحان.
إنَّها لحظة استثنائيَّة في التَّاريخ، تلاقَت فيها عظمة الروح مع أسمى صور البطولة، فأسَّسوا بذلك مدرسة متكاملة في التَّوكل الحقيقي، والثقة المطلقة بالله (تعالى)، والعبوديَّة الحقيقيَّة، حتَّى غدت ليلة عاشوراء منارة خالدة تهدي السالكين في دروب القرب الإلهي، وتُعلِّم الأجيال أنَّ كمال الإيمان لا يتحقَّق إلَّا حينما يجتمع ثبات القلب مع الشَّجاعة في موقف يُفرِّق بين الحقِّ والباطل.
3. إقامة الصلاة في قلب المعركة.
حين تصارع جند الحقِّ مع جند الباطل، وكانت السيوف تفتك بالأجساد والسهام تحصد الأرواح، لم تغب عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه تلك اللحظة التي ترتفع فيها الأرواح إلى الله (تعالى)، لتقف خاشعة في محراب الصَّلاة.
لقد كان ظهر عاشوراء مشهدًا فريدًا لا مثيل له؛ حيث امتزج صوت التَّكبير بدوي النصال، وتحوَّل استعدادهم لملاقاة العدو إلى استعداد أسمى للوقوف بين يدي الحي القيوم؛ فكان القتال مشحونًا بالإيمان، والبطولة مقرونة بالخشوع والخضوع لله (سبحانه)؛ "فَلا يَزالُ الرَّجُلُ مِن أصحابِ الحُسَينِ قَد قُتِلَ، فَإِذا قُتِلَ مِنهُمُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ تَبَيَّنَ فيهِم، وأُولئِكَ كَثيرٌ لا يَتَبَيَّنُ فيهِم ما يُقتَلُ مِنهُم، فَلَمّا رَأى ذلِكَ أبو ثُمامَةَ عَمرُو بنُ عَبدِ اللهِ الصَّائِديُّ قالَ لِلحُسَينِ: يا أبا عَبدِ اللهِ، نَفسي لَكَ الفِداءُ، إنّي أرى هؤُلاءِ قَدِ اقتَرَبوا مِنكَ، ولا واللهِ لا تُقتَلُ حَتّى اُقتَلَ دونَكَ إن شاءَ اللهُ، وأُحِبُّ أن ألقى رَبِّي وقَد صَلَّيتُ هذِهِ الصَّلاةَ الَّتي دَنا وَقتُها. قالَ: فَرَفَعَ الحُسَينُ رَأسَهُ ثُمَّ قالَ: ذَكَرتَ الصَّلاةَ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصَلّينَ الذَّاكِرينَ، نَعَم هذا أوَّلُ وَقتِها، ثُمَّ قالَ: سَلوهُم أن يَكُفّوا عَنّا حَتّى نُصَلِّيَ، فَقالَ لَهُمُ الحُصَينُ بنُ تَميم: إنَّها لا تُقبَلُ، فَقالَ لَهُ حَبيبُ بنُ مُظاهِر: لا تُقبَلُ! زَعَمتَ الصَّلاةُ مِن آلِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله لا تُقبَل وتُقبَلُ مِنكَ"(5).
ثمَّ وقف الإمام الحسين (عليه السلام) في قلب ساحة المعركة ليرفع يديه إلى السماء ويُقيم الصلاة في وقتها، وهو يدرك تمامًا قسوة العدو وقسوة السهام التي لا ترحم ولا تنتظر. وأراد بذلك أن يُرسل رسالة إلى العالم أجمع، مفادها أنَّ الصَّلاة أسمى وأجل من الدَّم، وأنَّها عهد يتجدد ويُصان حتَّى في أصعب لحظات الشدَّة والموت.
وهكذا، وفي قلب ملحمة عاشوراء كانت الصلاة هي النبض الذي حفظ للنهضة الحسينيَّة معناها، وهي الثَّابت الذي لم يتغيَّر في دوامة الأحداث، لتكون رسالة للأجيال: إنَّ من ضيَّع الصلاة ضيَّع الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنَّ من حافظ عليها فقد سار في طريقه، مهما تباعدت الأزمنة وتبدَّلت الوجوه.
4. الاشتياق إلى الموت.
