عزاء المُلوك
إطلالة على دور الملوك والسلاطين في إحياء شعائر سيّد الشهداء (عليه السلام)
الشيخ جاسم الأديب
2023-07-22 06:29
في كل عام ريثما يهلّ هلال شهر محرّم الحرام يشهد العالم برمّته ظاهرة جديرة بالإلتفات إليها والتأمّل في بواعثها ومعطاياتها ألا وهي ظاهرة العزاء الجماهيري الذي يمارسه كثير من الناس على سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته ألا وهو سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار وأنصاره الأبرار الذين استشهدوا في كربلاء يوم عاشوراء.
ففي كل بقعة من بقاع العالم تجد اليوم أنّ هناك زمرة من الناس هبّوا لإحياء العزاء وأخذوا يمارسون طقوسهم المختلفة بكل شوق وحفاوة وكأنّ الواقعة اتفقت للتو حتى قال الشاعر في ذلك:
كذب الموت فالحسين مُخلّد-----كلّما أخلق الزمان تجدّد
ولاغرابة في ذلك، فإنّ هذا العزاء أراد له الله ورسوله وأهل البيت (عليهم السلام)، ناهيك عن الحرارة التي جعلها الله عزّ وجلّ للإمام الحسين (عليه السلام) في قلوب المؤمنين، فهي لا تطفأ أبداً.
ومن الذين كان لهم دور بارز في إحياء عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام) هم بعض الملوك والسلاطين الذين كانوا يحثون على إقامة العزاء بل ويشاركون فيه مما حفّز الآخرون على إقامة العزاء والتفاعل مع مراسمه عبر الطقوس المختلفة.
وحيث إنّ هذا الموضوع من المواضيع التي علقة بسيّد الشهداء (عليه السلام) ولم يتناوله أحد على نحو الاستقلال بكل أشير إليه على نحو الاستطراد والاختصار وجدت من الجدير أن أكتب بحثاً مستقلاً استعرض فيه تفاصيله راجياً من الله أن أكون قد يكون هذا الجهد البسيط مقبولاً لصاحب العزاء وأن أنال به نظرة من سيدي ومولاي أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) لأنال بها رضا الرب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى بقلب سليم.
تمهيد
قبل الدخول في أصل البحث حول عزاء الملوك والسلاطين ودور بعض الحكومات في رواج الشعائر والطقوس الحسينية لا بأس أن نمهّد ببعض المقدمات الضروريّة ومنها:
مفهوم العزاء
العزاء: هو الصبر، يقال: عزّى يُعزّي أي صبر على مانابه، والتعزية: تفعلة من العزاء.
وعزيته تعزية: قلت له: أحسن الله عزاك: أي رزقك الله الصبر الحسن.
قال الفراهيدي: وعزّى الرجل يعزّي عزاء ممدود، وإنه لعزيّ صبور، والعزاء هو الصبر نفسه عن كل ما فقدت ورزئت (1).
وفي مجمع البحرين: العزاء ممدود: الصبر يقال: عزى يعزي من باب تعب: صبر على ما نابه (2).
دفع توّهم
هناك تهمة روّج لها البعض وهي أن العزاء الشيعي موروث من بعض الحكومات والسلطات أمثال حكومة الصفويين، والبويهيين، والقاجاريين والحال أن إقامة العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام) أُقيم عليه قبل ولادته حيث كان الأنبياء يبكونه وينوحون عليه في مواطن عديدة إلى أن بُعث خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) وعضد مسيرة الأنبياء في النياحة والبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) وركز على البكاء عليه في مواطن عديدة أشار إليها العلامة الأميني (رحمه الله) في كتابه (سيرتنا وسنتنا).
لماذا هذا البحث؟
لا يخفى عليك أننا في هذا البحث لا نريد الدفاع عن الملوك أو نثبت قداستهم ولكن نريد أن نكشف للعالم الأكبر أن الارتباط بسيد الشهداء (عليه السلام) يضفي على الإنسان هالة من العلو والسمو، وبالعكس تماما فإن الحرب مع سيد الشهداء (عليه السلام) يوجب الشقاء في الدارين.
أضف إلى ذلك ربما يتصوّر البعض أننا إذ نستعرض مشاركة بعض الملوك والسلاطين في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) نريد بذلك أن نضفي على المراسم صبغة العلو، ولمثل هؤلاء نقول: إنّ مشاركة الملوك في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) هو الذي ميّزهم عن سائر السلاطين والحكام ممّن لم يحظوا ويتشرّفوا بالمشاركة في عزاء الشهيد (صلوات الله عليه) وإلا فإنّ عظمة وقداسة وشرافة عزاء الإمام الحسين (عليه السلام) لاتحتاج إلى مثل الأمور.
من جانب آخر أن الحكومات والسلطات لما تؤكد على أمر ما ويشارك الملك والسلطات العليا فيه فإن ذلك بلا شك سيكون له تأثيره الواضح على الشارع العام، ولذا فإن بعض الحكومات الشيعية لما سمحت لعامة الناس بممارسة طقوس العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام) وشارك الملوك والسلاطين شخصيا به فقد ساهم ذلك بشكل جلي في توسعة الشعائر ورواجها في مختلف أنحاء العالم.
