هل صحيح أن الحسين للجميع؟!
محمد علي جواد تقي
2024-08-18 05:24
"لينقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة".
مقطع من زيارة الأربعين
الشرائع الإلهية، كونها خطوط عريضة لمنظومة الأحكام والنظم لحياة الانسان، فأنها تتعرض لسيل من التفسيرات والتأويلات على مر التاريخ من قبل الأجيال المتخللة فترات مختلفة من الزمن، كلٌ حسب ظروفه الاجتماعية، وقدرات استيعابه الذهنية، وهو ما سبق لمعالجته، القرآن الكريم عندما حسم الموضوع من البداية بأن {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، فتم حصر التأويل في أشخاص حدد هويتهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، لئلا يلتبس على المسلمين أمر دينهم، وأراها خدمة وهبة عظيمة من الله –تعالى- لهذه الأمة.
و يدور في خلد البعض إن أموراً أخرى في الدين هي الأخرى قابلة للتأويل وفق متغيرات الزمن، ومنها؛ قضية الامام الحسين ونهضته الإصلاحية، على أنها امتداد لرسالة جدّه المصطفى، {رحمة للعالمين}، وأنه يسع جميع الناس في العالم على مر التاريخ، وقبل ان نبدي رأينا بالموضوع، لزاماً علينا مراجعة الإعلان الثوري –إن صح التعبير- للإمام الحسين قبل وقوع ملحمة كربلاء بأن الغاية من وقوفه بوجه الطاغية يزيد، "الإصلاح في أمة جدي"، أي؛ نشر الوعي بين افراد الأمة الإسلامية.
أما اذا قبلنا بأن يكون الإمام الحسين وتضحياته العظيمة أرض مفتوحة يقف عليها الجميع بما يحملون من أفكار وثقافات واذواق وطباع، فهذا مجافٍ لحقيقة النهضة الحسينية، ولآثارها النفسية والاجتماعية منذ أربعة عشر قرناً من الزمن، فقبل ان يقاتل الامام الحسين، جيش عمر بن سعد، قاتل الجهل والتضليل والانحراف بين افراد الأمة، وهي حالات مرضية كانت تشكو منها الامة الإسلامية بشكل خاص، وكانت مهمة الإمام الحسين موجهة لهم، وليس لسائر الأمم الأخرى.
بلى؛ ما ضحى من أجله الامام الحسين، قيم سماوية عليا مثل؛ الحرية، والكرامة، وهي قيم إنسانية جاذبة لكل ضحايا الظلم والاضطهاد والاستعباد في العالم، وهو ما يدعو الظامئين من أهل العالم للتوجه الى الواحة الحسينية والاغتراف من هذا المعين الرباني، للتعرف على المعاني الحقيقية للحرية التي سطرها الامام وأهل بيته واصحابه في تلك الملحمة، بيد إن من يأتي من القارة الأميركية او الافريقية او الآسيوية ليواكب الزائرين المشاة الى كربلاء خلال أيام الأربعين، من الصعب عليه تطبيق مفهوم الحرية "الحسينية" على ملفات الاضطهاد ومصادرة الحريات في بلاده والانتصار بها على دكتاتوريات الإعلام والسياسة والمخابرات، بينما نلاحظ الشاب الايراني او العراقي -مثلاً- بإمكانه أن يتمثّل أحد اصحاب الامام الحسين في واقعة الطف، و يهزّ عروش حكام من وزن صدام في العراق، والشاه في ايران، وبكل عنف وقوة، ويتسبب بالإطاحة بهم وبنظامهم رغم قدراتهم الهائلة.
وعليه؛ نحن أمام نمطين لمهمة رسالية –سماوية؛ الأول: رسالة نبوية ترتكز على الإرشاد والتذكير وإثارة دفائن العقول للتحفيز نحو الاختيار الصحيح، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، والثانية: رسالة حسينية –إصلاحية تستوجب اتخاذ القرار الحاسم بين الحق والباطل، كما فعل بالضبط؛ الحر الرياحي، بينما فشل الآلاف من اهل الكوفة آنذاك، فالناس في كل مكان و زمان، ومنذ بزوغ فجر الإسلام، والى يوم القيامة، أمامهم فرصة الهداية الى حقائق الدين والحياة والوجود من نافذة القرآن الكريم، وقد شهدت بلاد عديدة في العالم قصص نجاح عديد لتجارب الاستبصار والتحول الى الدين الإسلام، لاسيما في صفوف العلماء والاكاديميين.
أما فجر الإصلاح الحسيني فانه يستشعره من يعاني ظلم وطغيان واضطهاد الحكام المتسربلين رداء الإسلام، أو من فرضوا انفسهم عنوة على المسلمين بدعوى "الأفكار التنويرية"، و"التجديد"، ونبذ كل ما يعدوه من "الرجعية" و"التخلف".
في ظل الرسالة المحمدية، يتعرف الناس في مختلف بقاع العالم على قيم الحرية، والأخلاق، والعدل، والمساواة، والتقوى، فيؤمنون بها، وفي ظل الرسالة الحسينية يتعرف المسلمون على الطريقة التي تجعل المصلي والصائم والحاج، والمؤمن بالقيم الأخلاقية على الآلية التي يطبق فيها كل هذه القيم على حياته العملية وسلوكه الشخصي، حتى يكون جاهزاً في اللحظة الحاسمة للاختيار بين الحاكم الدجّال والمنافق، وبين العالم المصلح، او على الأقل أن يتخذ موقف الرفض القاطع لذلك الحاكم ولجبهة الباطل بشكل عام، كما فعل الابطال من شباب العراق في ستينات وسبعينات القرن الماضي عندما استبسلوا في قول كلمة الحق أمام سلطان جائر، مسترخصين دمائهم وشبابهم ومستقبلهم للمضي في الطريق الذي شقّه الإمام الحسين واصحابه في كربلاء.
وأجدني ملزماً بالتذكير بأن أولئك الابطال انطلقوا في هذه المواجهة الفاصلة مع أنفسهم وذواتهم أولاً؛ ثم توجهوا الى جيرانهم وأصدقائهم وأبناء مدينتهم لنشر قيم الدين والأخلاق، والتذكير بخطورة الانحراف وتمييع أحكام الدين، قبل ان يخوضوا المواجهة المكشوفة مع نظام حزب البعث، وينالوا إحدى الحُسنين.