زيارة الاربعين تحد كبير وبيعة متجددة
شبكة النبأ
2024-08-15 04:52
بقلم: البروفسور الدكتور موفق عبدالعزيز الحسناوي
ينطلق ملايين المسلمين في شتى انحاء العالم في مثل هذه الايام من كل عام في مسيرات راجلة ضخمة قل ان يشهد العالم مثلها، متجهين صوب مدينة كربلاء المقدسة في زيارة الاربعين حيث مرقد رمز الاحرار وابا الثوار الامام الحسين بن علي بن ابي طالب عليهما السلام، في لقاء روحي كبير ومتجدد ومتعاظم عاما بعد عام تسمو فيه النفوس وتترفع عن ملذات الحياة، لتلتقي التقاءا نادرا مايحدث مثله مع روح من وهب نفسه واهله واصحابه فداء للمبادئ والقيم السماوية التي جاء بها الاسلام العظيم على يد جده وحاضنه الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك هو الامام الحسين بن علي بن ابي طالب عليهما السلام.
لقد اصبحت زيارة الاربعين صورة متكررة ومتعاظمة في كل عام ومشهدا كبيرا يتلألأ نورها وتكون حبلا ممتدا بين الارض والسماء، وضوءا وهاجا ينير طريق الكرامة والحرية لكل النادين بها والساعين اليها في العالم اجمع في كل زمان ومكان، فهذه الجموع الحاشدة والاصوات الهادرة الممتزجة بحب الامام الحسين عليه السلام تؤكد للعالم اجمع بأنها تطلق اكبر صرخة مدوية في التاريخ اطلقها ابو الاحرار واستمرت تتعالى وتتعاظم بعده ضد الظلم والطغيان والفسوق والانحراف عن المبادئ وما اكثرها في هذه الايام، كما انها تقول لكل من يرى او يسمع بان هذه الجموع المليونية توالي وتتضامن وتؤيد النهضة الحسينية الخالدة، وانها تعتز بها وتستلهم منها اسمى المعاني واعظم الدلالات الروحية التي امتزجت فيها محبة الامام الحسين عليه السلام مع نضج نهضته وضرورتها ليعيد الدين الاسلامي الى طريقه المستقيم الذي خطه الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودافع عنها بأموال وسيوف اصحابه الكرام وفي مقدمتهم وعلى رأسهم ابا الحسين امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام.
لقد شكلت ثورة الامام الحسين عليه السلام ضد الطغيان، وقوله اكبر كلمة لا قيلت في التاريخ للظالمين والجبابرة، وماتبعه من سبي اهله وانصاره، رمزا كبيرا وهوية واضحة المعالم يستطيع الانسان من خلالها تحديد الطريق المستقيم الذي يسير عليه جميع محبي وموالي اهل بيت النبوة.
وتأتي زيارة الاربعين حيث يتوجه ملايين المسلمين الى كربلاء المقدسة ليعانقوا بشوق كبير مرقد الامام الحسين عليه السلام واهل بيته واصحابه الكرام مناسبة كبيرة لها دور واضح في ترسيخ تعاليم الدين الاسلامي الحنيف بمبادئه الحقيقية اضافة الى ديمومة وتواصل فكر اهل بيت النبوة عليهم السلام، لكونها تشكل رمزا حيا ودلالة كبيرة على الثبات على المعتقدات والمبادئ وتجديد المطالبة بالحق ونصرته.
لقد تعرضت زيارة الاربعين المباركة على مر العصور الى الكثير من التشويه والتزييف والمحاربة من قبل معظم الطغاة والجبابرة سواء كانوا حكاما او كتابا او شعراء مأجورين، لان ثورة الامام الحسين عليه السلام كانت ومازالت وستبقى اكبر صرخة واعظم انتفاضة حدثت لحد الان في وجه كل ظالم ومتكبر وفاسق، لأنها جاءت بالأساس من اجل محاربة هؤلاء وامثالهم في كل العصور، ومن ثم جاءت زيارة الاربعين في كل عام بما تحمله من معاني ودلالات عظيمة لتشكل نصرة مليونية كبيرة وضحمة وبيعة دائمة ومتجددة للخط الذي نهجه الامام الحسين عليه السلام واهل بيت النبوة وتحديا كبيرا وشامخا لكل من عادى نهج الحسين في الماضي والحاضر، وسيبقى كذلك بعون الله في المستقبل من قبل جموع محبي اهل بيت رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الثورة وللمبادئ التي ثار واستشهد من اجلها ابو عبدالله الحسين عليه السلام، لذلك اصبحت هذه الزيارة المليونية تشكل ثورة حقيقية وانتصارا وتحديا كبيرا تتجدد وتتعاظم عاما بعد عام بتأييد ورعاية من الله سبحانه وتعالى لها.
ان جميع الشعوب في مختلف بقاع الدنيا تحتفل بعظمائها وابطالها وروادها الذي قدموا خدمات جليلة واسهامات بطولية ونافعة وخاصة من بذل نفسه وجاهد حتى قتل او استشهد من اجل غاية نبيلة وهدف سامي وكبير يعود بالخير والنفع على شعبه ومجتمعه، وذلك احتراما لهم وتجديد ذكراهم واستلهام المعاني والعبر من سيرتهم وانجازاتهم ولتعريف الاجيال الحاضرة والمستقبلية بهم وبيان دورهم الكبير في خدمة هذه الشعوب.
ولو نظرنا بصورة موضوعية وعادلة ومنصفة للأمور بعيدا عن التعصب والافكار المضادة المسبقة لوجدنا بأن نهضة الامام الحسين عليه السلام وثورته الكبرى قد شكلت منعطفا حاسما في مسيرة الدعوة الاسلامية الحقيقية التي جاء بها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلولا الحسين ونهضته لما بقي الاسلام وتجدد الايمان في النفوس، ولاستمرت عملية تشويه وتحريف الدين الاسلامي تستمر وتتعاظم دون ان تجد من يستلهم مبادئ النهضة الكبرى للامام الحسين عليه السلام ويتصدى لهذا التحريف والتشويه، وممكن ان نصل الى يوم لاسامح الله لايبقى من الاسلام الحقيقي الذي جاء به الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الا اسمه فقط ويكون دينا خاويا من الحق والفضيلة والايمان.
لقد نهض الامام الحسين عليه السلام نهضته الكبرى لنيل اسمى الاهداف وانبل الغايات بصورة لم يناظره بها احد على مر العصور حيث ضحى بنفسه واهله وماله، في سبيل احياء الدين الاسلامي الحنيف وبيان طغيان وتجبر وفسوق المنافقين والحكام الفاسقين، واختار الشهادة التي تسمو بها النفوس على الدنيا الفانية قصيرة الامد والآمال، وكانت وفاته هي وفاة الكبرياء والعز والكرامة بدلا من حياة الذل والمهانة واستشهد استشهاد الكرام والعظماء في سوح المعارك الكبرى بدلا من الموت على فراش المهانة، واظهر من الشجاعة وعزة النفس والصبر عند نزول البلاء والثبات على المبادئ العظيمة والقيم الكبرى التي آمن بها وتربى عليها بصورة بهرت عقول الاعداء قبل الموالين واكسبته حبا يتعاظم عاما بعد آخر في نفوس الملايين بحيث ان الناظر المنصف لهذا الحب الكبير والتعلق الذي لايوصف بالحسين ونهجه ومبادئه الكبرى، يبقى محتارا ومندهشا من هذه الظاهرة العظيمة والتظاهرة الكبرى التي يشترك بها الملايين من مشارق الارض ومغاربها نحو مرقد سيد شباب اهل الجنة وابو الاحرار في مدينة كربلاء المقدسة، احتفاءا به وتعظيما لذكراه التي تبكي فيها الدموع وتتنوع اساليب التعبير عن هذا الحب وتتطور عاما بعد عام.