السبب في إحياء الملوك عزاء سيد الشهداء (عليه السلام)
هناك سؤال حقيق بالتأمل فيه وهو: لماذا كان بعض الملوك يحيي مراسم العزاء للإمام الحسين (عليه السلام)؟
الجواب: هناك عوامل عديدة جعلت بعض الملوك والسلاطين يشاركون في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) ومنها:
1- العقيدة: حيث كان بعض الملوك من الموالين الشيعة أو من سائر الأديان ممّن لا تعصب عقائدي لهم، فكانوا يظهرون البعد العقائدي من خلال مشاركتهم في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) ويبرزون للعالم عقيدتهم به.
يقول (دلاواله) وهو مبشر مسيحي إيطالي كان يعيش في إيران عن عقيدة الشاه عباس: إن الملك عباس كان مسلماً حقيقياً وراسخ المعتقد، ولايمكن أن يتخلى عن دينه ويعتقد بدين المسيح، إلا بنزول معجزة من السماء، وأنا أعلم أنه ثابت ومتعصب لدينه، ويبذل كل جهوده، وكل قواه وما يملك لأجل إعلاء كلمة الإسلام، ولا يتوانى عن ذلك، ولا يُلام على تعصبه، لأنه معتقد بأنه يعمل بوظيفته الدينية الشرعية الملقاة على عاتقه، وأتمنى على ملوكنا أن تكون لهم مثل هذه الشدة والتعصب في تقوية إيمان العيسويين وعقيدتهم، وأتمنى أن يتأسوا ويقتدوا بهذا الرجل (3).
وقال على أصغر في كتابه (تأريخ وجلوه هاي عزاداري امام حسين (عليه السلام) در إيران) ما ترجمته: أعلن الشاه إسماعيل الصفوي التشيع كمذهب رسمي للدولة في إيران علماً أن عزاء الإمام الحسين (عليه السلام) من أشهر معالم الأساسية للتشيع...إلى أن يقول: وكان الملوك الصفويون معتقدين بحفظ ونشر ثقافة عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) اعتقادا قلبيا (4).
وقال الشيخ عبدالعزيز جواهر الكلام في كتابه (آثار الشيعة الإمامية) لدى ترجمته لحياة معز الدولة أحمد بن بويه: وكان متصلباً في التشيّع، أمر الناس بإقامة المأتم للحسين الشهيد (عليه السلام) في العشرة الأولى من محرم، استمرت عليها الشيعة من ذلك الحين (5).
وقيل في عضد الدولة البويهي الذي كان أقوى حاكم بويهي: كان أديبا، مشاركا في فنون العلم، حازما، لبيبا، إلا أنه كان غاليا في التشيع (6).
وقال علي أصغر في كتابه (تأريخ وجلوه هاي عزاداري امام حسين (عليه السلام) در إيران) أي (تأريخ ومعالم عزاء الإمام الحسين (عليه السلام) في إيران في العهد الصفوي) ما ترجمته: وكان الملوك الصفويين معتقدين بحفظ ونشر ثقافة عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) اعتقادا قلبيا، وكان من الضروري أيضا أن ينمو روحية المقاومة قبال هجمات العثمانيين (7).
2- الاغراض السياسية: فإنّ بعض الملوك ولكي يكسبوا الشارع الشيعي وينالوا رضا الناس وينفّسوا عن سخطهم فقد فسحوا لهم كي يقيموا مراسم العزاء، وكمثال على ذلك فإن العباسيين لما استعادوا السلطة من السلاجقة زمن الخليفة الناصر لدين الله حيث فسح المجال لإقامة الشعائر الحسينية علناً بحيث أنهم اتهموه بالتشيّع (8).
وقال الدكتور محمد صادق فريد: في بدايات القرن السادس عشر الميلادي في عهد الصفويين لما حكموا إيران أعلنوا أن التشيع هو المذهب الرسمي لدولة إيران، وقد سخروا مراسم محرم لنشر التشيع في إيران مقابل العثمانيين الذين كانوا من السنّة (9).
3- التعقّل: فإن العديد من الملوك والسلاطين تعقّلوا وأدركوا أن الوقوف إزاء شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) لايجني لهم سوى الذلّ والعار، وأيقنوا أنّ هذه الشعائر لا تمس بسلطتهم أو تزعزع هيمنتهم على البلاد بل إنهم لو سمحوا للناس بممارستها فإنهم سيكسبون رضا الشارع العام، لذا فسح البعض منهم لهذه الشعائر والمراسم، بل وشارك بعضهم فيها ليكسبوا ودّ وميول الجمهور.
فقد ورد أن الخليفة العباسي المنتصر، دعا الناس لزيارة كربلاء كما كانت تقام في الماضي، وذلك في عام (248هـ) بعد موت أبيه (10)، وأمر بإعادة بناء مزار الحسين (عليه السلام) (11)، ومنع التعرض للشيعة بالأذى (12)، وهذا مما لاشك فيه ليس عن اعتقاد منه في ذلك بل لتعقل منه حيث إنه رأى محاربة آبائه لزيارة الإمام (عليه السلام) وما جنوا من ذلك فرفع يده عن التعرض للشيعة.
ملوك حاربوا مراسم الإمام الحسين (عليه السلام)
قبل أن نستعرض الصور التي تحكي مشاركة بعض الملوك والسلاطين في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) لا بأس أن نشير إلى عاقبة العديد من السلاطين والملوك ممّن حاربوا شعائر سيد الشهداء (عليه السلام).
فليس من الخفي أن أول ملك حارب الإمام الحسين (عليه السلام) واستمر على محاربة كل ما يتعلق به هو يزيد بن معاوية، وقد أعلن عن عقيدته التي دفعته إلى ذلك جهاراً، فقال:
لعبت هاشم بالملك فلا-----خبر جاء ولا وحي قد نزل
ولكن لنرى ماذا حدث في قصر يزيد لما أحضر أسارى آل محمد (عليهم السلام):
يقول البلاذري: إنه لما أُتي برأس الحسين بن علي (عليهما السلام) صاح بنات معاوية وعيالهم (13).
وقال: لما أُدخلت العلويات على يزيد صاح نساء آل يزيد وبناتهم وولولن (14).
وروى الطبري، قال: ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدّثوه الحديث، قال: وسمعت هند بنت عبدالله بن عمر بن كريز وكانت تحت يزيد بن معاوية، فتقنعت بثوبها وخرجت، وقالت: يا أمير المؤمنين أ رأس الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قال: نعم فأعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله (15).
وذكر الذهبي، فقال: بكت أُم كلثوم بنت عبدالله بن عامر بن كريز على الحسين وهي يومئذ عند يزيد بن معاوية، فقال يزيد: حق عليها أن تعول على كبير قريش وسيدها (16).
وشاءت إرادة الباري تعالى أن تُعقد مراسم سيد الشهداء (عليه السلام) في قصر يزيد، يقول ابن سعد: وأمر يزيد نساء آل أبي سفيان، فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيام (17).
وقال أبو مخنف: وأمر يزيد نساء آل بني سفيان فأقمن المآتم على الحسين ثلاثة أيام، فما بقيت منهن إمرأة إلا تلقتنا تبكي وتنتحب ونُحن على الحسين ثلاثة (18).
بل آل الأمر إلى أن يزيد يظهر البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) أمام الناس تصنعاً ورياءاً، وإلى ذلك يشير ابن قتيبة بقوله: فبكى يزيد حتى كادت نفسه تفيض، وبكى أهل الشام حتى علت أصواتهم (19).
ومن الملوك الذين شدّد على الشيعة في عقائدهم وحاربهم في شعائرهم هو هارون العباسي إذ إنه منعهم من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وأمر بهدم القبر الشريف وهدم الدور المجاورة له، وكانت هناك سدرة عند القبر فأمر بقلعها وحرث القبر ومحو أثره.
يقول يحيى بن المغيرة الرازي: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق فسأله جرير خبر الناس قال: تركت الرشيد وقد خرب قبر الحسين وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت، قال: فرفع جرير يديه، وقال: الله أكبر جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لعن الله قاطع السدرة ثلاثا، فلم نقف على معناه حتى الآن لأن القصد بقطعها تغير مصرع الحسين (عليه السلام) حتى لا يقف الناس على قبره (20).
وكان عهد المتوكل العباسي من أكثر العهود الإرهابية التي مرت على الشيعة وأقساها على محبّي سيد الشهداء (عليه السلام)، وإلى ذلك يشير أبو الفرج الاصفهاني قائلاً: وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظا على جماعتهم، مهمتا بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفي آثاره، ووضع على سائر طرق الزوار مسالح لا يجدون أحداً زاره إلا أتوا به فقتلوه أو أنهكوه عقوبة (21).
ونقل الطبري في أحداث سنة (236) قال: أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من اتيانه فذكر ان عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه (22).
وذكر ابن الجوزي في حوادث سنة (382هـ): أن أبا الحسن علي بن محمد الكوكبي المعلم كان قد استولى على أُمور السلطان كلها، ومنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في عاشوراء وتعليق المسوح.
وعلى كل فإن الملوك والسلاطين الذين حاولوا الوقوف أمام سيد الشهداء (عليه السلام) وأمام كل ما يتعلّق به محي ذكرهم من التأريخ وإن بقي لهم ذكر فهو الذكر السيء (23).
ونُقل في حوادث سنة (393هـ) أنّ عميد الجيوش منع في يوم عاشوراء أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في المشاهد وتعليق المسوح في الأسواق، فامتنعوا، كما منع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك (24).
وذكر المؤرخ ابن أبي طي: أنه بعد أن اتخذ السلطان نور الدين محمود بن زنكي قراره بمنع شعائر الشيعة بحلب عام (543) اجتمع الشيعة وعملوا عاشوراء، وكان هذا سببا لقيام نور الدين بنفي عدد من وجوه وأعيان الشيعة وإخراجهم من المدينة (25).
كما منع المستعصم بالله- آخر الخلفاء العباسيين- قراءة المقتل يوم عاشوراء، وإلى ذلك يشير صاحب الحوادث الجامعة في أحداث سنة (641هـ) قائلاً: إن الخليفة تقدم إلى جمال الدين عبدالرحمن بن الجوزي المحتسب، بمنع الناس من قراءة المقتل في يوم عاشوراء، والإنشاد في سائر المحال بجانبي بغداد، سوى مشهد موسى بن جعفر (عليه السلام) (26).
وذُكر في حوداث سنة (648) أنّ الخليفة في محرم هذه السنة منع أهل الكرخ والمختارة من النياحة والإنشاد، وقراءة مقتل الحسين (عليه السلام) (27).
