الإمام الحسين (ع) واستراتيجية مواجهة الضلال
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-08-07 07:32
يقول الإمام الحسين (عليه أفضل صلوات المصلين) سائلاً رجلاً:
(أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: رَجُلٌ يَرُومُ قَتْلَ مِسْكِينٍ قَدْ ضَعُفَ أَ تُنْقِذُهُ مِنْ يَدِهِ، أَوْ نَاصِبٌ يُرِيدُ إِضْلَالَ مِسْكِينٍ مِنْ ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا، تَفْتَحُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ بِهِ، وَيُفْحِمُهُ وَيَكْسِرُهُ بِحُجَجِ اللهِ تَعَالَى ـ قَالَ ـ بَلْ إِنْقَاذُ هَذَا الْـمِسْكِينِ الْـمُؤْمِنِ مِنْ يَدِ هَذَا النَّاصِبِ؛ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(1))(2).
لماذا (الهداية) أهم من (الإنقاذ)؟
والسؤال هو: لماذا إنقاذ المسكين المستضعف فكرياً وعقدياً، يعدّ أهم وأولى وأحب، من إنقاذ شخص من يد قاتله؟.
هنالك عدة إجابات:
1: لأنها تنقذ الحياة الأبدية
الإجابة الأولى: وقد تقدمت فيما سبق، لكننا نعيدها الآن باختصار؛ لأن القاتل لا يأخذ من الإنسان إلا حياة فانية في هذه الحياة الدنيا، بينما الضال المُضل الذي يستهدف العقيدة والدين، فإنه يحطم ـ لو نجح ـ حياة الإنسان الخالدة، فيحرمه جنة الله الواسعة، ويخلده في نار جهنم، ولا قياس بين من يقضي على مقدار ثلاثين سنة من حياتك، ويحطمها ويدمرها، وبين من يقضي على مليارات من السنين، بل ما لا يحصى من السنين من النعيم المقيم، ويحولها إلى عذاب أليم.
ولذلك أراد الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه الرواية أن يعرفنا على أهمية وإستراتيجية وأولوية إنقاذ العباد من الضلال.
وعليه: فقضية الهداية والإرشاد والتحصين الفكري والعقائدي للناس والأمة، يجب أن تكون في أعلى سلّم أولوياتنا.
2: لأن الانحراف يمهــّد لقتل الآلاف
الإجابة الثانية: وقد تقدمت أيضاً أن القاتل يقتل شخصاً واحداً أو شخصين أو أكثر، بينما ذلك الضال المُضل الذي يحاول تحطيم أسس العقيدة وحَرْفِ المسار الفكري والعقائدي للإنسان، فإنه (المفتاح) لدخول الناس إلى عالم الجريمة، وهو البوابة لقتل الآلاف أو الملايين من البشر.
وبتعبير آخر: الضال المضل يمثل الحاضنة التي تفرّخ القتلة والمجرمين، فإن القاتل لا يرتكب جريمته إلا إذا كان منحرفاً في فكره؛ لأن الفكر هو القائد والموجه لحركة الجوارح، لذا كان من الأولى معالجة السبب، قبل أن يعالج المُسبَّب، وإلا فسوف نبقى أبد الدهر نعالج المسبب دون جدوى.
وكما يمثل علماء الأخلاق: لو كانت هناك بئر فيها مياه آسنة تنبعث منها رائحة نتنة، وكانت مركز إنتاج البعوض، فلو وقف إنسان أمام هذه البئر، وانشغل بقتل كل بعوضة تخرج من البئر، فإنه يجب عليه أن يستمر على هذا المنوال سنين طوالاً مادامت البئر موجودة.
أما الذي ينزح الماء، ويطهر البئر من تلك المياه الآسنة ويعقمها، فإنه الذي يقوم بالعمل الحقيقي الجذري الجوهري؛ لأنه يغلق محطة الفساد من الأساس لأنه يعالج السبب في عمقه.
وقد مثلنا بـ (نيرون) الذي حكم روما عام 54م، وكان طاغية دموياً؛ لسبب يعود إلى وجود خلل في عقيدته، إذ لم يكن متربياً على معرفة الله وخشيته، لذا فقد أحرق روما حسب تحقيق المؤرخين بأسباب مفتعلة، وذلك بهدف بناء قصر مذهب على أنقاض بيوت الناس المهدمة، بل أنه قتل أمه التي ولدته (اجربينا).
والسبب في كل ذلك عقيدته الفاسدة، وعدم خوفه من الله سبحانه وتعالى، لذا لم يقتصر هذا الطاغية على مفردة واحدة من الإجرام، بل إنه قتل زوجته الأولى لكي يتزوج بإمرأة اخرى، ثم قتلها أيضاً ليتزوج ثالثة! كما قتل الكثير من الناس.
وذلك مثال من التاريخ القديم، أما من التاريخ الحديث، فقد قتل طاغية العراق صدام عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الناس، حيث المقابر الجماعية في داخل العراق، تعدّ من أكبر الشواهد على ذلك، وذلك مع قطع النظر عن المعارك التي آثارها مع دول الجوار، والتي تسبّبت بقتل مئات الآلاف من الناس، كلهم قتلوا بسبب شخص واحد، لماذا؟!.
أ ليس لأنه كان منحرفاً أخلاقياً وفكرياً وعقدياً، ولم يكن يؤمن بوجود الله سبحانه وتعالى، إلا بلقلقة لسان كاذب، كما كان قلبه قلب كاذب أيضاً.
وعليه فإذا تم إصلاح العقيدة، وإنقاذ العباد من الزلل والانحراف العقدي والفكري والديني، فإنه لن يكون هناك قاتل على وجه البسيطة.
3: الفساد العقدي هو أم الفساد
الإجابة الثالثة: إن الفساد العقدي والفكري، يشكّل البنية التحتية لشتى المفاسد الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، والسبب الرئيس وراء إهلاك الحرث والنسل.
وكمثال على ذلك (الخوارج)، فقد بدأ انحرافهم من المسألة العقدية، فقد رفعوا شعار لا حكم إلا لله واعتقدوا ـ ظلماً وزوراً ـ أن قبول أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالتحكيم في حرب (صفين)، صيّره كافراً بنظرهم!.
وبذلك اختل عندهم مقياس الإيمان، فكان شخصٌ مثل الإمام علي (عليه السلام) ـ وهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ كافراً وكانوا هم مؤمنين!.
ثم إن هذا الانحراف العقائدي جرّ الويلات على الأمة، ثم إن هذا الانحراف لهؤلاء كان متعدد الأبعاد. مثلاً: كانوا يعتقدون أنه لا واسطة بين الإيمان والكفر، كما يعتقد الآن بعض الجهال بذلك، وأن الإنسان إما أن يكون مؤمناً أو يكون كافراً.
ولذلك كانوا يقولون: بأن مرتكب الكبيرة كافرٌ بالأساس وليس بمؤمن، بل هو مرتد ولا يستتاب! أي هو بمنزلة المرتد الفطري ـ لا المِلِّي ـ فحتى إذا تاب يجب أن يقتل؛ لأن توبته غير مقبولة!.
الخوارج والإرهابيون نموذجاً
وهذا هو الانحراف البنيوي العقدي والفكري، والذي أصبح فيما بعد هو الجذر للإرهاب الذي تسبب بقتل الآلاف من البشر.
والحاصل: إن الانحراف العقدي والفكري والديني، يشكل البنية التحتية لشتى المفاسد، فإن مفاسد (الخوارج) وأشباههم، من إرهابيي هذا العصر، لا تقتصر على قتل الناس، بل إنهم يدمرون كل شيء، حتى أقدس المقدسات والحرمات، كما ارتكبوا جريمة تفجير سامراء(3)، وكما ارتكبوا جريمة هدم قبور أئمة البقيع الغرقد(4).
