العبور إلى اللغة الأخرى
في مجموعة (الحسين لغة ثانية) لجواد جميل
عادل الصويري
2015-10-22 09:53
لم تزلْ
بينَ جرح الحسينِ وبين قصائدنا مُدنٌ قانية
ولكي نقرأ الجرحَ لابد من لغة ثانية
بهذا المقطع الذي ختم به الشاعر جواد جميل مجموعته الشعرية (الحسين لغة ثانية) يقدم خلاصة مشروعه في الإنتقال بالقضية الحسينية -شعراً- إلى آفاق جديدة، فبين القصائد التي كُتبت وبين جرح الحسين ثيمة مستقبلية لايتم اكتشافها إلا بلغة جديدة مغايرة تؤسس لمفاهيم حداثية.
قسم الشاعر مجموعته إلى رؤى ومشاهد وأبعاد ونبوءات مع بداية شعرية هائلة:
مازلتُ أحملُ أكفاناً ممزقةً
وحفنةً من رمالٍ خَبّأتْ وجعي
أمشي وخلفيَ تمشي ألفُ عاصفةٍ
كأنها وُلِدَتْ في كربلاءَ معي
ودعم الشاعر أبوابه الأربعة بإيقاعات انتبه إلى ضرورة تنويعها لتتماهى مع اللغة الجديدة التي ينشدها مدركاً أهمية هذا التنويع في عدم تسلل الرتابة لقارئه مع جمل تنأى بنفسها عن الوقوع في الخطابية والتقريرية فجاءت نصوصه على بحور البسيط / الخفيف / المتقارب / المتدارك / الرجز / الهزج / السريع / المجتث / أحذ الكامل / مجزوء الكامل / مجزوء الخفيف، ودائماً يكون الهدف من التنقل بين الإيقاعات (تمويج الإيقاع واستجابة لنقلات نفسية يمليها مناخ القصيدة ومايطرأ عليها من تحولات)1.
ولايمكن الجزم بفرادة المنجز الشعري من دون أن يتأطر برؤيا الشاعر التي يسكبها على نصه بدراية حتى يضمن انصهاراً كلياً لذاته مع رؤيته وعرقاً يحيا في النص الذي ينتجه، حيث نجد جواد جميل في الباب الأول لمجموعته (الرؤى) قدم نصوصاً هي أقرب لبوح المتصوّف افترشت مساحات جمالية وذهنية واسعة لانملك إلا الغوص في مضامينها والتجول بين أزاهير مراياها:
لم نكن نسمع ماقالَ،
ولكنا رأينا قمراً غادرَ كفيه ونورسْ
ورأينا ظله الأخضرَ منقوشاً على الرملِ المدمّى
ورأينا بين عينيه صلاةً تتيبّسْ
أو لنقرأ:
هكذا تخشع الأزمنة،
فوقَ أقدامه وتؤدي الفصولُ طقوسَ البكاءْ
صمته مئذنة
كلما فرشت ظلها
هوّمت فيه عصفورةٌ وغفت سَوسنة
نلاحظ أن التصوير الشعري هو الأعلى حضوراً في هذه المجموعة الشاعرة والحافلة بالإستعارات والإنزياحات التي تغري باستقصائها والكشف عنها، والشاعر حذر جداً من التطرف في لغته لانها قد تبعده عن المتلقي خصوصاً في قضية حافظت على علاقتها بالآخر الذي يشكل نعها صيرورةً للتواصل، وليفند الآراء القائلة بعدم وجود نقطة يلتقي فيها شعر الشطرين بالحداثة، (لقد انتهى زمن ظن فيه الشاعر والناقد العربي ان الحداثة هي توشية النص بأسماء ومنجزات تكنلوجية كما أن الزمن الذي ظن فيه ان الحداثة هي بعثرة العمود الخليلي وتبني إيقاع يقوم على توزيع التفعيلات هو زمن قد انتهى أيضاً مع بواكير الشعر العربي في الخمسينات)2.
لقد سعى الشاعر جواد جميل إلى مجاوزة السائد باعتماده صياغات وتراكيب تشي بمخيال خصب مبتكر يضعه على الجادة الحقيقية للشعر:
ينحني الرملُ تلبسُ الأرضُ وجهاً
من رمادٍ، وجرحها عريانُ
يغزلُ الملحُ في يديها المسافاتِ..
