كأنه معها
علي حسين عريبي
2024-09-28 04:38
للسنة السابعة على التوالي تخرج فاطمة من منزلها مع والدتها بخطوات ثابتة مشياً على الأقدام في طريق الحق، من مدينة السماوة إلى المدينة التي سالت عليها دماء الطهارة والكرامة.
فاطمة ترتدي عباءتها السوداء، وفي يديها تحمل راية المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وصورة والدها الشهيد مبتسماً كعادته، وتحمل على ظهرها حقيبتها الصغيرة، واضعة فيها زي والدها العسكري الذي تزينه دماء الشهادة.
حين يتسامى الحزن مع الفخر وروح الشهادة، ينبض الدرب تحت أقدامها بانين الجراح، تشعر أنها هي الأقرب لأرض هيهات منا الذلة.
لا أحد يعرف أن والدها يسير برفقتها ويحيطها بالحنان مع كل خطوة تخطوها، ولا يعرف ذلك غير الشهداء وأبنائهم، لأنهم تأسوا بالحسين فأرادوا لأسمائهم أن تتشرف بمجانبتها لولده وصحبه.
يقول لها والدها: أنعم الله على الشهداء فجعلهم الأوائل ممن يستقبلون زوار سيد الشهداء، وذلك ما يدفع فاطمة على السير بلا كلل ولا ملل، فكانت وكأنها تصارع قدرة جسدها الهزيل بغية اللقاء الموعود.
عند مشارف الأرض العاشقة للشهداء وأبنائهم، تمسك بيد والدتها التي اهترئ الجلد من فوقها فبانت وكأنها امتداد لجدران منزلهم المتدارك المتهاوي، فتخبرها بصوت هادئ ممتلئاً باليقين: والدي حملني السلام لكِ، وأكد لي أنه لا زال يحبكِ ويرافقكِ بكل خطوة، لترتجف تلك الكفوف كما كانت ترتجف في اللقاء الأول، وحاولت حبس دموعها، لكن الكلمات تتسرب إلى قلبها كما يسرب النور إلى العتمة، فتتسلل تلك الكلمات من القلب إلى الأعين لتخرج على شكل دموع.
وحينما وصلت فاطمة إلى مدينة كربلاء المقدسة، لمعت عينيها بلمع القباب، قال لها والدها: أهلا بكم في موطن الشهادة والشرف أميرتي، الحمد لله على سلامتكم، وقبل الله زيارتكم ونسألكم الدعاء.
وما أن دخلت إلى الصحن الحسيني الشريف لتغرورق عيناها فتشعر بأن سنواتها وذكرياتها تجمعت داخل أجفانها فثقلت بها لتسكب منها ما يضنيها، حتى شعرت بأمان لم تذق طعمه منذ أن فارقت أحضان ابيها.
رغم ضيق تنفسها وانحجاب الرؤية عنها لم تكترث فاطمة لما أحاطها من زحام، فكانت على يقين أن كل الطرق تنفرج أمام الشهداء، فرفعت صورة والدها عالياً بين الزائرات، مترجية إياه بأن يأخذ بيد والدها إلى منزلة أصحابه حيث السرمدية والفضيلة.