الحسين صانع التواريخ ومؤسس فقه الاعتراض والاصلاح
ابراهيم العبادي
2023-07-31 06:36
خمسة عشر قرنا مرت على حادثة الطف، ولا يزال الزمن الاسلامي متوقفا عند لحظة الاستشهاد المهيب لسبط الرسول الاعظم وأهل بيته وانصاره عام 61 هجرية، ما زالت الذكرى حية شاخصة بتفاصيلها الكبيرة واحداثها المهولة، تأخذ الانفاس وتجرح القلوب وتجلد التاريخ، لقد صنعت كربلاء تاريخها الخاص، بل إنها شيدت تاريخا موازيا وهوية سياسية واجتماعية متفردة لا تأتلف مع فقه الطاعة السلطاني ولا تنسجم مع بنية الاستبداد السلطوي.
صحيح أن الناس ذهبوا فيها مذاهب واتجاهات، لكنهم مضطرون كلما اختلفوا إلى العودة إلى الجذور، إلى لحظة التأسيس الأولى، لحظة الرفض للواقع القائم، لاستبيان المشروعية والاستدلال على حقانية المعارضة، كلما شعرت أمة أن حقوقها تغمط وفيأها يذهب آثره بين الاقوياء، نعم شطرت كربلاء تاريخ الاسلام، وأسست لفقه جديد، فقه الخروج وافتتحت سجلا لفكر الاصلاح والحقوق، ليصبح ثقافة أجيال ظلت تصدح بقداسة مشروع الاصلاح وأولويته كلما انحرفت سلطة عن جادة القانون والمبادئ العامة، تلك المبادئ التي يتحدث عنها كتاب الاسلام في ايات بينات محكمات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). النحل 90، (لكي لايكون دولة بين الاغنياء). (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).
صارت الدعوة إلى الاصلاح قرينة القرون، فما ان يجنح الحكم إلى البغي والعدوان حتى يجد له فئة تذكره بيوم كربلاء بدعوة مشروعة (إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي مـحمد)، وظلت ريح كربلاء تعصف بالطغاة والظالمين، وتمد الضعفاء والمستضعفين بقوة الارادة وتفاؤل النفوس رغم تشاؤم العقول وانسداد الافاق.
كان الإصلاح هدفا لخروج الحسين وصحبه، ولما أجهض هذا الاصلاح بقتل النفوس الرائدة الساعية إلى الاصلاح، انكسر التاريخ انكساره الكبير، وبقيت مبادئ الاصلاح ممتدة على جبين الزمن السياسي تحفر في وعي الاجيال، لا حياة مع الطغيان، ولا نماء من دون عدل ولا دولة بلا حقوق، ولا سلطنة بلا مشروعية، وهكذا تولد منذ تلك الظهيرة الدامية وعي جبار عنيد، يؤسس للامل ويحفر لغد أجمل.
كانت مشكلة المسلمين الكبرى وما تزال في الفقه السياسي، فقه الدولة، فقه الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، ولما لم يتطور هذا الفقه ذاتيا، ذهبت الناس تستعير نماذجها السلطوية من التجارب البشرية الناجحة وراحت تتعلم من الاخرين مباديء الحكم العادل والسلوك السياسي النزيه، غير أن عالم المسلمين ظل حائرا بين نموذجين، نموذجهم التاريخي ذو الجذور الدينية بكل مافيه من صفحات قليلة مشرقة وكثيرة مظلمة، ونموذج الاخرين الداعي إلى الفصل بين مجالي الدين والسياسة، وترك السياسة لأهل الخبرة في علوم الادارة والتخطيط والتفاوض والقيادة، بتفويض من العامة وتوكيل من الجمهور، ولحد الساعة لم يهتد اهل الحل والعقد في بلداننا إلى نموذج للحكم يجمع الناس على اهداف عامة ويحقق لهم ما يرتضون، بل إن الفشل كان قرين العقود الطوال التي مرت، وصار فينا من يدعو إلى المستبد العادل ليجمع طرفي نقيض من فرط الاخفاق المتكرر، والفشل المستدام في بناء دولة العدل والحرية والحقوق والمثل العليا.
ومع كل تجربة تخفق، تستعاد كربلاء مجددا برسالتها السياسية وفكرها الاصلاحي ضد الذين (اتخذوا عباد الله خولا وماله دولا) ويدور التاريخ دورته الأولى بين معارضة وحكومة كل منها يدعي الحقانية والصواب، إلا أن منهج الحق كان لصيق العدل والانصاف والمشاركة والمشورة، فما من حكم اتسم بأقل القليل من هذه المواصفات الا وخرج عن نطاق فقه الخروج والمعارضة إلى فقه المداراة والمناصحة.
وكان ذلك هو التوازن الحق وتوكيدا لمناسبات الحكم والموضوع، فليس الخروج سمة عامة ولا المصانعة والسكوت استثناء نادرا، بيد أن فقه الاحكام السلطانية نسي أو تناسى حقوق الناس واهتم بحقوق الحاكم خضوعا واعتذارا، خشية وقوع الفتن وضياع معاش الناس وحظوظهم من الامن الضروري، حتى تخلقت الناس باخلاق الهارب من كل سلطة، المتفلت من كل قانون المضطجر من كل مقصد من مقاصد الشريعة، فغدت بعض شعوبنا كالبراكين، ما أن تهدأ لها ثورة حتى تعود إلى هيجان، وفي كل مرة يحضر شعار العدل والانصاف ثم يتصاعد إلى (لا حكم الا لله)، فيما أن معاش الناس وأمنهم لا يستقيم الا بضرورة وجود الدولة والدولة، التي نقصدها في قاموس اليوم هي حكومة الحاكم الذي ينوب عن الناس ويحكم بتفويضهم.
لقد علمت كربلاء الناس الموت من أجل العدل والحرية والكرامة والحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف، وبقي على الناس أن يتعلموا فقه المصانعة والمدارة والمقاصد الشرعية والسياسية، فليست الثورة ملاكا عاما، لكل ظرف وزمان ولا القعود معيارا ثابتا لمنع الانزلاق إلى الفوضى، بل الوسطية والاعتدال اللازمين لبناء الأوطان وصيانة حقوق الإنسان.