ثم إن الإرهابي الذي يدمّر هذه المراقد المطهرة لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى، فإن المؤمنين بالله سبحانه وتعالى يعلمون أن المشاهد الشريفة، يُعبد فيها الله سبحانه وتعالى آناء الليل وأطراف النهار، وهي تضم مراقد عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويؤمّها كل مسلمي العالم، إلا أقلية نادرة من المتطرفين فكرياً، والإرهابيين المتحجرين.
ومما يدلنا أيضاً على انتهاك المنحرف عَقَديا لكل الحرمات، أننا نجد أن (الخوارج) أثاروا حرباً أهلية في البصرة دامت خمس عشرة سنة، حيث كان الأخ الخارجي يقتل أخاه المؤمن؛ لأن الخارجي كان يجد أخاه المسلم المؤمن العابد والمصلي والمزكي على غير طريقة تفكيره، فيقتله سواء أ كان شيعياً أم سنياً، إذ لا فرق بينهما عندهم من هذه الجهة.
وهو ما يحصل اليوم أيضاً، وذلك يكشف عن أن الإرهابي هو عدو للبشرية وللإنسانية؛ لأن الانحراف العقدي قد دمّر كل المعادلات الإنسانية والإسلامية التي عنده، بل نجد أنه كثيراً ما يقتل من أجل القتل، بل إنه يلتذ بالقتل ويعشقه! كما كان الحجاج(5) يعشق القتل، لماذا؟؛ لأنه لم يكن يؤمن بالله سبحانه وتعالى.
وكما قاد الخوارج تلك الحرب الأهلية في البصرة، فإن (خوارج العصر) من الإرهابيين الذين نشاهدهم اليوم، يقودون معركة ضد أتباع أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) في العراق، بل يخوضون معركة ضد كل إنسان، وفي كل مكان في العالم.
من هنا يأتي تأكيد الإمام الحسين (عليه السلام) على إصلاح العقيدة، وهداية الناس وإرشادهم، وحماية ضعفاء المؤمنين فكرياً وعقديا وثقافياً، من أن يتعرضوا للغزو التكفيري والارهابي.
وهذا العمل هو الذي له من الأجر الكبير ما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لأن بذلك حماية العقيدة، ومن ثمَّ حماية الأرواح، وحماية الأموال، بل حماية الإنسانية جمعاء.
فإذا حافظنا على سلامة العقيدة، فلن يكون هنالك سبب لأن يقتل الإنسان الإنسان، بل لن تُرتكب حينئذٍ المعصية بالأساس؛ لذا فإن المحافظة على فكر الشباب من زيغ الضلال والانحراف، يعد من كبريات الواجبات الملقاة على عاتق كل مثقف وعالم وأديب ومتعلم.
ذلك أن تلوث فكر الشباب بالإرهاب، يجعل من الشاب عنصراً دموياً خطراً، إذ لا يقيم وزناً للإنسان الآخر، بل إنه لن يقدر الرب الجليل وأوامره ونواهيه، ولا الوسائط بين الإنسان والرب، وهم الأنبياء والرسل والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام).
معاوية وفكرة الجبر
ويشهد مثالٌ آخر على دور الانحراف العقدي في الفساد والإفساد، وهو ما صنعه معاوية بابتداع نظرية "المجبرة والمفوضة"، هذه الفكرة تقول: إن الله سبحانه وتعالى يُجبر العباد على ما يفعلون!
وعليه فإذا كان الله سبحانه يجبرنا على أفعالنا، وإذا كان كل عمل وفعل بإرادة الله سبحانه وتعالى، فإن الجرائم المروعة التي ارتكبها أي حاكم في التاريخ ستكون مبرّرة، مثل ما صنع معاوية بقتل آلاف الناس، والأولياء مثل: حجر بن عدي، وسائر الصالحين.