دور الملوك في نشر عزاء سيد الشهداء (عليه السلام)
ذكرنا أنّ البعض ادّعى أن عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) هو من مخترعات بعض الحكومات الشيعية كالحكومة الصفوية، والبويهية، والقاجارية، وبيّنا أنّ عزاء سيّد الشهدء (عليه السلام) هو سنّة إلهية أقامها الأنبياء والأوصياء إلى أن آل الأمر إلى خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) الذي أقام عزاء الحسين (عليه السلام) في مواطن عديدة، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون لبعض الملوك والسلاطين مساهمة مشهودة في إحياء عزاء سيد الشهداء (عليه السلام)، وكما ينقل المؤرخون أنّ الشيعة كانوا يقيمون العزاء على الإمام الحسين ولكن خفية وبشكل غير رسمي إلى أن تشكّلت بعض الحكومات الشيعية وساهموا في توسعة مراسم العزاء.
نبذة عن اهتمام الملوك بالعزاء
يقول مادام كارلا: تأريخ إقامة العزاء والمراسم المذهبية كان قبل قرن ونصف من وصول الصفويين إلى سدة الحكم وينتهي نسب الصفويون عن طريق فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان ملوك الصفويين يطلقون على أنفسهم: كلب علي ويفتخرون بذلك.
ومنذ ذلك العهد وفيما بعد اتسعت رقعة العزاء بعد أن كان مقتصراً في البدء على التعزية وقراءة المصيبة والدعاء، وشيئاً فشيئا انتشرت وراجت بعض الأمور المبتكرة (28).
وقال علي أصغر في كتابه (تأريخ وجلوه هاي عزاداري إمام حسين (عليه السلام) در إيران): في بداية الأمر كان انتشار العزاء من خلال حضور الملوك الصفويين ومسؤولي الدولة ومحافظي المدن عبر مجالس العزاء التي كانت تعقد في العاصمة- الإيرانية-، وإذا خرج الجيش الصفوي لمقاتلة العثمانيين أو الأزبكية في شهر محرم الحرام كانوا لايقتصرون على التوصية بإقامة العزاء بل كانوا يقيمون العزاء في المعسكرات أولاً ويظهرون للخصم إتحادهم، وكما في بعض التواريخ أنّ إقامة عزاء عاشوراء في بعض الجبهات كان سببا لنصرة الجيش الإيراني، وإلى ذلك يشير الاسكندر بيك في حديث له حول حرب جيش الشاه عباس مع العثمانيين، فقال: كان الناس في العسكر الإيراني ليلة عاشوراء يحيون الليل بالعزاء وقد عمّ المعسكر الهيجان، وكان بعض أهل القلعة لا يقبلون بتسليم القلعة والمصالحة، إلى أن استيقظوا من نوم الغفلة وتوسلوا بشريف باشا أن يتوسط لهم بالمصالحة، فقصد الشاه عباس في اليوم العاشر من محرم فوجده كالعادة جالسا في مجلس العزاء وقد لبس السواد حدادا على سيد الشهداء (عليه السلام) وقارئ المقتل يقرأ المصرع الشريف فسأله أن يصالح القوم وأقسم عليه بسيد الشهداء (عليه السلام) فقبل الشاه عباس وصارت القلعة تحت سيطرة الدولة القاهرة (29).
بالطبع مشاركة الملوك والسلاطين في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) لم تقتصر على الحضور الشخصي بل تعدّت ذلك إلى أمور أخرى ومنها:
1- إعلان الحداد العام: فلم يكن الشيعة قبل مجيء الحكومات الشيعية يحيون عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) بشكل علني، بل كانوا يقيمون العزاء في كثير من الأحيان خفية وبتكتّم خشية من الحكومات الجائرة أو النواصب ممّن كانوا يحاربونهم لإقامتهم العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام).
ولمّا جاءت الحكومات الشيعية وبإيعاز من بعض السلاطين والملوك أعلنوا التعطيل والحداد العام أيام عاشوراء، يقول ابن الأثير في الكامل: في هذه السنة- عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء (30).
وقال ابن الجوزي: في اليوم العاشر من المحرم أغلقت الأسواق ببغداد، وعُطّل البيع، ولم يذبح القصابون ولا طبخ الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء، ونصبت القباب في الأسواق (31).
وذكر المقريزي في حوادث شهر محرم سنة (ا404) أنّ الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر أمر بغلق سائر الدواوين، وجميع الأماكن التي تباع فيها الغلال والفواكه وغيرها، ثلاثة أيام من آخر حزن عاشوراء، فلما كان يوم عاشوراء أغلقت سائر حوانيت مصر والقاهرة بأسرها إلا حوانيت الخبازين (32).
ونقل المؤرّخ الإسماعيلي (عِزُّ الملك المُسَبِّحي) بعض التفاصيل عن إقامة مآتم يوم عاشوراء في سنة (396 هـ)، أي: في أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (الحكم: 386-411هـ) ومن ذلك أنّ الأسواق وفي هذا اليوم كانت تتعطّل، ويخرج المنشدون إلى جامع القاهرة، ويجتمع الناس بالنوح والنشيد (33).
في أيام الأفضلية كانوا يفرشون المسجد الحسيني يوم عاشوراء بالحصر، وربما فرشوا الحصير مقلوباً، فيجلس الملك الأفضل في صدر المجلس، ويجلس القاضي والشخصيات الكبيرة عن يمينه وشماله، ويأتي الشعراء والقراء ويقرؤون قصائدهم ومراثيهم بالتناوب، فترتفع أصوات الناس بالبكاء والنحيب، ثم يفرشون سفرة النطع تكفي للآلاف ويضعون فيها ما هو المرسوم في مجالس العزاء من خبز الشعير وأنواع الخبز والحبوبات والمخللات والعسل والفطائر، فإذا صار الزوال يخرج الناس بالبكاء والنحيب فيطوفون في أسواق القاهرة فتغلق الدكاكين وتعطل الأسواق والحوانيت إلى الليل (34).
2-إقامة المجالس: وكان لبعض الملوك أيضا دوراً في إحياء مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) وتعميمها في العالم، وقد دوّن المؤرّخون ذلك ومنهم:
ما نقله الأتابكي في كتابه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) من أنّ المواكب في مصر لما تصل إلى المشهد الحسيني: جلسوا فيه- بمن معهم من الأمراء والأعيان وقراء الحضرة والمتصدّرين في الجوامع- جاء الوزير فجلس صدراً، والقاضي وداعي الدعاة من جانبيه، والقراء يقرأون نوبة بنوبة، ثم ينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة أشعاراً يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت (عليهم السلام) وتصبح الناس الضجيج والبكاء العويل (35).
وفي بغداد وبعد أن أمر معز الدولة بإقامة المآتم العامة أصبح ذلك شعيرة وسنّة تقام سنويا في يوم عاشوراء، حيث ينزل الشيعة إلى الطرقات يرثون الإمام الحسين (عليه السلام) ويبكونه (36).
ونقل أنّ الحاكم البويهي معز الدولة الديلمي أمر الناس بإقامة المآتم رسميا في مصر بعد عقد من الزمن أيام الدولة الفاطمية (37).
وكان الملوك والوجهاء وأعيان السلطة يشاركون في تلك المجالس الأمر الذي كان يحفز الناس على إحياء تلك المجالس.
ففي كتاب كتاب (قهرمانان اسلام) باللغة الفارسية، أي: «أبطال الإسلام» لمؤلفه علي أكبر تشيد، قال ما مفاده: وكان معز الدولة الديلمي قد أصر بمزاولة عادة إقامة المأتم في يومي تاسوعاء وعاشوراء في بغداد و صارت الجماعات من القائمين بهذه المآتم تجوب أسواق بغداد، بأعلامها الخاصة، لاطمة صدورها ورؤوسها.
كما أنّ السلطان معز الدولة البويهي كان يرتدي رداء الحداد والحزن، ويتقدّم عسكره المشترك في هذا المأتم، وهذه العادة التي لا زالت متداولة حتي الآن في الأقطار الاسلامية هي من آثار معز الدولة الممتازة (38).
ونقل المقريزي، قال: إذا كان يوم العاشر من المحرم احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود...فيقرأ القراء، وينشدون المنشدون أيضاً، ثم يفرش عليهم سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخلّلات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال (39).
ولم يكن الملوك يقتصرون على المشاركة في المجالسة الخاصة بهم بل كانوا يشاركون الناس الحضور في المآتم العامة المقامة في ساحة المدينة مرتدين زيّ الحداد، فكانت مواكب العزاء تمرّ من أمامهم (40).
وقال الدكتور محمد صادق فريد: خلال العشرة الأولى من شهر محرم تقام ما يقارب مئتين إلى ثلاثمائة مجلس من مجالس العزاء في منازل أعيان المناطق في طهران (41).
3- المسيرات العزائية: وكان للملوك أثرهم الواضح في تشكيل مسيرات العزاء والتظاهر بالحزن والمصاب وقد أكد بعض على أن تشهد البلاد مظاهر الحزن والعزاء.
يقول ابن الجوزي: في اليوم العاشر من المحرم أغلقت الأسواق ببغداد، وعطل البيع...وخرجت النساء منتشرات، الشعور يلطمن في الأسواق، وأقيمت النائحة على الحسين (عليه السّلام) (42).
وفي عام (352) دعا معز الدولة الديلمي حاكم بغداد البويهي الناس إلى إقامة العزاء في يوم عاشوراء وفي الطرقات (43).
وذكرنا أنّ صاحب كتاب (أبطال الإسلام) ذكر في أحوال معز الدولة الديلمي، فقال: وكان معز الدولة الديلمي قد أصر بمزاولة عادة إقامة المأتم في يومي تاسوعاء و عاشوراء في بغداد و صارت الجماعات من القائمين بهذه المآتم تجوب أسواق بغداد، بأعلامها الخاصة، لاطمة صدورها ورؤوسها.
كما أنّ السلطان معز الدولة البويهي كان يرتدي رداء الحداد والحزن، ويتقدم عسكره المشترك في هذا المأتم (44).
وقال آدام اولئار يوس الذي كان يتردّد على الشاه صفي الدين حول مسيرات العزاء في أردبيل: في أردبيل هناك خمسة أزقة كبيرة كل منها مختص بهيئة لها مداحيها ومراسمها الخاصة بها، وينتخب أفضل المداحين صوتا ليقرأ أمام الحاكم (45).
وكان الشاه عباس الصفوي يشترك في المسيرات ومواكب العزاء ويشارك المعزين إذا كان متواجدا (46).
وذكر المؤرخ ابن تغري بردي في سيرة الخليفة المستعلي بالله الفاطمي أنه: كان يبالغ في النوح والمأتم، ويأمر الناس بلبس المسوح، وغلق الحوانيت، واللطم والبكاء زيادة عما يفعله آباؤه (47).
وقال ابن تغري بردي: إذا كان اليوم العاشر من المحرم، احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيروا زيهم ولبسوا قماش الحزن، ثم صاروا إلى المشهد الحسيني، وكان قبل ذلك يعمل المأتم بالجامع بالأزهر، فإذا جلسوا فيه بمن معهم من الأمراء والأعيان وقراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع، جاء الوزير فجلس صدرا، والقاضي وداعي الدعاة من جانبيه، والقراء يقرأون نوبة بنوبة، ثم ينشد قوم من الشعراء- غير شعراء الخليفة-أشعارا يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت ع، وتصيح الناس بالضجيج والبكاء والعويل....ولا يزالون كذلك حتى تمضي ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر عند الخليفة بنقباء الرسائل، فيركب الوزير وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب، فيجدون الدهاليز قد فرشت مصاطبها بالحصر والبسط وينصب في الأماكن الخالية من المصاطب دكك لتلحق بالمصاطب وتفرش.
ويجدون صاحب الباب جالسا هناك، فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القراء وينشد المنشدون أيضا، ثم يفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة ثم يفرش عليها (سماط الحزن) مقدار ألف زيدية من العدس والملوحات والمخللات، والأجبان والألبان الساذجة، وأعسال النحل، والفطير والخبز المغير لونه عمدا لأجل الحزن، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة وأدخل الناس للأكل من السماط، فيدخل القاضي والداعي، ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير، والمذكوران إلى جانبه، ومن الناس من لا يدخل من شدة الحزن، فلا يلزم أحد بالدخول، فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانا بذلك الزي الذي ظهروا فيه من قماش الحزن، وطاف النواح بالقاهرة من ذلك اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى بعد العصر، والنوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقتها، فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم، وينصرفون في بيعهم وشرائهم (48).
4- مظاهر الحزن والحداد: وقد ساهمت بعض الحكومات الشيعية في إبراز مظاهر الحزن والعزاء في البلاد وشوقوا على أن تشهد البلاد معالم المصاب والحداد العام وذلك من خلال نشر السواد في كل مكان، ونصب الأعلام، ولبس المسوح السود، والتظاهر بالعزاء وأن تشارك النساء في مجالس العزاء.
يقول ابن الأثير في الكامل: في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما ففعل الناس ذلك (49).
وفي كتاب «قهرمانان اسلام» باللغة الفارسية، أي: «أبطال الاسلام» لمؤلفه علي أكبر تشيد، ما ترجمته: وكان معز الدولة الديلمي قد أصر بمزاولة عادة إقامة المأتم في يومي تاسوعاء وعاشوراء في بغداد وصارت الجماعات من القائمين بهذه المآتم تجوب أسواق بغداد، بأعلامها الخاصة، لاطمة صدورها ورؤوسها. كما أن السلطان معز الدولة البويهي كان يرتدي رداء الحداد والحزن، ويتقدم عسكره المشترك في هذا المأتم. وهذه العادة التي لا زالت متداولة حتي الآن في الأقطار الاسلامية هي من آثار معز الدولة الممتازة (50).
وقال الرحالة جيمز موريه حول عزاء الصدر الأعظم ومعاونيه: لا يكاد بكاء الصدر الأعظم ينقطع، وأما أمين الدولة فقد غطى وجهه بيديه وهو ينوح وينحب برفيع صوته، وأما محمد حسين خان مروي فهو يبكي أحيانا بكاءاً مراً وينوح برفيع صوته.
وقد رأيت كيف يبكي البعض منهم بحرقة وهو يكفكف دموعه من على خديه، وشعرت كيف غلب عليهم الحزن والغصة واللوعة.
وكان الملك يعين ويشارك بنفسه في هذا العزاء، ولذا فقد اضطر الآخرون على الاقتداء به، وقد شاهدت من نافذة الحجرة كان كان جمهور الناس يلطمون على صدورهم بقوة (51).
وقال المقريزي: أن ابن زولاق قال في كتاب سيرة المعز لدين الله: في يوم عاشوراء من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين قبر كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربةورجالاتهم، بالنياحة والبكاء على الحسين (عليه السلام) (52).
5- الإطعام العام: وقد كان لبعض الملوك عناية خاصة بإطعام الطعام في مجالس عاشوراء ولذا كانت الموائد في المجالس العامة تمتلئ بالأطعمة لعامة الناس من المعزّين وغيرهم.
فقد ذكر المقريزي: أنّ الفاطميين كانوا يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن، تتعطل فيه الأسواق، ويعمل فيه السماط العظيم المُسمّى بـ (سماط الحزن) (53).
وقال المقريزي أيضا في حوادث سنة (515): عبئ السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر، التي كان يسكنها الأفضل بن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبئ في غير المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب، بل سفرة كبيرة من أدم، والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات، وجميع الخبز، وخرج الأفضل من باب فردالكم وجلس على بساط صوف من غير مشورة، واستفتح المقرؤون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم، وحمل الخوان لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر الخوان عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر الخوان، ثم رفع وقدمت صحون جميعها عسل نحل (54).
6- تأسيس التكايا: قبل أن نشير إلى تأريخ تأسيس التكايا لا بأس أن بيان معنى التكية،
لم تكن التكايا قبل عهد القاجاريين، ومن أهم التكايا التي أُسّست في عهد ناصر الدين شاه القاجاري هي (تكية الدولة) وذلك لعقد المجالس فيها في مدينة طهران القديمة.
يقول الدكتور محمد صادق فريد في كتابه (كتاب إيران سوكواريهاي مذهبي در إيران) أي مراسم العزاء في إيران: وقد أسست التكايا لإقامة مراسم العزاء وسائر مراسم المذهبية، والتكايا تشبه المسارح الموجودة في الدول الأوربية المتخذة للمراسم المذهبية.
وقال أيضاً: وكان لأسفار ناصر الدين شاه القاجاري إلى أوربا وما شاهده من المسلسلات الأوربية أثراً في تطور العزاء والتشابيه، فلما شاهد ذلك في سفرته الأولى إلى أوربا رجع إلى إيران وأمر بتأسيس التكايا وعقد أكبر المراسم آنذاك بحضور العديد من الضيوف من الداخل والخارج (55).
وللتكية دور كبير في إقامة مراسم العزاء والاستعراضات المذهبية، وقد شيّدت في عهد الصفويين العديد من التكايا على يد الأشراف وبعض الناس وأشهر التكايا في إيران هي تكية الدولة وقد شيدت في عهد ناصر الدين شاه بجنب قصره.
إلى أن يقول: والتكية والحسينية من حيث البناء لها هندسة ونقوش وخطوط وأحجار خاصة بها، وعادة مايكون في وسط التكية مكان مرتفع يسمى بالسكو يغطى بالفرس الفاخر وهو مختص بالمداحين وأصحاب التشابيه وقارئ العزاء.
ويوجد في التكية مكان لجلوس عامة الناس من النساء والرجال ومكان خاص لأسر الشخصيات.
ومن أهم خصوصيات الاجتماعية للتكايا أنه لا يميّز فيه عادة بين حضور المجلس من طبقات المجتمع، ولذا تجد أن نساء الطبقات الاجتماعية الرفيعة يجلسن إلى جنب النساء من ذوي الطبقات الاجتماعية الضعيفة، ونساء الأعيان والوزراء يجلسن إلى جنب سائر النساء من طبقات المجتمع.
وعلاوة على السكو يوجد منبر عالي في وسط التكية لقراء العزاء والمداحين أو رجال الدين ممن يسردون وقائع كربلاء والمصائب المتعلقة بأهل البيت (عليهم السلام) (56).
وقال أيضاً: وهناك مبالغ خاصة لحفظ التكايا من قبل الوقف (57).
7- عزاء التشابيه: قال الدكتور محمد صادق فريد: والصفويون في طليعة من لهم يد في اتساع التشابيه- رغم مخالفة بعض رجال العلم لذلك (58).
وقال أيضاً: استفاد ناصر الدين شاه من جميع الوسائل ولذا كان يظهر مراسم التشابيه بأحسن شكل وكان يحصر على أن يكون لمراسم التشابيه جلالة وعظمة تليق بالسلطان (59).
8- التحفيز على الإنشاد في أهل البيت (عليهم السلام): كان بعض الملوك ولشدة محبتهم لأهل البيت (عليهم السلام) واعتقادهم بعزاء الإمام الحسين (عليه السلام) خاصة في أيام محرم وصفر يؤكدون كل من له يد على إحياء هذه الشعائر.
وكمثال على ذلك طلب الشاه طهماسب الصفوي من الشاعر الشهير محتشم الكاشاني أن يرثي الإمام الحسين (عليه السلام) فأنشد أبياته المعروفة:
باز اين جه شورش است كه در خلق عالم است؟--باز اين جه نوحه وجه عزا وجه مأتم است (60).
9- تعميم العزاء في القرى والأرياف: كما حرص مجموعة من الملوك على توسعة عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) وتعميمه في مختلف أنحاء العالم خاصة في البلاد الشيعية.
يقول الشيخ الأفندي (رحمه الله) منذ سنين يقيم ملوك الصفوية المآتم الحسينية على هذا النحو في العشرة الأولى من محرم، وخاصة في يوم عاشوراء، وذلك في كافة أنحاء إيران (61).
10- الحث على تدوين المقاتل: ساهم الملوك أيضا في تدوين بعض المقاتل لسيد الشهداء (عليه السلام) ومنها كتاب (روضة الشهداء) في فاجعة كربلاء تأليف الملا حسين واعظ الكاشفي، وقد ادعى البعض أن الكتاب هو أول مقتل يكتب باللغ الفارسية.
وقد كتب الكاشفي مقتله (روضة الشهداء) بأمر من السيد ميرزا الذي كان من أعيان هرات وإلى ذلك يشير المؤلف نفسه في المقتل فيقول: هذا الخلل- أي عدم كفاية ماكتب من المقاتل- أشار السيد ميرزا على هذا العبد الفقير الحقير أن يؤلف نسخة جامعة لكل حالات أهل البلاء من الأنبياء والأصفياء والشهداء وسائر أرباب الابتلاء وأحوال آل العباء والتوضيح مفصلا فاشتغلت بذلك (62).
وقد لقي الكتاب رواجا كبيرا بين الناس والملوك لسلاسة عباراته وسهولتها حتى صار الخطباء والوعاظ يُسمّون باسم ذلك الكتاب فيقال لهم: روضة خون، أي قارئ العزاء إذ إن الخطباء والوعّاظ في ذلك العصر كانوا يقرأون من متن ذلك المقتل للناس.