وعند استذكارنا لذكرى زيارة الاربعين في كل عام فإننا نستذكر ذكرى رجوع موكب السبايا من عيال الامام الحسين عليه السلام من الشام الى المدينة المنورة، وعند وصول موكب السبايا الى مفترق طريق احدهما يؤدي الى العراق والاخر الى الحجاز حيث طلب السبايا من دليلهم المرور على طريق كربلاء حيث قبر الامام الحسين عليه السلام وشهداء واقعة الطف الاطهار، ووصلوا في اليوم العشرين من شهر صفر أي بعد مرور اربعين يوما الى كربلاء حيث قاموا بزيارة قبر عميدهم الامام الحسين عليه السلام وقبور اهل بيته واصحابه المؤمنين الكرام. ومنذ ذلك الحين بدأ هذا التواصل الروحي الكبير بين المؤمنين وقبر الامام الحسين عليه السلام في كربلاء يتعاظم ويسمو الى رحاب الايمان بالمعتقد كل عام.
فقد قال الامام جعفر الصادق عليه السلام (( وكل الله بقبر الحسين اربعة آلاف ملكا شعثا غبرا يبكونه الى يوم القيامة فمن زاره عارفا بحقه شيعوه حتى يبلغ مأمنه وان مرض عادوه غدوة وعشيا واذا مات شهدوا جنازته واستغفروا له الى يوم القيامة )).
وقال الامام محمد الباقر عليه السلام (( مروا شيعتنا بزيارة الحسين فإن زيارته تدفع الهدم والحرق والغرق وأكل السبع وزيارة مفترضة على من أقر له بالامامة من الله )).
وقال الامام موسى الكاظم عليه السلام (( من زار قبر الحسين عارفا بحقه غفر الله له ماتقدم من ذنبه وماتأخر )).
واستجابة لطلب الائمة الاطهار عليهم السلام وتضامنا وتعاطفا مع السبايا من عيال الامام الحسين عليه السلام ورغبة في الاجر والثواب ورضاء الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقوم المسلمون ومحبو أهل بيت النبوة بإحياء ذكرى زيارة الاربعين من خلال زيارة مرقد الامام الحسين عليه السلام بعد مرور اربعين يوما على استشهاده مشيا على الاقدام من مختلف المناطق البعيدة مئات الكيلومترات عن المرقد الشريف، حيث يتجه الناس من مختلف شرائح المجتمعات من الكبار والشباب والنساء والاطفال بغض النظر عن مناصبهم ومواقعهم وشهاداتهم وثقافاتهم وامكانياتهم المادية متخلين عن سياراتهم ووسائل النقل الاخرى قاطعين المسافات البعيدة ليصلوا الى كربلاء المقدسة ويعانقوا المرقد المقدس لسيد الشهداء وهم محملين بالإصرار والعزيمة والتحدي لكل الجبابرة والطغاة والمفسدين في الأرض، ولكي يرددوا كلمة الحسين الخالدة التي اهتزت لها عروش الظالمين والمفسدين وهي لا للظلم لا للتكبر لا للطغيان لا للفسوق، لكي تبقى هذه الصرخة الكبرى مدوية وتدق جرس الانذار وناقوس الخطر وتزعزع الراحة والطمأنينة من نفس كل ظالم ومتكبر!
اينما كان، ولتكون عبارة عن بعدية ابدية كبرى تتجدد كل عام وتنطلق هذه البيعة من مرقد الامام الحسين عليه السلام لهذا النهج والصراط القويم الذي رسمه لنا ابو الاحرار ورمز الثائرين ومزعزع عروش الفاسقين الامام الحسين عليه السلام.
لقد شكلت زيارة الاربعين مهرجانا كبيرا يشترك فيه الملايين لايوجد أي مهرجان آخر في العالم بمستوى ضخامته وايمان الناس به واندفاعهم الطوعي للعمل فيه وخدمة الزائرين. حيث يرى الناظر كتلا بشرية ضخمة راجلة وهي تحمل الرايات الملونة التي تدل على هوية الزائرين وهي تردد بصوت واحد لبيك ياحسين وتردد الاهازيج والقصائد الحسينية الخاصة بمناسبة زيارة الاربعين.