مثل أكله مال الله أكل الإبل نبتة الربيع، ومصادرته أموال المسلمين، فإن ذلك كله بجبرٍ من الله سبحانه وتعالى، وليس باختيار الإنسان، أي أن الله سبحانه وتعالى بأمر تكويني يجري هذه الأمور على يد هذا المخلوق.
فلا عتب إذن على الحاكم الجائر، ولا تجوز الثورة ضده، أو الاعتراض عليه؛ لأن الاعتراض عليه إنما هو اعتراض على الله، ونقده هو نقد الله!! وهكذا كان يفسر ذلك الطاغية كل عوامل الانحراف في الأرض، وكل جرائمه وجناياته.
لذا نجد أن الامام الحسين (عليه السلام) يؤكد على إصلاح العقائد، وعلى هداية الناس، وحماية المستضعفين فكرياً وعقدياً، من أن يهاجمهم شياطين البشر وإرهابيوا الفكر.
من هو الناصبي؟!
وهنا نتسائل: لماذا استخدم الإمام الحسين (عليه السلام) كلمة (الناصب) في الرواية الشريفة؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟.
والجواب: الناصب هو المعادي، و(النصب) هو المعاداة.
فالناصب هو من نصب نفسه لعداء أهل الحق، و(الناصبي) في المصطلح المتداول هو الذي نصب العداء لأهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، أو من نصب العداء لشيعة أهل البيت ومحبيهم؛ لأنهم شيعة ومحبون لهم، وهو ذلك الإنسان المليء بالكراهية والمليء بالحقد.
فكل متعصب ضد الحق، وضد أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، وضد أتباع أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، فهو ناصبي.
نعم، المعنى اللغوي للناصبي أعم من ذلك للحق، إذ أن هناك من يحقد على عائلة أو عشيرة أو شعب، وهناك من يحقد على الإنسان بما هو إنسان، وهذا هو الذي نصب العداء للإنسانية، فما بالك بمن نصب العداء لسادة الإنسانية والبشرية، وهم الذين يجسّدون العدل والحق والحقيقة على مر التاريخ.
الصرب وعصابات الهاغانا من النواصب
مثالٌ على ذلك: (الصرب) في جمهورية البوسنا والهرسك، الذين قادوا معركة إبادة جماعية ضد المسلمين حتى عام 1995م، هؤلاء نصبوا العداء للإسلام وللمسلمين.
والمثال الآخر: في عام 1949م قاد (مناحيم بيغن) عصابات الهاغانا الصهيونية المعروفة بدمويتها، فقامت بمجازر مريعة في (دير ياسين) و(بئر السبع) وغيرها من المناطق الفلسطينية، فهؤلاء نصبوا العداء للمسلم وللمستضعف وللمظلوم.
بعض الموسوعات الإسلامية لم تذكر لفظة (النواصب)
لكن مما يؤسف له أن هذا المصطلح المسلَّم به لدى الفريقين، لم يذكره عدد من أصحاب الموسوعات العالمية في الدول الإسلامية، وهو أمر غريب حقاً، وحتى بعض الموسوعات الفقهية لم تبحث هذه الكلمة، ولم تسلط الضوء عليها.
مع أنه من البديهيات عند كل مسلمٍ ـ سواء أ كان من الشيعة أم من العامة ـ أن الناصبي هو الذي ينصب العداء للحق ولأهل الحق، والذي ينصب العداء ـ في المصداق الأكثر جلاءً ـ لأهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، وهو بلا شك من أهل النار؛ لأن أهل البيت (عليهم السلام) من أحبهم فقد أحب رسول الله، ومن أبغضهم فقد أبغض رسول الله؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول ـ مثلاً ـ: (حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ)(6).
بمعنى أن من يكره الإمام الحسين (عليه السلام) فقد كره رسول الله ـ والعياذ بالله ـ كما قال (صلى الله عليه وآله): (أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْناً)(7)، فبغضه في جوهره بغض لله.
كما إن الله تعالى يقول في كتابه الكريم:
(وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)(8).
