مسيرة الصبر والنصر
أوس ستار الغانمي
2024-08-04 05:29
في أجواء مشبعة بالحزن والألم، دخلت سبايا أهل البيت (عليهم السلام) إلى مدينة الكوفة في الثاني عشر من محرم، بعد المعركة الدامية في كربلاء. كانت هذه الرحلة الأليمة تحمل آثار واحدة من أعظم تضاريس الظلم والتحدي في تاريخ الإسلام. فبعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه على أرض كربلاء، انتهى الفصل الدموي من المعركة، ليبدأ فصل جديد من المعاناة والصبر الذي تتجلى فيه أسمى معاني التضحية والفداء.
خلفية المعركة
عندما وقعت معركة كربلاء في العاشر من محرم، كانت الساحة شاهدة على ملحمة من العزة والإباء، حيث واجه الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه جيش يزيد بن معاوية بكل ما أوتوا من قوة وبسالة. لكن الفارق العددي والسلاح كان واضحًا، فاستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، مخلفين وراءهم أسرى من النساء والأطفال، منهم السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) والسيدة رقية (عليها السلام)، وأيضًا الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي كان مريضًا ولم يستطع المشاركة في القتال.
الرحلة إلى الكوفة
بدأت الرحلة من كربلاء إلى الكوفة، وهي رحلة تملؤها الصعاب والمعاناة. كان المشهد مؤلمًا حيث كانت النساء والأطفال يسارون على ظهور الجمال، وملامح الحزن والانكسار بادية على وجوههم. كانت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) تتحمل عبء القافلة، فهي التي تملك القوة والإيمان لتكون عمود الصبر والزهد بين الأسرى.
كانت قافلة الأسرى تتحرك ببطء، تسير تحت حرارة الشمس الحارقة. كانت الآلام الجسدية تلتقي بالنفسيّة، تروي قصة مأساة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. وكان في كل خطوة تزيد ألسن الناس من التكهنات والهمسات حول ما جرى وما سيجري.
الوصول إلى الكوفة
عندما اقتربت القافلة من أسوار الكوفة، بدأت أخبار المجزرة تصل إلى أهل المدينة. تجمع الناس على أعتاب المدينة، بعضهم يشاهد بالشفقة والبعض الآخر بنوع من الفضول أو الشماتة. كان بينهم من ظلوا موالين لأهل البيت (عليهم السلام)، والذين لم يستطيعوا كتمان دموعهم عند رؤية هذه الساحة المشحونة بالحزن.
شقت القافلة طريقها إلى المدينة، وسط نظرات الناس المترقبة والحزينة. كانت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) تمثل رمز القوة والشجاعة، إذ تحملت بنقاء إيمانها مواجهة الموقف الصعب. كانت مهمة السيدة زينب (عليها السلام) الحفاظ على الأيتام وإلهام الأسرى بالصبر والثبات.
المشهد في دار الإمارة
وصلت القافلة إلى دار الإمارة، حيث كان في استقبالهم عبيد الله بن زياد بوجهه المتجهم ونظراته الكريهة. حاول بن زياد بسط سطوته وإذلال الأسرى، لكن السيدة زينب (عليها السلام) وقفت بشموخ أمام طغيانه. توجهت بن زياد إليها بكلمات الإذلال ولكنها ردت عليه بكلمات تفيض بالشجاعة والعزيمة، لتذكره بأن الله هو الحكم بينهما في يوم لا ريب فيه.
وقالت السيدة زينب: "ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ يا ابن مرجانة."
أثر الحادث على الكوفة وأهلها
نتج عن دخول سبايا أهل البيت (عليهم السلام) إلى الكوفة تغييرات جذرية في نفوس الناس وفي الوضع السياسي. أصبح بعض الناس مستشعرين لثقل المسؤولية التي تقع على عاتقهم بعد رؤيتهم ما حل بأهل بيت النبي (عليهم السلام). وبدأ الضمير الإنساني يستيقظ ويشعر البعض بالندم على المشاركة أو السكوت على الظلم.
بدأ الناس يتفحصون الأخبار ويستفسرون عن حقيقة ما جرى في كربلاء، وتشكلت حركة جديدة من الوعي والنقد تجاه السلطة الأموية. ومع مرور الوقت، أصبحت القصة تُروى على ألسنة الناس وتصبح جزءاً لا يتجزأ من تواريخهم ومفاهيمهم الدينية والأخلاقية.
ليس دخول سبايا أهل البيت (عليهم السلام) إلى الكوفة مجرد حدث تاريخي، بل هو لوحة تعكس أعمق معاني التضحية والإباء، حيث تحولت هذه المأساة إلى مصدر إلهام وقوة للعديد من الأجيال اللاحقة. علمت السيدة زينب (عليها السلام) الجميع أن الصبر والثبات يمكنهما دائماً الانتصار على الظلم والطغيان. إن هذه القصة لا تزال تُلهِم القلوب والعقول، مُعلمِةً الجميع أن النصر ليس دائمًا بالقتال، بل بالصبر والشجاعة والإيمان.