لقد اكتسبت زيارة الاربعين اهمية كبيرة في الثقافة الحسينية ومتعلقاتها وكذلك في البناء العقائدي للإنسان المسلم والمؤمن، وانطلاقا من هذا وتجسيدا له وايمانا بالخالق العظيم ومبادئ الاسلام الحقيقي الحنيف، يندفع ملايين المسلمين كل عام في حشود بشرية مؤمنة هائلة قل نظيرها لأداء شعائر هذه الزيارة سيرا على الاقدام، والتي كانت ومازالت تشكل تحديا كبيرا للظلم والطغيان وبيعة متجددة ونصرة دائمة لمبادئ الامام الحسين عليه السلام وعهدا له على السير على خط الايمان والكرامة والتضحية والفداء الذي رسمه اثناء ثورته الانسانية الرسالية الكبرى.
لقد حاول مبغضو آل بيت النبوة عليهم السلام ان يصوروا ان هذه المسيرات المليونية الراجلة التي تقطع مئات الكيلومترات وهي تهفو بقلوبها الى كربلاء المقدسة وتنادي ياحسين يامظلوم، حاولوا ان يصوروا بان من يسير مشيا على الاقدام هم الطبقة غير الواعية وغير المثقفة من المجتمع. وبذلك حاولوا ان يتوهموا خطأ وجود نوع من الجدار النفسي العازل بين شرائح المجتمع ومدى ايمانها وتفاعلها مع قضية الحسين عليه السلام وضرورة اقامة الشعائر الحسينية المباركة واعلاء شأنها وفي مقدمتها زيارة الاربعين.
لقد اثبت ملايين المسلمين بمختلف فئاتهم وطوائفهم وثقافاتهم ومستوياتهم العلمية والثقافية والمهنية انهم يتوجهون سيرا على الاقدام الى كربلاء المقدسة في كل عام ليكونوا ردا كبيرا وتحديا رائعا لكل الاصوات المأجورة التي تدعي عدم احقية سيد شباب اهل الجنة وسبط الرسول الكريم بالخروج على الطاغية الفاسق يزيد بن معاوية واعوانه المفسدين في الارض ومن لف لفهم من المنافقين والمأجورين، كون يزيد كان خليفة المسلمين انذاك، ولتطلق صرخة مدوية لاتهدأ ابدأ بل تتوهج وتزداد علوا حتى يوم القيامة يا لثارات الحسين يتردد صداها هادرا قويا بين الارض والسماء وتبين التفاعل الصميمي والارتباط الروحي بينهم وبين الحسين عليه السلام.
وبمناسبة زيارة الاربعين الخالدة نتمنى ان تكون هذه الزيارة صرخة مدوية في وجه الباطل في كل زمان ومكان، وان تكون مناسبة لتوحيد المسلمين على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم وبلدانهم اذا ارادوا التمسك براية الحق والهداية والكبرياء والتضحية التي رفع لواءها الامام الحسين عليه السلام الذي كان ومازال وسيبقى بعون الله منارا ونبراسا لنا نستذكره دائما ونستلهم المعاني العظيمة التي هدفت لها ثورته الملحمية الكبرى.
لتكن ذكرى زيارة الاربعين مناسبة للوقوف والتأمل ومحاسبة النفس المقصرة والرجوع الى طريق الهداية لنيل رضاء الله سبحانه وتعالى والابتعاد عن معاصيه ونواهيه وتمسكنا بالأخلاق الفاضلة ومبادئ الاسلام العظيم التي ثار واستشهد الامام الحسين عليه السلام من اجل بقاؤها واعلاء شأنها وتمنحنا المزيد من الكبرياء والكرامة وروح التحدي بوجه اعداءنا الحقيقيين الذين يريدون اذلالنا والقضاء على مبادئنا واطفاء وهج النور الذي يشع في قلوبنا حبا للإمام الحسين ونهجه القويم. وعلينا ان نستذكر دائما بان الاسلام اذا كان محمدي الوجود وعلوي الانتشار فهو حسيني البقاء ومهدوي الانبعاث.
اللهم بحق سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام ارحمنا وتب علينا وثبت اقدامنا على طريقك المستقيم وتقبل منا انك سميع مجيب. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واصحابه الغر الميامين.