إنَّ الموت، في حقيقته، حاجز وجودي يفصل الإنسان عن لذائذ الحياة ومكاسبها، وهو العقبة الكبرى التي تُعيق اندفاعه نحو المبادئ حين تُهدده بالتضحيَّة والفقد؛ ولهذا، فإنَّ طبيعة العلاقة مع الموت تُعدُّ مقياسًا دقيقًا لفرز القيم وتمحيص الصدق؛ إذ لا تظهر الشجاعة، ولا يكتمل الإخلاص، ولا يتجلَّى الإقدام في أسمى معانيه، إلَّا عندما يواجه الإنسان الموت بعين الوعي، ويقبله طوعًا في سبيل مبدأ خالد أو قضية سامية.
فمن روّض قلبه على استقبال الموت من أجل الحق وحده، يكون قد تحرَّر من قيود الخوف والتردد، وارتقى فوق معادلات الربح والخسارة. وأمَّا من ارتعدت روحه أمام فكرة الرَّحيل؛ فإنَّه سرعان ما يتراجع حين تشتدّ اللحظة، ويبحث عن طريقٍ للفرار، يخلِّصه من ثمن التضحيَّة.
وقد قدَّم أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجًا فريدًا ونادرًا في تاريخ البشريَّة للاستبشار بالشَّهادة، لا باعتبارها نهايةً تفني الوجود، وإنَّما مثل ميلاد جديد لحياة خالدة عند ربِّهم (تبارك وتعالى). وكانت أرواحهم تتوق إلى الموت كما تتوق الأرض العطشى إلى قطرات المطر، يرونه فوزًا لا خسارة، وموعدًا مع الكرامة لا الفناء، فاستقبلوه بقلوب مطمئنة ووجوه باسمة؛ وسرُّ هذا التسامي النَّفسي لم يكن خافيًا على السيِّدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السلام)، فهي التي كانت ترى بنور بصيرتها ما يفوق ظاهر الأحداث، وتلمح في وجوه القوم إشراق الأرواح الذاهبة إلى الله (تعالى). وفي ليلة العاشر، حين اشتدَّ الحصار من كلِّ جانب، اقتربت من أخيها الحسين (عليه السلام) في لحظة تفيض حنانًا وقلقًا، وسألته بلطفٍ: "هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنَّة! فبكى (عليه السلام) وقال: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِمُ [إِلاَّ] الأْشْوَسَ الأْقْعَسَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ"(6)؛ ولم يكن سؤالها تشكيكًا؛ ولكنها كانت تدرك أنَّ الموت إذا اقترب، قد يكشف المعادن ويُسقط الأقنعة.
لقد استقبلوا الشهادة كما يستقبل العاشق لقاء محبوبه، وتزاحموا على القتال كما يتزاحم الظامئون على المورد العذب؛ وكلُّ ذلك لأنَّهم آمنوا أنَّ الحياة بلا كرامة لا تُطاق، وأنَّ الموت في سبيل الإمام المعصوم هو حياة سرمديَّة.
لقد كان أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) فوق التصنيف البشري المألوف؛ فقد اجتمع فيهم ما تفرَّق في غيرهم: إخلاص لا يُجارى، وشجاعة لا تَضعف، وعبادة لا تنقطع، وبصيرة لا تضل، وتوق للموت لا يبلغه إلَّا العارفون بالله (تعالى) وأولياءه (عليهم السلام).
إنَّ دراسة سمات أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) هي رسمٌ لدستور الثورة الصادقة في كلِّ زمان، وهي دعوة مفتوحة لكلِّ من يحمل همَّ الإصلاح أن يبدأ بنفسه أوَّلاً، ويتأسى بتلك الكوكبة التي اختارت الموت في سبيل الحياة، فكانت شهادتهم بداية ولادة جديدة للحقِّ في ضمير الأُمَّة.
وهكذا، فإنَّ أحد أسباب خلود النهضة الحسينيَّة عظمة رجالها؛ أولئك الذين جعلوا من رمال كربلاء محرابًا، ومن سهام الأعداء وسامًا، ومن الشهادة طريقًا للخلود. فسلام على وجوههم النيرة، وعلى صدورهم المتقدمة، وعلى نواياهم الصافية، وعلى عزمهم الذي لا يلين. وسلامٌ على كلِّ من سار على نهجهم واهتدى بنورهم، إلى قيام القائم من آل محمَّد (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف).