وداعاً يا رفيجي

علي حسين عريبي

2024-09-17 03:39

أبا مؤمل من سكنه قلب محافظة البصرة، هاجس يركب كثيرا ربما سيحرمه المرض هذا العام في المسير إلى صوب كربلاء الحسين "يا أبا عبدالله أدعو لي بالشفاء العاجل فقد بدأ الزحف الأربعين"، وربما سينطلق يوم غدا أو بعده من منطقة رأس البيشة، يعاني من أمراض متعددة وإذ يبدو أن هذه بوادر آخر الحيل بدت تلم به رغم أن عمره ليس كبيرا إلى الحد الذي يشعر بالعجز والتعب، صعب جدا أن يفكر حتى مجرد تفكير أن يجلس في البيت ويرى زائري يصارعون الطريق تحت أشعة الشمس اللاهبة لأجل نصرة من فضل الموت على الذل، فجأة أبا مؤمل تذكر صديقه أبا أحمد.

اعتاد أن يتحدث مع أبا أحمد كل عام قبل ايذانا بحلول أيام زيارة الأربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، وليتبادلا حديثا ويخططان لرحلتهما السنوية سيرا على الاقدام قاصدين المدينة التي انتصر فيها الدم على السيف، برغم انه كان يتوقع في أي لحظة تأتي مكالمة من صديقه لكن مع رن هاتفه ارتبك وقفز بحركة لا إرادية وانقطعت ما بين يديه مسبحته وتفرطت حباتها وتناثرت بين اقدامه؛ نظر اليها وقال: "اللهم اجعله خيرا"، هل هي فرحة لقاء اربكته او خبر نكوصه هذا العام عن المسير، اخذ هاتفه البسيط والقى نظرة على شاشته "يتصل بك أبا احمد من مدينة الاهواز الايرانية"، كان متوقعا ان يسمع صوت صديقه ويخبره بأن سيلتقيان بعد أيام قليلة، ويتوجهون من راس البيشة الى كربلاء مشيا على الاقدام لإحياء زيارة الأربعين المباركة. 

كانت صدمة كبيرة في حياته هنا عندما رفع الهاتف الى اذنه وسمع ما سمعه كان مختلفا تماما ومخيفا، اذ جاء صوت محمل بالبكاء من طرف اخر قال: "انا لله وانا اليه راجعون لقد توفى صديقك في درب الحسين... مساء يوم أمس"....

كان الخبر كالسيف الذي شق قلبه نصفين، وتجمدت الكلمات في فمه وسقط الهاتف من يده مرتعشة، كان لم يستطع أن يصدق عما سمعه، بدأت دموعه تسيل بهدوء على وجنتيه مجعدتين، وشعر كأنما انتزع منه جزءا لا يتجزأ من روحه، كيف له أن يستوعب رحيل من كان معه في كل خطوة في رحلة إلى قبلة الأحرار ومأوى النفوس، ويسند عليه عندما تخذله قدماه.

بدأ يفكر ويستحضر صديقه هو يضحك ويتحدث، وكان يحاول كتمان دموعه، مرددا مع نفسه": إن هذا ليس وقت البكاء بل وقت الوفاء، كأنها وعود مقدسة لا ينساها ولا يخذلها أبدا، كأنه الهفهاف الراسبي.

قرر أبا مؤمل أن ينهض رغم المرض، نهض معتمد على عصاه يبدأ بالمسير إلى كربلاء اليوم ليس فقط من أجل نفسه، بل من أجل صديقه والعهد والوعد مع سيد شهداء (عليه السلام) الذي يتخذونه كل عام، ذهب ليحضر حقيبته الصغيرة ولصق على واجهتيها صورة تجمعه مع أبا أحمد.

كان يعلم جيدا أن هذا العام سيكون مختلفا تماما عن بقية الأعوام السابقة، وسيكون أصعب مما يتصور، كيف يمكنه ان يمشي في هذا الطريق الطويل وحده، وكيف يمكنه أن يتحمل غياب أبا أحمد في هذا العام، لأنه اعتاد طوال السنوات العديدة السابقة أن يمشي سيرا على الأقدام دون تعب أو ملل بجانبه، وكان يتقاسم معه الحديث، ويشدان أزر بعضهما البعض عند التعب، وكان يرفع مظلة على رأس صديقه لتحميه من اشعة الشمس اللاهبة، عبر الراية التي يحملها من بداية الانطلاق إلى الوصول، عندما خطى أولى خطواته في طريق شعر بأن روح صديقه ترافقه وتشد عزيمته وتدفعه بالاستمرار وتدعو له بالسلامة والقبول في رحلته إلى كربلاء، وكان رفيقه في هذا العام فقط ظله.

غياب صديقه كان يؤلم قلبه أكثر من تعب الطريق، وشعر أن حقيبته أثقل مما عليها، لكن في قلبه عزيمة لا تلين لأجل إحياء هذه المناسبة المباركة، وكان ينظر إلى الطريق الذي طالما سلكه مع صديقه يتذكر كانا يتبادلان الحديث والقصص، وعند كل محطة كان يتوقف عندها يتذكره الذي كان يشاركه الاستراحة والطعام والماء.

عندما وصل إلى كربلاء، ووقف في حرم الحسيني الشريف، وضع يده على قلبه وهمس ما بين نفسه وتساقطت الدموع من عينيه، لقد وصلت يا صديقي أبا أحمد عند من جمعنا عنده، وأهديت لك بعض خطواتي، وأنا على يقين أن نلتقي مجددا تحت رأيه الإمام الحسين (عليه السلام)، لكن ليس على هذه الأرض، ولكن في مكان لا فراق فيه ولا وداع.

رفع يديه بالدعاء طالبا القبول من الله تعالى، وأن يمنحه شرف شفاعة الحسين في يوم الورود...

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي