الجوهر القيمي لثورة الحسين

محمد عبد الجبار الشبوط

2023-07-20 07:56

اغلب الثورات الكبرى التي حصلت في التاريخ هي في جوهرها ثورات قيمية تحدث رداً على/ او بسبب/ حصول خلل حاد في المركب الحضاري للمجتمع ومنظومة القيم المتعلقة به. تاريخ الثورات القيمية طويل ومتنوع.

يدرك القادة والمفكرون هذا الخلل الحاد في المركب الحضاري فيما يعاني عامة الناس من افرازاته ونتائجه مثل الظلم والفساد والدكتاتورية والعبودية والتفاوت الطبقي وغير ذلك. تشير هذه الثورات إلى انتفاضات الشعوب وتغييرات جذرية في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي.

الثورات القيمية تحدث عندما يشعر الفرد أو الجماعة بعدم الرضا والاستياء تجاه الوضع القائم، وتأتي رداً على عدم العدالة والاستبداد والفساد والقهر. وعجز النظام القائم عن تلبية احتياجات وطموحات الشعب.

لحدوث الثورات القيمية، يتطلب الأمر أن يكون هناك وعي واستيعاب للخلل الذي يحصل في المجتمع. يتم توحيد معاناة الأفراد والتضامن حول القضايا العادلة والقيم الأساسية المفقودة. تشكل القناعة بأن هناك حاجة ضرورية للتغيير الشامل الدافع الرئيسي لإشعال شرارة الثورة.

تتميز الثورات القيمية بأنها تعبر عن رغبة المجتمع في إعادة تشكيل بنيانه الاجتماعي بشكل أكثر عدلًا ومساواة وحرية. تهدف إلى تحقيق قيم مثل العدل، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والمساواة، وحرية التعبير، والتنمية الشاملة.

الثورات القيمية عادة ما تكون ردة فعل على حدوث خلل حاد في المركب الحضاري للمجتمع والدولة. عندما يشعر الأفراد بالظلم أو التهميش أو تراكم الفساد أو القمع السياسي، فإنهم قد يثورون ضد النظام الحالي للتعبير عن غضبهم وتحقيق التغيير. تكون الثورات عادة ما تهدف للتخلص من النظام الحاكم وتحقيق تحولات أو تغييرات جذرية في المجتمع والسياسة والاقتصاد.

بصفة عامة، إن الثورات تعكس احتياج الشعوب المظلومة للعدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتهدف إلى إنشاء نظام حاكم يلبي تطلعاتهم ويحسن أوضاعهم.

الثورات القيمية هي تلك التي تندرج ضمن إطار القيم الأخلاقية والأخلاق المجتمعية المرغوبة. يمكن أن تكون هذه القيم مثل العدل، والحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والتسامح، والتعاون، والاحترام المتبادل، وحق التعبير، والنزاهة، والنمو الاقتصادي المستدام، وغيرها من القيم التي يسعى الشعوب إلى تحقيقها.

من الناحية الجوهرية، يعتبر أهميّة الثورات القيمية في ترسيخ وتعزيز هذه القيم في النظام الجديد الذي ينشأ عقب الثورة. فالثورة المتجهة نحو قيم مثل الحقوق والعدالة والديمقراطية تعزز النظام السياسي الذي يركز على حماية حقوق الإنسان وضمان المساواة والعدالة لجميع أفراد المجتمع.

هذا دون ان نغفل ملاحظة أنه في بعض الأحيان يمكن للثورات أن تتحول إلى أعمال عنف وفوضى تتنافى مع قيم السلم والأمان. لذلك، يتوجب على المثقفين والقادة الثورة التأكد من أن أي تحول نحو تغيير جذري في المجتمع يتم بطرق سلمية تحافظ على القيم والأخلاق المرغوبة.

لكن الايمان العميق والمطلق بقيم العدل والمساواة والحرية والاصلاح يمد المجتمع بطاقة كبرى للمقاومة والثورة على الفساد والظلم والفقر وبقية نواحي وافرازات الخلل الحاد في المركب الحضاري ويحمي الثورة من الانحراف عن القيم التي حركتها وجاءت من اجلها.

كما يجب أن نفهم أن الثورات القيمية عملية تطورية تتطلب صبرًا وتعاونًا وتضحيات من جميع أفراد المجتمع. إنها دعوة للتغيير وتحقيق التطور الشامل وتجديد القيم الأساسية التي يجب أن تكون أساساً للمجتمعات العادلة والمزدهرة.

تجلى الجوهر القيمي للثورة الحسينية في موقف الامام الحسين من البيعة ليزيد خلفا لابيه وخليفة للمسلمين. قالها بكلمة صغيرة موجزة: "ومثلي لا يبايع مثله". ليست هذه مقارنة شخصية، وانما مقارنة بين مثالين: مثال الامام الحسين وما يمثله من قيم ايجابية، ومثال يزيد وما يمثله من "قيم سلبية". انها نفس المقارنة القيمية التي كانت قائمة بين اب هذا واب ذاك، بين علي ومعاوية. فهذا يمثل القيم الاسلامية بكل سموها وعلوها ورفعتها، وذاك يمثل "القيم الجاهلية" بكل تفاهتها وانحطاطها وسقوطها وتخلفها، دون ان انسى القول المنسوب الى علي: "انزلني الدهر حتى قيل علي ومعاوية".

علي الذي جعله النبي امام الدين والدنيا، ونصبه المسلمون خليفة لهم. ما كان لمعاوية سليل المؤلفة قلوبهم ان يذكر اسمه بموازاة اسم علي. و ما كان للقيم التي يمثلها الحسين ان تأتلف مع القيم التي يمثلها يزيد. فالتضارب بينهما حتمي، كما كان الائتلاف بين علي ومعاوية مستحيلا.

كان طلب البيعة من الحسين ليزيد هو الشرارة التي اشعلت نار الثورة الحسينية، يوم رفض البيعة معلنا كلمته الخالدة:" ومثلي لا يبايع مثله". ومنها انفتح الباب امام البرنامج الاصلاحي للامام الحسين وهو يكتب لاخيه من ابيه محمد بن الحنفية:"وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابي طالب."(كتاب البحار) انه الاصلاح في الامة الاسلامية اذاً. وهو اصلاح سياسي في شقه الظاهر، لكنه اصلاح حضاري شامل في بعده الاعمق، ردا على الانحرافات الجذرية التي حدثت على الاقل منذ تولى معاوية ولاية الأردن في الشام في عام ٢١ هجرية في عهد عمر بن الخطاب.

وبعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان من طاعون عمواس، ولاه عمر بن الخطاب ولاية دمشق وما يتبع لها من البلاد، ثم جمع له الخليفة عثمان بن عفان على ولاية الشام كلها، فكان من ولاة أمصارها، ثم تولى الخلافة بعد ما يسمى "صلح الحسن"، ليحولها الى ملك وراثي عضوض، كما في حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول محمد (ص)، قبل وفاته في عام ٦٠ هجرية. قال ابن الأثير في "النهاية": "ثم يكون ملك عضوض" أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضا. وهذا ما حصل في عهد معاوية وابنه يزيد. وكان من الانحرافات الكبرى جعل السياسي من سلوك الخلفاء دينا، و التفاوت الطبقي في المجتمع الاسلامي الجديد، والغاء الشورى، وقبل ذلك واخطره تولي السلطة (الخلافة) من قبل اشخاص غير جديرين بالمنصب.

على المستوى الشخصي لم يكن الامام الحسين بحاجة الى الثورة، لا ماليا ولا سياسيا ولا وجاهيا. فقد كان امام العصر قام او قعد، وكان سيد شباب اهل الجنة، وكان من اكبر مثقفي زمانه بل اعلمهم، وكان وجيها في المجتمع، وكان سيد اهله وقومه، لكنه كان مسؤولا مسؤولية ذاتية عن مجتمعه الذي هو "امة جده". وكانت هذه المسؤولية تحتم عليه الثورة، وهو يرى ويتألم لهذا الانحدار السريع للقيم الحاكمة في المجتمع السياسي وخاصة على المستوى السياسي (الخلافة) فضلا عن المظالم التي كان يعاني منها اهل العراق، فكان عليه ان يعقد العزم على اعلان الثورة والمضي قدما فيها بغض النظر عن الحسابات العسكرية الميدانية التي كانت تشي باستحالة تحقيق نصر عسكري.

لهذا كان هدف الامام الحسين ان تنتصر ثورته قيميا اكثر من حرصه على ان تنتصر عسكريا في مواجهة كان الخلل في معادلتها العسكرية شديد الوضوح. وهذا ما كان وحصل بدليل اننا مازلنا نعيش الى اليوم المعاني القيمية للثورة. لكنه رأى، وهو صاحب النظر الصائب، ان الثورة سوف تنتصر بالحسابات القيمية، حيث ستتمكن الثورة من اعادة نسج المنظومة القيمية التي تمزقت، واعادة الاعتبار الى القيم الاسلامية التي سحقها معاوية بقدميه، كما عبر بنفسه عن ذلك. اثبت الزمان ان حسابات الحسين كانت صحيحة. فها نحن نسمع صرخات الملايين بعد اكثر من ١٤٠٠ سنة وهي تنادي "لبيك يا حسين"؛ فيما طوى الزمان صفحة قاتلي الحسين وفي مقدمتهم يزيد بن معاوية، والقى بهم في مزبلة التاريخ ووادي النسيان.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي