الحسين شرارة الكلمة
شبكة النبأ
2021-08-11 05:00
بقلم: سليمان كتَّاني، مقتبس من كتاب الامام الحسين في حلة البرفير
ولا تزال الدعوة مرصوصة بجلالها يا شقَّ القلم، لقد وجَّهتْ إليك بالأمس تُناديك إلى ولوج دائرة مقطوبة بالإمام علي ـ فولجتَ الدائرة مزوَّداً بحبر مقطور مِن المُقلة المُشتعلة بنهج البلاغة، ثمَّ تتالى إليكَ النداء مربوطاً بمِنديلٍ كانت تعتصب به فاطمة الزهراء، فعصرتَ منه زيتاً لسراجك تكحَّلتْ به شعاعاً مشيتَ به معها مِن فَدك إلى باحة المسجد، ثمَّ جاءك الأمس الأقرب بنداء يشدُّك إلى الإمام الحسن، فسهرتَ معه ليلاً طويلاً أشرق صُبحه على رباط أبيض، وصل العراق، بالشام، بارض الجزيرة الأُمُّ، في حضن الرسالة التي لا تزال تعتصم بها وحدة الإسلام.
واليوم، يا شقَّ القلم، تأتيك دعوة جديدة أشعر أنَّها ـ كمثيلاتها السابقات ـ مغمورة بجلالها، فهلاَّ يكون لك اهتزاز إليها يُلبِّي وجبة النداء؟
ولكنَّ القلم الذي كان نائماً قُرب المحبرة، ما ارتعش إلاَّ قليلاً وعاد إلى غلاف السكون، كأنَّه التعب الراجع مِن جهادٍ، فتناولته بين أنمُلتي، وطُبعت على ثغره قُبلة فيها نشوة، وفيها وفاء، وفيها مَدد مِن عافية، ورحت إلى بعضٍ مِن الأطناب أموِّهه بشيءٍ مِن الثناء، حتَّى استدرجه إلى استعادة وعيه، واستيعاب ما أنا استحثُّه إليه.
قلتُ له: إنَّني أعرف يا رفيقي، وصديقي، ونديمي الأجلّ، كم أجورُ عليك، وأُحمِّلك الأحمال الثقيلة، وما ذلك إلاَّ لأنِّي أُدرك أنَّ فيك شوقاً يدفعك لاقتحام الحَلبات ـ صحيح أنَّ الكلمة هي عدتك في كلِّ واحدة مِن الغَمرات، إلاَّ أنَّك تعرف مِن أين تقتنصها وكيف تُلبسها بَهجة الحرف، وبهجة الزَّيِّ، وبهجة اللون ـ فأنت فنَّان يا قلمي الحبيب، وأنت غوَّاص في البحور التي تَغزر في قيعانها منابت الدُّرر؛ وأنت مُراقب ماهرٌ، تقتفي أثر الخُطوات الكبيرة، وتأخذ لك مِن وقعها فوق
القلاع نقشاً تُزيِّن به جُدران الأغوار، وتطلي به كلَّ حرفٍ يتزنَّر به خصر الكلمة.
واهتزَّ القلم في كفِّي كأنَّه مِن انتفاضة جاء ولمَّا أنته مِن عرضي بعد، قال: وإنْ أقبل منك الثناء ـ فهل تظنُّني هكذا به أغترُّ؟! أنا بين يديك يا رفيقي، ويا وليِّي الأبرُّ، ألاَّ أنَّني غزارة، ما هزَّتني الريح وسقتني الديمة، إلاَّ لأنْ أكون ريشة بين يديك، وها أنا لك تبريني بشفرة سكِّينك، تسقيني مِن رمش عينيك. أنا لا آخذ الكلمة الإَّ منك، ولا أبنيها جداراً إلاَّ بخفقة مِعصمك، فهل لك أنت مِمَّا أردُّه إليك أنْ تُباهي أوْ أنْ تَغترُّ؟
وراح القلم في كفَّي إلى صمت حريز، وهو يرقب قنِّينة الحِبر، كأنَّه يهفو إليها تأخذ هي ـ له ـ منِّي الجواب:
ـ صدقت يا صنوي الحبيب، وأنا مثلك لا يحقُّ لي أنْ أغترَّ ـ كلانا غَزارة يا قلمي في كفِّ الحياة ـ إنَّها هي التي تَبرينا أقلاماً وتسقينا مِن حِبرها نلوِّن به صفحة القرطاس، نأخذ الكلمة منها ونبنيها في حقيقة التعبير ـ فإذا كان لنا الغوص العميق والجمع الأصيل، فذلك مِن معانيها الصحيحة ننقله إلى الصفحة المزدهية بجمال التصوير. الصدق والغوص يا قلمي، كلاهما في المُجتنى، يبنيان الكلمة تشفُّ بهما، ويبنيان النفس إلى حقيقة الغرف وحقيقة التأثير.
تلك هي القضايا الكبيرة في الحياة، تنبت منها الكلمة، ويصدر عنها التعبير ـ والشوق والفهم هما الصيادان الماهران اللذان يتلقطان بالكلمة المنسوجة مِن حقيقة القضيَّة ـ والمُعبِّرة هي عن حقيقة جلالها.
أمَّا الدعوة الجديدة التي يُحفِّزك ويُحفِّزني الشوق إلى جعلها جليلة في المضمار، فلا أظنُّك إلاَّ مُتهيِّباً مِثلي جديَّة الغوص فيها؛ لانَّ لها ـ في المجال الكبير ـ قضيَّة مُلتهبة بالجوهر الذي تُفتِّش عنه حقيقة الإنسان.
عديدون هُمْ الرؤوس الكبار الذي تناولتُ إليهم سَهماً مشتاقاً في حقول السيرة، ولكنِّي لم أؤخذ مع أيِّ واحد منهم، وهُمْ العظام، بهزَّة تناولت مِن نفسي كلَّ كوامنها، كالهزَّة التي تملَّكتني وأنا اتتبَّع خُطوات الإمام الحسين مِن أرض الحِجاز، إلى أرض الكوفة ـ لقد مشى الخُطوط ذاتها، وأوسع منها بكثير، كلُّ واحد
مِن هؤلاء المشَّائين ـ لقد كان كلُّ واحد منهم عدَّاءً وجوَّاباً ـ ابتداءً مِن النبي الجليل، الذي لم يترك حَبَّة رمل مِن أرض الجزيرة إلاَّ ونشَّفها بخطواته الثقيلة، وغمرها بفيض مِن عقله وروحه وحنانه، فإذا هي تَؤوب مِن اعتكافها الطويل، لتنال خَطَّاً جديداً بين يدي مَن راح يبنيها بناءً جديداً بإنسان سويٍّ.
أمَّا العبقريُّ الآخر الذي كانت خُطواته أوسع مِن الدروب، وراحتاه أندى مِن كلِّ دُيمة مَرَّت في سماء، فانَّه ما ترك خلفه خَطَّاً مِن خُطوط القوافل، إلاَّ وزرع نفسه فيه: نظافة، وعدالة، وتُقى، وسموَّاً، مِمَّا جعل مُجتمعات الأرض تُفتِّش عن حقيقة وجودها الحضاري النبيل، ولا تجده إلاَّ في الإنسان الذي يبنيه حِزام الإمام عليٍّ (ع).
أمَّا تلك التي نبتت بين ذراعي أبيها، كأنَّها أعزُّ مِن شجرة الدُّرِّ، فيكفيها أنَّها مشت أقصر طريق مِن بيتها الذي قُلِعت مِن باحته شجرة الأراك، إلى باحة المسجد الذي كان يُصلِّي فيه خليفة المسلمين؛ لتُعلمه أنَّ العدالة الممهورة بجِنان أبيها محمَّد، والمسبوكة مِن مَعدن زوجها عليٍّ، هي التي تُرزِم الأُمَّة وتجعلها قدوة بين الأُمَم، إنَّ الطريق القصير الذي مشته فاطمة الزهراء، لا يزال حتَّى الآن يمتدُّ عِبَر الأجيال، تخفق فيه ثورة نادرة المثال، تُعلِّم البنَّائين كيف يُعالجون أساس الصرح الذي يليق لسُكنى الإنسان.
هؤلاء هُمْ ثلاثة علَّموا الإمام الحسن كيف يمشي فوق الدروب، ولقد مشى بروحه، وعقله، وإيمانه، وكان جليلاً وهو يمشي، وكان حكيماً وهو يمشي، وكان قُطباً مِن مرونة وهو يمشي، ولا يزال حتَّى الآن يمشي مشية الرِّئبال المُختال ـ إنَّه الغيور على أُمَّة سُحبت مِن تحت الرمال المحرورة، لتُثبت وجودها تحت الظلال ـ إنَّه لا يزال ولن يَنْيَ يُعلِّمها أنَّ الوحدة النظيفة، المؤمنة، والمُدركة هي التي ـ وحدها ـ تبني المُجتمع بالإنسان العظيم، وأنَّ الأحقاد ليست عقلاً، وأنَّ التسابق إلى مراكز الحُكم والثروة ليس قوَّةً ولا غِنىً، ولا أيَّ تحقيق يدوم، وأنَّ الحُكم هو خدمة مُتفانية، وصدق في المعرفة والضمير، وأنَّ كلَّ ما خطَّه جَدُّه الذي جمع الأُمَّة مِن شِتاتها إلى واحد، هو الصحيح في أداة الجمع والتوحيد، وهي التي جمعت، وهي التي حقَّقت، وهي التي لا يقدر ـ هو الإمام الحسن ـ إلاَّ أنْ يُضحِّي مِن أجل تثبيتها أداة جمع لا أداة تفرقة، وكان التنازل عن الحُكم، والابتعاد عن إراقة الدم، إحياءً لقدوةٍ لا تزال حتَّى الآن تُقدِّم لكلِّ مَن يُحاول الوصول إلى كرسيٍّ مغروز القوائم في بُرَك الدم، على حساب مُجتمع ينهدُّ إلى دَركٍ مِن الذِّلِّ والضعف والهوان.
تلك هي الخُطوط العريضة التي مشاها هؤلاء العظام، فهل يكون الخَطُّ الذي مشاه الحسين مِن مَكَّة إلى كربلاء هو مِن ذات الطول، وذات الوزن، وذات الدلال؟
ولكنَّ السير الذي كان يبدو وكأنَّه بلا رحل ولا نعل، ولا رمح مصقول السنان، كيف له أنْ يطيب عِرقه وحفاؤه، ويذكو نزفه وسخاؤه؟ أم أنَّه غِمْد خَسر السيف، وخَطو نَتَفَ النَّعل، جَعبة ضيَّعت النبل، وفرس قفز السرج مِن حِزامها، فإذا بالمعركة المشدودة بالصهيل، كأنَّها كهف في وادٍ مهجور، ما جَنَّ إلاَّ بالصدى وهَمْهَمة الصدى، وإذا بالعزم كأنَّه انتحار لا يتخفَّى إلاَّ تحت أقدامٍ حافية، تجوس النَّخاريب لتصبغها بالورم والدم!.
إنَّها المأساة ـ على ما يبدو ـ ولكنَّها ليست هي التي هزَّتني وحرَّكت في نفسي كوامن ما طالها أحد مِثلما طالتها سيرة الحسين، ليست المأساة هي التي انتهت بمقتل الحسين وأهل بيته، وليست هي التي انتهت بقطع رأسه وحمله هديَّة إلى المَريد الجديد يزيد!!! صحيح أنَّها همجيَّة ينفر مِن تقبُّلها تحصُّل مُطلق إنسان ـ وأنَّها تجديف يُجرِّد كلَّ مُجتمع تَحصَل فيه مِن كلِّ قيمه الحضاريَّة ـ الإنسانيَّة ـ المُجتمعيَّة، وتُصنِّفه دون الدرك الحيواني المُتوحِّش، ولا تغسله مِن زَنِخها الكريه إلاَّ أجيال أُخرى، تردُّه إلى إعادة اعتبار نفسه إنساناً لا يجوز له أبداً أنْ يُمثَّل حتَّى بذئبٍ جاء يفترس نعجة مُطمئنَّة في حظيرة.
قلت: ليست المأساة تلك هي التي هزَّتني، وإنْ تكن قد قهرتني وقصفتني إلى ذِلٍّ لا يُمرِّغني به إلاَّ إنسان كافر في مُجتمعي، إنَّما المأساة في أنْ نكتب الكلمة ولا نعرف كيف نقرأها.
