ابن خلدون وحركة الامام الحسين: فحص وتحليل
مجلة الكلمة
2019-09-07 06:44
بقلم: زكي الميلاد
- 1 -
نظرية ابن خلدون.. الأهلية والشوكة
في الفصل الثلاثين من كتاب المقدمة، وعند حديثه عن مسألة ولاية العهد، تطرق المؤرخ الشهير عبدالرحمن بن خلدون (732-808هـ/1332-1406هـ) وبشكل مقتضب لحادثة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) مكوِّنًا له في هذا الشأن نظرية أقامها على ركنين هما: الأهلية والشوكة، رابطًا الأهلية بالفضائل الفردية، ورابطًا الشوكة بالعصبية الاجتماعية، جامعًا بين التحليل الديني والتحليل الاجتماعي، مُصَوِّبُا الحسين من جهة الأهلية، ومُخَطِّئًا له من جهة الشوكة.
وحسب تحليله الاجتماعي، وجد ابن خلدون أن العصبية الاجتماعية قد تغيَّرت صورتها، وعادت إلى الظهور بعد فترة من الضمور والانكماش، مميّزًا في هذا المورد بين نوعين من العصبيات، مطلقًا على النوع الأول تسمية العصبية الجاهلية التي ذهبت مع أول ظهور الإسلام، لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي، والنوع الثاني مطلقًا عليه تسمية العصبية الطبيعية التي بقيت مع ظهور الإسلام، وانتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين.
وبتأثير هذا التحول الديني والاجتماعي، رأى ابن خلدون أن العصبية قد عادت كما كانت ولمن كانت من قبل، شارحًا ذلك بقوله: «وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها؛ لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق، وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين، فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت، ولم يبقَ إلَّا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين، والدين فيها محكم والعادة معزولة، حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد؛ فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل»[1].
وبعد أن غلَّط ابن خلدون الحسين في أمر الشوكة، عاد مستدركًا واضعًا هذا الغلط في إطار أمر دنيوي لا يضر الغلط فيه، ومصوِّبًا الحسين من ناحية الحكم الشرعي معتبرًا أنه لم يغلط فيه لأنه منوط بظنه، وحسب قوله: «فقد تبين لك غلط الحسين؛ إلَّا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك»[2].
وتأكيدًا لرأيه في تغليط موقف الحسين، حاول ابن خلدون أن يمايز بين موقفه (عليه السلام) وموقف غيره من الصحابة الذين رأوا عدم جواز الخروج على يزيد وإن كان فاسقًا لما ينشأ عنه من الهرج والدماء، فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، لكنهم لم ينكروا عليه، ولا أثَّموه، ونص كلامه: «وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم، فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقًا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثَّموه، لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين»[3].
ولضبط رأيه حول موقف الصحابة الذين استند إليهم في تغليط موقف الحسين، رأى ابن خلدون من جهة عدم تغليط موقف هؤلاء الصحابة لأنهم خالفوا الحسين وقعدوا عن نصرته، ومن جهة أخرى عدم تصويب قتل الحسين.
في الجهة الأولى، ارتكز ابن خلدون على أمرين في عدم تغليط موقف الصحابة، الأول يتصل بالصحابة الذين لم يروا الخروج على يزيد، والثاني يتصل بالحسين الذي لم ينكر على هؤلاء الصحابة قعودهم عن نصرته، واستشهد بهم في تأكيد حقه وفضله وهو يقاتل بكربلاء، ونص كلامه: «ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره؛ فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه، ويقول: سلوا جابر بن عبدالله، وأبا سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وسهل بن سعيد، وزيد بن أرقم وأمثالهم، ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرَّض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن اجتهاد منه»[4].
في الجهة الثانية، يرى ابن خلدون أن تصويب موقف الصحابة لا يعني تصويب مقتل الحسين، كما لا يعني في نظره تصويب أفعال يزيد الذي يراه فاسقًا فلا يجوز معه قتال الحسين، والحسين عنده في هذا القتال كان شهيدًا مُثابًا، ونص كلامه: «وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد...، واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم؛ وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه. ولا تقولن: إن يزيد وإن كان فاسقًا ولم يُجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة، واعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعًا. وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا، فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكِّدة لفسقه، والحسين فيها شهيد مُثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضًا واجتهاد»[5].
وتتمة لموقفه غلط ابن خلدون وبصورة باردة جدًّا، موقف القاضي الأندلسي أبي بكر بن العربي (468-543هـ) صاحب كتاب (العواصم من القواصم) الذي أثار فيه أشنع وأفدح وأقبح موقف سجَّله تاريخ الكتابة حول الحسين، حين صوَّر أن الحسين قتل بشرع جَدِّه، الموقف الذي علَق عليه الباحث الموريتاني الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي قائلًا: «لا نعلم من علماء أهل السنة من سبق ابن العربي إليه أو لحقه فيه»[6].
لكنه الكلام الذي وجد فيه ابن خلدون مجرَّد غلط حصل نتيجة غفلة عن اشتراط الإمام العادل، ونص كلامه: «وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه أن الحسين قتل بشرع جَدِّه؛ وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل؛ ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!»[7].
هذه هي تقريبًا صورة قول ابن خلدون أو نظريته في تفسير حادثة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام).
- 2 -
نظرية ابن خلدون.. مواقف نقدية
حصلت مفارقة غريبة عند ابن خلدون أثارت دهشة من تنبَّه لها، ظهرت ما بين النص المدوَّن في كتاب المقدمة والنص المدوَّن في كتاب التاريخ، فنص المقدمة وصل إلينا كما دوَّنه ابن خلدون بخلاف النص الثاني الذي وصلنا مبتورًا ليس من أحد وإنما من ابن خلدون نفسه، فقد بتر كلامه ولم يكمل سرده التاريخي لحادثة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) مُدوِّنًا مقدار صفحة واحدة، ثم ترك فراغًا على هيئة صفحات بيضاء عرفت في الطبعات القديمة، وطويت لاحقًا في الطبعات الحديثة.
والتفسير الوارد في هذا الشأن الذي وصل إلينا، هو ما ذكره ابن حجر العسقلاني (773-852هـ/1375-1449م) حين وثَّق لقضاة مصر ما بين القرن الأول إلى منتصف القرن التاسع الهجري في كتابه (رفع الإصر عن قضاة مصر)، متحدثًا فيه عن سيرة ابن خلدون الذي تولى في مصر على فترات منصب قاضي قضاة المالكية، وقبل أن يختم سيرته ذكر العسقلاني حادثة على لسان شيخه أبي الحسن بن أبي بكر، قائلًا: «وقد كان شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ في الغض منه -يقصد ابن خلدون-، فلما سألته عن سبب ذلك، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي (عليه السلام) في تاريخه فقال: قتل بسيف جده، ولما نطق شيخنا بهذه اللفظة، أردفها بلعن ابن خلدون وسبِّه وهو يبكي. قلت: ولم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن، وكان ذكرها في النسخة التي رجع عنها»[8].
وبعد أن ذكر العسقلاني هذه الحادثة، عقَّب عليها مباشرة بالإشارة إلى حادثة أخرى نسبها لصاحبه الشيخ تقي الدين المقريزي (766-845هـ)، يُفهم منها تأكيدٌ من العسقلاني لرواية شيخه أبي الحسن وموافقته عليها، معتبرًا أن ابن خلدون لديه موقف ليس من الحسين فحسب وإنما من آل علي، ويرى فيه -بحسب عبارته- الانحراف عن آل علي.
ونص الحادثة كما رواها العسقلاني هي: «والعجب أن صاحبنا المقريزي كان يفرط في تعظيم ابن خلدون لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عبيد، الذين كانوا خلفاء بمصر، وشهروا بالفاطميين، إلى علي ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نقل عن الأئمة في الطعن في نسبهم ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي، وكان صاحبنا ينتمي إلى الفاطميين، فأحب ابن خلدون لكونه أثبت نسبتهم، وغفل عن مراد ابن خلدون، فإنه كان لانحرافه عن آل علي يثبت نسبة الفاطميين إليهم، لما اشتهر من سوء معتقد الفاطميين، وكون بعضهم نسب إلى الزندقة، وادَّعى الألوهية كالحاكم، وبعضهم في الغاية من التعصب لمذهب الرفض، حتى قتل في زمانهم جمع من أهل السنة. وكانوا يصرحون بسب الصحابة في جوامعهم ومجامعهم، فإذا كانوا بهذه المثابة وصح أنهم من آل علي حقيقة، التصق بآل علي العيب، وكان ذلك من أسباب النفرة عنهم والله المستعان»[9].
تكمن أهمية هذه الرواية أنها حصلت في وقت مبكر، وجاءت على لسان العسقلاني الذي عاصر ابن خلدون وتتلمذ عليه في القاهرة، وكشفت هذه الرواية عن أن موقف ابن خلدون من حركة الإمام الحسين ترتب عليه احتجاج واعتراض حاد، حصل في عصره، وعلم به، وأجبره على تبني تعديلات عليه، الخطوة التي ما كان بإمكانه أن يقدم عليها لو لم تكن مصر من المحطات التي استوطنها في الشطر الأخير من حياته، حتى أنه توفي ودفن فيها.
الأمر الذي يعني أن بعضًا من علماء الدين السُّنَّة وفي مقدمتهم المصريون هم أول من تنبَّه لهذه القضية المحزنة والمثيرة للجدل، ولم يصمتوا عليها، أو يتغافلوا عنها، بل كانوا في مقدمة المعترضين والرافضين، وهو موقف يذكر لهم، ويؤرخ في سيرتهم، وسيرة تاريخ تطور الكتابة حول الحسين وحركته ونهضته (عليه السلام).
وأشار لهذه القضية من المعاصرين، عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي (1913-1995م) الذي يعدُّ أحد أبرز الدارسين لابن خلدون، فقد نال القسط الأوفى في الرسالة التي نال بها شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس سنة 1950م، وبقي مولعًا به، يحرص على اقتناء كل ما يظهر حوله من كتب ومقالات، وحاول جمع المعلومات عنه من بطون المؤلفات العربية القديمة[10].
وحين تطرق لرواية العسقلاني نقلًا عن الدكتور عبدالرحمن بدوي (1917-2002م) التي وردت في كتابه الجمعي (مؤلفات ابن خلدون)، عقَّب الدكتور الوردي عليها معرفًا عن وجهة نظره النقدية والتقويمية قائلًا: «إن صحَّت هذه الرواية، فهي دليل على أن ابن خلدون كان له في أول أمره رأي في ثورة الحسين يشبه رأيه في جميع الثورات الفاشلة، ولكنه تراجع عن هذا الرأي بعدئذٍ خوفًا من الناس، فمحاه من مقدمته، ووضع مكانه الرأي –المذكور-»[11].
وقد ثبت عند الوردي أن ابن خلدون قرأ كتاب ابن عربي (العواصم من القواصم)، ويرى أنه تأثَّر به كثيرًا، ووجده ينحو منحى ابن عربي عند مناقشته في المقدمة لتلك الفتن التي حدثت في صدر الإسلام، وهي الفتن التي اعتنى بها ابن عربي وبحثها باهتمام كبير في كتابه المذكور.
وبشأن المفارقة التي حصلت في كتاب التاريخ، فقد تحدث عنها الدكتور الوردي بقوله: «مما يلفت النظر أن ابن خلدون لم يذكر شيئًا عن ثورة الحسين في تاريخه العام، بل ترك مكانها فارغًا، والغريب أن الذين قرؤوا تاريخ ابن خلدون، والذين اشتغلوا في طبعه، لم يفطنوا إلى علة هذا الفراغ الأبيض في صفحات الكتاب»[12].
وأمام هذه الملاحظة، قدم الدكتور الوردي رأيًا لا يجزم به شرحه قائلًا: «يخيل لي أن ابن خلدون عندما أراد أن يكتب عن ثورة الحسين في تاريخه، تملكته الحيرة وتوقف عن الكتابة، فهو لا يدري أيكتب الرأي الذي يؤمن به في قرارة نفسه، أم يكتب الرأي الذي يريده الناس منه، والظاهر أنه خصص لحادثة الحسين صفحات من تاريخه، وتركها بيضاء لكي يعود إليها فيملأها بعد أن يستقر في أمر الحسين على رأي معين، ثم مرت به الأيام فنسى أمر تلك الصفحات البيضاء، حيث بقيت على حالها إلى يومنا هذا»[13].
مع ذلك رأى الدكتور الوردي أن ابن خلدون أسهب في الدفاع عن الحسين في مقدمته، بخلاف الانطباع العام الذي تشكَّل حوله في ساحة المسلمين الشيعة الذين صنَّفوه في عداد أصحاب المواقف التي خطَّأت الإمام الحسين وغلَّطت حركته وثورته.
ولعل أوضح من أشار لمثل هذا الانطباع، الباحث الإيراني الدكتور حميد عنايت (1932-1982م) الذي عَدَّ ابن خلدون الناقد الثاني لحركة الإمام الحسين بعد ابن عربي، مع تفريق له ما بين النقدين، معتبرًا أن ابن عربي جاهد في تجريد ثورة الإمام الحسين من أي اعتبار، في حين رأى أن مناقد ابن خلدون هي من نوع آخر، مُذكِّرًا بموقفه الذي يرى فيه حسب عبارته «أن الحسين قد أخطأ عندما خلط بين أحقيته واستطاعته»[14].
ويتَّصل بهذا المنحى ما ذكره الباحث الإيراني الشيخ محمد صحتي سردرودي الذي اتَّخذ من ابن خلدون مثالًا لما سمَّاه التحريف التبريري عند حديثه عن (التحريف في السيرة الحسينية.. دراسة في المظاهر والأشكال)، معتبرًا أن رواية ابن خلدون لهذا الحدث التاريخي قد طفحت بالتحريف، وقتلت الحقيقة التاريخية، ووقعت في اشتباهات وتناقضات عديدة[15].
وهناك نقد مهم لابن خلدون، تنبَّهتُ إليه ولم يكن معروفًا ولا متداولًا في هذا الشأن، وتكمن أهميته لأنه جاء من أحد أبرز رجالات الإصلاح الديني الحديث، ونعني به الشيخ عبدالرحمن الكواكبي (1270-1320هـ/1854-1902م)، الذي وجَّه نقدًا لاذعًا لابن خلدون عند حديثه عن الاستبداد والمجد، مدافعًا عن المجد مهما ترتَّبت عليه من مخاطر تصل لطلب الموت كرامة ومجدًا.
ومع أن الكواكبي لم يشر إلى اسم الإمام الحسين بالعنوان الخاص، لكنه أشار إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالعنوان العام، وأوضح مصداقًا لكلامه يجري على الإمام الحسين الذي قدم على الموت طلبًا لحياة المجد ورفضًا لحياة الذل، ونص كلامه: «وقد أشكل على بعض الباحثين أيّ الحُرصين أقوى؟ حرص الحياة أم حرص المجد، والحقيقة التي عوَّل عليها المتأخرون وميَّزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل؛ وذلك المجد مُفضَّل على الحياة عند الملوك والقواد وظيفة، وعند النجباء والأحرار حميَّة، وحبّ الحياة ممتاز على المجد عند الأُسَرَاء والأذلَّاء طبيعة وعند الجبناء والنساء ضرورة، وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت (عليهم السلام) معذورين في إلقائهم بأنفسهم في تلك المهالك لأنهم لما كانوا نجباء أحرارًا فحميُّتهم جعلتهم يُفضِّلون الموت كِرامًا على حياة ذلٍّ مثل حياة ابن خلدون الذي خطَّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدَّد مجدهم»[16].