بمعنى أن نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فمن كره علياً ونصب له العداء، فقد كره رسول الله ونصب له العداء ـ والعياذ بالله ـ.
والله تعالى يقول:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(9).
فمن نصب لهم العداء فقد واجه الله بالحرب ـ والعياذ بالله ـ.
فلماذا نجد تلك الموسوعات المعروفة، والتي تقف وراءها دول إسلامية كبيرة ويُعِدُّها علماء كبار، لم يذكروا هذه المفردة (الناصبي)، مع أنهم ذكروا كل شيء عن الطوائف والمذاهب والملل، حتى المجوس والملحدين.
لكنهم غفلوا أو تغافلوا! عن هذه المفردة التي يعيش اليوم جميع المسلمين وغير المسلمين تحت نير جرائم من اتصفوا بها، بل إن السلم العالمي اليوم مهدد بسب أولئك النواصب التكفيريين، من أحفاد آكلة الأكباد ومعاوية ويزيد بن معاوية وأضرابهم (عليهم لعنة الله جميعاً).
وقد ذكرت وكالات الأنباء والصحف: إن مجموعة من الإرهابيين في بغداد قاموا باعتقال عدد من النساء المؤمنات، ثم قاموا بذبحهن من دون جريمة ارتكبنها أو حق أخذنه منهم، بل قاموا بإعدامهن تشفياً وحقداً عليهن لمجرد أنهن لم يكنّ على عقيدتهم المنحرفة وسبيلهم البائس.
إن الإمام الحسين (عليه السلام) صريح في الدعوة إلى إنقاذ عباد الله من النواصب، ومن الذين جندوا كل طاقاتهم ضد أهل الحق.
الفتح على المستضعفين دفعاً أو رفعاً؟
وهناك نقطة أخرى مهمة ودقيقة كامنة في حديث الإمام (عليه السلام)، ففي حديثه الآنف الذكر يقول:
(...تَفْتَحُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ بِهِ، وَيُفْحِمُهُ...).
إن كلمة (تَفْتَحُ عَلَيْهِ) لها جمالية خاصة، أي أن تفتح على المستضعفين فكرياً وعقديا ودينياً، أبواب الاستدلال والاحتجاج "بحجج الله سبحانه وتعالى" فتعرّفهم الحق والحقيقة، ولذلك منتهى القيمة وأكبر الأجر والجزاء.
والملاحظ أن الإمام (عليه السلام) يشير إلى نقطة ظريفة، إذ إنه (عليه السلام) يشير إلى (الدفع) قبل (الرفع).
ففي الاصطلاح الأصولي هناك (دفع)، وهناك (رفع). والدفع يعني أن تحول دون حدوث شيء قبل أن يحدث، أما الرفع فيعني رفع الشيء بعد حدوثه.
ومثال الدفع:
تناول الأطعمة التي توفر الحصانة من الأمراض مثل: العسل وغيره، فهو يدفع سبب المرض، ويمنع حصوله من الأساس.
أما مثال الرفع:
فكما لو أصيب الإنسان بالمرض، فاستخدم المضادات الحيوية (الانتي بيوتيك) وأشباهها، فيرفع بذلك المرض بعد الإصابة به.
ومن هنا نعرف أن الدفع أولى من الرفع، فأن تقوم بتحصين بدنك وفكرك، هو أولى من أن تنتظر المرض أو الانحراف، ثم تعالج المرض وتصلح الفساد.
فإن بعض الناس يهملون أبناءهم، ولكنهم عندما يكبر أحد أبناءهم ويصبح سارقاً ـ والعياذ بالله ـ أو ينحرف، أو يصبح إرهابياً، أو يخرج من الدين ويذهب إلى الغرب أو إلى الشرق، حينئذ يفكرون ماذا يصنعون لهم؟.