وكان كتاب روضة الشهداء يقرأ في البلاط الصفوي أيام محرم وعاشوراء (63).
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط بل نظم هذا المقتل وصار الناس والمنشدون ينشدونه في مجالسهم، وكمثال على ذلك فقد نظم حسين فدائي النيسابوري كتاب روضة الشهداء في عهد إسماعيل الصفوي وجعل منه ملحمة دينية قدمها للملك (64).
ومن المقاتل التي كُتبت بأمر الملوك هو مقتل (القمقام الزخّار والصمصام البتّار) الذي كتبه معتمد الدولة فرهاد ميرزا نجل عباس ميرزا ولي عهد فتح علي القاجاري.
وقد كان فرهاد ميرزا في برهة من الزمن حاكما على كردستان، وفي برهة أخرى حاكما لا أصفهان، ثم نُقل إلى فارس.
يقول الشيخ الجابري الأنصاري في تأريخ أصفهان: كان فرهاد ميرزا ربيبا للقائم مقام وصاحب السيف والعلم، له أصل ثابت وفرع نابت، ومن آثاره الباقية تذهيبه إيوان الكاظمين (عليهما السلام) وبناء صندوق من الفضة الخالصة لضريح الكاظم والإمام الجواد (عليهما السلام)، وكان يتحلى بخصلة العدل، وفضيلة السلوك الطيب، فأينما يولي وجهه في أقاليم إيران المختلفة يبسط العدل، وينشر الأمن، وينظم الأمور، فكان موضع احترام وتقدير ورضا الطبقات كافة (65).
11-إكرام الخطباء والمنشدين: ومن ضمن اهتمام الملوك بالشعائر الحسينية وعزاء سيد الشهداء (عليه السلام) أنهم كانوا يكرمون الخطباء والمنشدين الذين يساهمون بشكل كبير في إحياء هذه الشعائر ويقربونهم منهم زلفى.
وهذا الإكرام لما لهم من دور مؤثّر وهام في إحياء الشعائر الحسينية حيث إنهم يثقفون عامة الناس بالثقافة الحسينية ويشدون أرواحهم بحادثة الطف وماجرى على أهل البيت (عليهم السلام) يوم عاشوراء.
يقول أحد السوّاح الروس في تقريره عن شهر محرم في طهران مشيرا إلى دور الخطباء في مراسم عاشوراء: في أول عام من حكم الملك محمد-أي القاجاري- تقام طقوس محرم في طهران بأبهة وجلال، تنصب في الأيام الأولى من محرم خيم سوداء مرتفعة، في نقاط مختلفة من المدينة، يعتلي الخطباء المنبر داخل هذه الخيم، ويأتون على ذكر المصائب التي حلّت في هذه الأيام بصوت مرتفع، ويبدو الحزن على وجوه الناس، ويشرعون بالبكاء والنحيب، كما يجتمع في الليل كثير من المعزين مرة أخرى في هذه الخيم، ويوقدون المشاعل، ويبكون لساعتين أو ثلاث أو حتى طوال الليل، يلطمون ويصرخون (ياحسين)، بل يشتد الحماس ببعضهم أحيانا حتى يجرح نفسه جروحا عميقة بأدوات حادة، ويتعالى الصراخ في شوارع طهران، بحيث يتصور الإنسان أن جيشا هجم على المدينة، يقوم بذبح الناس (66).
وقال السائح تاروينه الذي زار إيران عام (1667م) في رحلته: ويبدأ الخطباء مع كل غروب من هذه الأيام- أيام عشرة محرم الحرام- بوعظ الناس وإعدادهم لليوم المنشود من أعلى المنابر المنصوبة في الساحات والطرق... إلى أن يقول: ويضعون إلى جانب قاعة الملك أريكة مفروشة بالسجاد، حيث تكون خمسة أو ستة أقدام أدنى من القاعة، كما يضعون على الأريكة كرسيا عليه غطاء أسود، يجلس عليه خطيب ومن حوله ستة من الخطباء جالسين على السجاد.
ويتحدث الخطيب لنصف ساعة عن مقتل الحسن والحسين، وبمجرد أن يُنهي حديثه، يعطيه الملك والخطباء الآخرون ثياباً، لكن ثوب الخطيب المتحدث يكون فاخرا أكثر، وبعد ارتداء الخطباء أثوابهم يجلس الخطيب ثانية على الكرسي، ويدعو الله لإطالة عمر الملك وملكه ودوام صحته (67).
12- تشويق الشعراء: وللملوك أيضاً دور بارز في حث الشعراء على نظم الشعر في أهل البيت (عليهم السلام) خاصة واقعة كربلاء.
قال الدكتور محمد صادق فريد: وقد أبعد الصفويون شعراء البلاط وقربوا الشعراء المذهبيين الشيعة واعتنوا بهم ممّا أدى إلى تكامل بعض الشعائر كشعيرة إنشاد العزاء، وقراء الفضائل والمناقب (68).
وقال أيضاً: وكان اعتناء ملوك القاجار بإحياء وتوسعة العزاء سبباً لإنشاد الشعراء ونظمهم للشعر وقراءة الشعر والمصائب في ذلك العصر بحيث إن بعض الشعراء ينشد الشعر ليجلب نظر الملوك وقد نتجت عن ذلك بعض المظاهر السلبية على مجالس العزاء فحال أمير كبير دون استمرارها (69).