ويغفو في قلبها النسيانُ
ليظلَّ الحسينُ صمتُ حكاياهُ..
مخاضٌ وصوتهُ طوفانُ
وفي سعي آخر يحاول الشاعر تحسيد صراع الذات من خلال بعض المقاطع التي استعار فيها أقنعة لشخصيات شاركت في قتل الحسين وأهل بيته عليهم السلام لإبراز المسكوت عنه في هذه الملحمة كما في نموذج مالك بن النسر الذي شتم الإمام وطعنه وهو يحتضر وظل حتى آخر عمره يحس أن بين أذنيه مايشبه الأفاعي:
في وجهه جنازةٌ
وخلفَ كلِّ بقعةٍ من جلدهِ عواءْ
يصرخُ: يامواسمَ الموتِ الذي يحصدني
ياريح يا أشلاء
هذا الذي تهربُ منه خطوتي قلبي أم الصحراء؟
وكلما حاول أن يدنوَ للفراتِ أو يمسَّ منه قطرةً
يسقطُ وجهُ الماء
بذكاء عال، اختار الشاعر شكل التفعيلة للمقطع السابق ليتيح لقارئه فسحة أكبر للتأمل في مشهد الصراع الذي عاشه هذا الرجل بعد ارتكابه جريمته، وذات الموضوع ينطبق على صراعٍ مماثل تجسد في شخصية حرملة بن كاهل الذي رمى رضيع الحسين بسهم غادر ليبقى بعد ذلك هارباً في أزقة الكوفة خائفاً من عيون الأطفال:
ذاكرةٌ مشدودةٌ بخيطِ عنكبوتْ
ونظرةٌ كالقبرِ في فراغها ينطفئُ الياقوتْ
هذا أنا
مازلتُ أنحتُ المنى من خشبِ التابوتْ
ومنذ أن قتلتهُ
غرقتُ في بحيرةٍ من دمه المرِّ
فلا أقدرُ أن أحيا ولا أقدرُ أن أموتْ
إن المساحة الفسيحة للتأمل والغوص الذين تتيحهما نصوص التفعيلة لاتعني أن يتخلى الشاعر عن عموده اللذيذ في تجسيده لصراع الشخصيات الرمادية حيث استثمر (الخفيف) بأبهى مايكون ليجسد حالة عمر بن سعد الذي ذهبت آماله في إمارة الري أدراج الرياح فظل يرى الورد بقعاً من الدمِ المتخثر كما ترجم له الشاعر:
جِلْدُ أفعى وجهي وخلفَ عيوني
ذئبةٌ في أواخرِ الليلِ تعوي
وخيولٌ مجنونةٌ تعبرُ الشاطئَ
في لحظةٍ وتركضُ نحوي
طحنتني أشداقُها خطفت لوني
تَهَرَّبْتُ من صداها المُدَوّي
حيثُ كانَ الحسينُ يضحكُ من خوفي
ويعلو فأنحني ثم أهوي
ولكي يحيط بالمشهد من كل الجوانب التي حفلت بها تلك الظهيرة الملحمة يغير الشاعر بوصلة أبعاده باتجاه الجانب المضيء حيث الأصحاب الذين تفانوا عن إمامهم ليكتشفوا بصمة خلودهم:
واحةٌ من جراحنا كانت البدءَ
اكتشفنا بها المدى المجهولا
وطوينا وجهَ الصحارى حملنا
لهبَ الأمسِ والزمانَ القتيلا
كيف لاينحني النهارُ وخلف الشمسِ
عصفورةٌ تُفَدّي الخيولا
والنجومُ ارتعاشةٌ في مآقينا
وأحداقُنا المرايا الأولى
ومن اللافت للنظر أن الشاعر لم يشتغل على العنوانات بصفتها عتبة نصية يفترض أن تكون مدخلاً للرؤية فجاءت العنوانات بشكل تسلسلي للعنوان الرئيس لهذا الباب او ذاك من ابواب المجموعة مثل (الرؤية الأولى / المشهد السادس / النبوءة التاسعة) وهو مانلوم الشاعر عليه لما للعنوان من أهمية ينبغي أن لا يغفل عنها المشتغلون بالحداثة واللغة الجديدة.
لقد قدم الشاعر جواد جميل في مجموعته اقتراحات للغة التي يراها مناسبة لتصدير قضية الحسين بروح جديدة وكأنه أراد لها أن تكون كاتبة ومكتوبة في ذات الوقت.