وكان من المفروض أن يحصنوا أبنائهم من البداية، ويحولوا بينهم وبين الانحراف، من خلال التربية والتعليم وإسداء النصيحة، والرعاية المتواصلة لهم ومن الأساس.
والخلاصة:
إن الإمام (عليه السلام) يشير على المؤمنين بالدفع، وأن يتصدوا للانحراف قبل أن يجبروا على الرفع. بمعنى أن يخططوا بحيث يحصّنوا الأمة من النواصب والضلال والمُضلين، الذين يهاجمون العقيدة والفكر السليم.
والذي يشهد بإرادة الدفع قبل الرفع أمران:
1ـ قوله (عليه السلام): (مَا يَمْتَنِعُ بِهِ).
2ـ قوله (أَوْ نَاصِبٌ يُرِيدُ) في جملة: (أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: رَجُلٌ يَرُومُ قَتْلَ مِسْكِينٍ قَدْ ضَعُفَ أَ تُنْقِذُهُ مِنْ يَدِهِ، أَوْ نَاصِبٌ يُرِيدُ...)(10).
فهو بعدُ لم يحقق مطلوبه، بل قبل أن يضلّه، بل حتى قبل أن يحاول التضليل، يجب عليك أن تعطي ذاك المؤمن المستضعف، البراهين والحجج فتحصنه بما يمتنع به منه، ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى.
دعوة للتسلح بالفكر والحجة
وهنا أيضاً وقفة دقيقة في كلام الإمام (عليه السلام) إذ يقول:
(تَفْتَحُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ بِهِ، وَيُفْحِمُهُ وَيَكْسِرُهُ بِحُجَجِ اللهِ... ).
فإنه (عليه السلام) يدعو المؤمن لكي يتسلح بقوة المنطق في مقابل هذا الناصب.
ونلاحظ هنا أن الإمام (عليه السلام) لم يستخدم لغة العنف؛ لأن الأصل في الإسلام السلام والمنطق والحكمة:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالـْمُهْتَدِينَ)(11).
وذلك يعني أنك إذا وفّرت جواً ثقافياً وإيمانياً عاماً، وثقفت الناس ورفعت من مستواهم الثقافي، فإن الهزيمة ستكون من نصيب الإرهاب؛ لأن الإرهاب لا يعيش ولا يسود في البيئة الصالحة، ومثله مثل المكروب الذي ينمو فقط وفقط في البيئة غير الصالحة فيتكاثر وينتشر.
من هنا يبين لنا الإمام (عليه السلام) الموقف الإستراتيجي والجوهري، الذي يوفر القاعدة والبنية التحتية التي تقضي على كل تخطيط، يحاول أن يستخدم عباد الله وبلاد الله محطات للإرهاب وللتخريب، ولإهلاك الحرث والنسل.
وبناءً على ذلك فإنه يجب علينا التخطيط الشامل لنشر الوعي والثقافة على مختلف المستويات، ويجب علينا لذلك الانفتاح على سائر عباد الله، والتعاون معهم لأجل تحقيق ذلك، فقد تخطى العالم الآن الحركة الفردية، واتجه نحو العولمة والعالمية والتحالفات الإستراتيجية.
فالفضائيات مثلاً: تقوم اليوم بدور كبير في إرشاد العباد والبلاد إلى دين الله، وإلى أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، ولكن لتكن القنوات الفضائية بالمئات، ولتكن متعاونة متكاتفة، ولتكن الكتب الإسلامية الرصينة بالمليارات، ولتكن هناك المليارات من الأقراص المضغوطة التي تحمل برامج ومحاضرات تربوية وتعليمية وعقائدية، ولتكن هناك العشرات بل الألوف من المؤتمرات التخصصية والعامة حول الإرشاد والتوعية والتثقيف.
إن الإمام الحسين (عليه السلام) يدعونا إلى أن نفتح على عباد الله بما يمتنعوا به من الضلال، ومخربّي العقيدة والدين والمذهب، وكافة ما يرتبط برسول الله وأهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، فهل نحن صانعون؟.