لا ـ لم تكن مسيرة الحسين مِن مَكَّة إلى العراق نَزْقاً موصلاً إلى جنون الانتحار ـ إنَّما كانت مسيرة الروح، والعقل، والعزم، والضمير إلى الواحة الكُبرى التي لا يُرويها إلاَّ العنفوان والوجدان. إنَّ مُجتمعا يخسر معركة العُنفوان والوجدان، هو المُجتمع الذي لم يتعلَّم بعد كيف يكتب، ولا كيف يقرأ كلمة المَجد أو كلمة الكرامة في حقيقة الانسان.
ومشى الحسين مِن مَكَّة ـ وأهل بيته جميعهم في محمول القافلة ـ ومعه أبوه الرابض هناك في النجف الأشرف، وأُمُّه الثاوية هنا في البقيع، والمُتلفِّعة بوشاحها المُطرَّز، وأخوه المُتزِّمل بجُبَّته البيضاء، وجَدُّه الممدود فوق المدى، ومعه كلُّ الجُدود المُطيَّبين، مِن أبي طالب، إلى عمرو العُلا، الهاشمين الثريد في القِصاع، المُشبعين العُطاش مِن بئر زمزم، ومعه الرسالة في القرآن، ومعه الاجتهاد وكلُّ صيغ الجهاد، ومعه الغيرة على مُجتمع فُكَّ جديداً مِن أُساره وأُعيد مِن غياب طويل، حتَّى يتعلَّم كيف يكتب الكلمة وكيف يقرأها للحياة.
أنا لا أقول: إنَّ الحسين قد تأبَّط كلَّ هؤلاء الرَّزم وسار مِن مَكَّة إلى كربلاء، ليرميهم جميعا فوق رمالٍ محروقة بالعطش، في حين ينساب إلى جنبها ماء الفرات، إنَّما جاء المَعين يجري مِن بين راحتيه، والكلمة العزيزة ترقص مغزولة في عينيه، لقد جاء يُعلِّم كيف تكتب الكلمة، وكيف يقرأها العِزُّ والمَجد والعنفوان! لقد جاء بالمُحاولة الكُبرى، فإنَّها ـ إنْ لم تسمح الآن ـ سيكون لها، مع كلِّ غَدٍ، وقع يلفظ الحرف، ووقع يؤلِّف الكلمة، يكفي الصدى، بقاياه تتعبَّأ بها حنايا الكهوف، ويستعين بها المُجتمع النائم، لصياغة حُلمه، فيُفيق ويعود يبني نفسه مِن غُبار المَعْمَعة.
لا ـ لم تكن مسيرة الحسين غير ثورة في الروح لم ترضَ بسيادة الغيِّ، والجهل، والغباء، ـ بالأمس كان أخوه الحسن قُدوة بيضاء، وها هو اليوم ـ الحسين ـ يقوم بقُدوة حمراء، وكلا القُدوتين مُشتَّق مِن مصدر واحد هو المصدر الأكبر، مِن أجل بناء المُجتمع بناء تتعزَّز في تطويره وتتنوَّع كلُّ السُّبل ـ هكذا قال جَدُّه وأبوه في حقيقة
الرسالة، وهكذا قالت الوصيَّة، وهكذا قالت له الإمامة الهاجعة في ضميره، والمُفسَّرة في التصرُّف الأحمر.
تلك هي المسيرة ـ مسيرة الحسين ـ وتلك هي الكلمة خَطَّها وتلفَّظ بها عُنفوان الحسين، وتلك هي المأساة: تقرأ ثورة الروح انتحاراً، وتَقصيف السيوف في ساحات الدفاع عن الحَقِّ انتحاراً، وبذل النفس مِن أجل قيمة في الحياة انتحاراً، والجُرأة في وجه الحاكمين الظالمين انتحاراً، والمُطالبة بمُنعة المُجتمع الصحيح انتحاراً.
تلك هي الكلمة التي أدعوك ـ يا قلمي ـ إلى جَلوة حروفها، إنَّ الحسين شرارة الكلمة... وهل يُبنى مُجتمع صحيح بغير مِثل هذا الشرار؟