هذه بعض النماذج النقدية القديمة والحديثة التي تعرَّضت لرؤية ابن خلدون تجاه حركة الإمام الحسين وثورته.
-3-
نظرية ابن خلدون.. ملاحظات ونقد
إلى جانب تلك المواقف النقدية، هناك بعض الملاحظات الأخرى التي تكوَّنت عندي حول نظرية ابن خلدون، وهذه الملاحظات هي:
أولًا: إن الرؤية التي قدَّمها ابن خلدون ونسبها لنفسه في تفسير وتحليل حركة الإمام الحسين (عليه السلام) هي رؤية ناقصة أو هكذا يمكن وصفها؛ لأنها لا تُحيط بأبعاد القضية، ولا تتفهمها من جوانبها كافة، ولا تستوفي شروط الرؤية الناضجة أو الرؤية المكتملة.
والأقرب أن ابن خلدون لم يكن بصدد تكوين رؤية متكاملة أو مكتملة حول هذه القضية، بل ولم يكن راغبًا -على ما يبدو- في أن يُقدِم مادَّةً تاريخية وافية لهذه القضية، وفضَّل بترها بالصورة المنقوصة التي ظهرت عليها في تاريخه العام.
ويكفي معرفة أن المادة التي عرض لها الطبري في تاريخه في أكثر من ثلاثين صفحة من الصفحات المضغوطة في الطبعة التي جمعت تاريخه في مجلدين فقط، والمادة التي عرض لها ابن الأثير في تاريخه الكامل في أكثر من ستين صفحة، هذه المادة عرض لها ابن خلدون في تاريخه العام بما يعادل صفحة واحدة لا غير، لسببٍ تكتَّم عليه، ولم يُفصح عنه لا في مقدمته ولا في تاريخه، فاتحًا على نفسه باب التأويلات التي ذهبت مذاهب شتى.
وما دامت المادة التاريخية غير مكتملة، فإن الرؤية المتولّدة منها يصعب بطبيعة الحال أن تمثّل رؤية مكتملة، والقضية في جوهرها وحقيقتها لا تتحدد ولا تدور ما بين الأهلية والشوكة، ولا تختزل في ظهور الفسق من يزيد، ولا في دعوة أهل الكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره، وإنما القضية أوسع أفقًا من ذلك، وأبعد مدى، وهذا ما لم يتنبَّه له ابن خلدون فظلَّت رؤيته ناقصة، ولا يمكن النظر لها إلَّا بهذه الصفة الناقصة أو غير الناضجة ولا المكتملة.
ثانيًا: يظهر أن ابن خلدون لم يبذل جهدًا جادًّا في تكوين المعرفة بحركة الإمام الحسين ونهضته، وما طرحه هو أقرب إلى الانطباع العام الذي يلامس ظاهر القضية ولا يتكشَّفها على حقيقتها، أو يتفطَّن لحكمتها ويقترب من جوهرها، وأشار إلى ما هو مُتصوَّر عنده، ولم يُشر إلى ما هو متصوَّر عند الحسين (عليه السلام)، فهناك فارق كبير بين ما ذهب إليه ابن خلدون فهمًا وانطباعًا، وبين ما ذهب إليه الحسين حركة ونهضة.
والشاهد على هذا الأمر، أن ابن خلدون لم يرجع إلى أقوال الحسين ونصوصه، ولم يأتِ على ذكرها قط لا في مقدمته ولا في تاريخه العام، وكأنه لا علم له بها ولا دارية، وهي الأقوال والنصوص التي شرح فيها الإمام الحسين حقيقة حركته ونهضته، وبدونها لا يتحقَّق الفهم، ولا يكتمل العلم.
ويأتي في مقدمة هذه الأقوال قول الحسين: «وأني لم أخرج أَشِرًا ولا بَطِرُا ولا مُفْسِدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جَدِّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين»[17].
وليس هناك أبلغ من هذا القول ولا أفصح منه لمعرفة حقيقة حركة الحسين وجوهر نهضته، ولا شك أن هذا القول يقلب صورة الفهم والانطباع الذي كوَّنه ابن خلدون، يعارضه ولا يوافقه، يُخطِّئه ولا يُصوِّبه، يفارقه ولا يُؤالفه، وكل فهم أو انطباع لا يرجع لهذا القول ولا يستند إليه لا يكون إلَّا فهمًا وانطباعًا ناقصًا أو خاطئًا، ولن يكون بالتأكيد ناضجًا أو مكتملًا، وما هذا إلَّا قولٌ من قائمة أقوال ونصوص عدة وثَّقتها كتب السيرة والتاريخ والحديث.
ثالثًا: يبدو أن ابن خلدون كان مُتحرِّجًا في إبداء وجهة نظره تجاه الحسين من جهة، وتجاه يزيد من جهة أخرى، تجاه الحسين فهو لا يريد أن يصطفَّ إلى جانبه ويُصوب حركته ويُعرف عند الآخرين وفي وسطه بهذا الموقف، كما أنه لا يريد أن يذمَّ الحسين ويُضلِل حركته ويُعرف بهذا الموقف كذلك، فقد غلَّط حركته لكنه حصر غلطه في أمر دنيوي لا يضر الغلط فيه حسب قوله، وفي الوقت نفسه امتدحه قائلًا عنه: ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته، وعدَّه شهيدًا مُثابًا، لكنه لم يسهب في الدفاع عنه كما قال الدكتور الوردي.
أما بشأن يزيد فقد ذمَّه ابن خلدون من جهة فسقه فقط، لكنه لا يرى جواز الخروج عليه، متبنِّيًا ومتحصِّنًا بموقف نفر من الصحابة ومن التابعين لهم الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق، شارحًا موقفهم بعدم جواز الخروج على يزيد وإن كان فاسقًا لما ينشأ عنه من الهرج والدماء، كما أنه لا يريد أن يصطفَّ إلى جانب يزيد ويُصوِب فعلته في قتل الحسين.
والأظهر أن ابن خلدون كان مع الحسين في أهليَّته لكنه ليس معه في شوكته، ومع يزيد في شوكته وليس معه في أهليَّته، فما كان ابن خلدون يريد أن يصطفَّ إلى جانب الحسين ويُصوِّب حركته، ولا أن يصطفَّ إلى جانب يزيد ويُصوِّب فعلته فهي عنده من فعلاته المؤكِّدة لفسقه، والحسين فيها شهيد مُثاب، وهو على حق واجتهاد.
ولم يكتفِ ابن خلدون بهذا القدر من الكلام الذي يظهر فيه قربًا من الحسين، فسرعان ما خفَّف منه مُعقِّبًا عليه بقوله: «والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضًا واجتهاد».
رابعًا: حاول ابن خلدون النظر لقضية الحسين من زاوية الغلط والاجتهاد، مُتَّخذًا من كلمة الغلط نموذجًا تفسيريًّا، وبيانًا لحكمه التقويمي، فهي الكلمة التي فضَّلها وظل يُكرِّرها ويرجع لها في سياق بيان حكمه التقويمي تجاه المواقف الحاصلة القولية والفعلية التي تباعدت بين أطراف القضية وتفارقت، وكان قاصدًا -وبعناية شديدة- اختيار هذه الكلمة، ومفضِّلًا لها لتكون كاشفة عن حقيقة موقفه في هذا الشأن.
وقد تتبَّعتُ استعمالات هذه الكلمة، فوجدت أنها جاءت بوصفها حكمًا تقويميًّا في خمس حالات، مثَلت جميع مفاصل القضية، وبحسب تتابعها في الاستعمال هي:
الحالة الأولى: عند حديثه عن خروج الحسين على يزيد، رأى ابن خلدون أن الحسين ظن في نفسه الأهلية والشوكة، وقد غلَّطه من جهة الشوكة قائلًا: «وأما الشوكة فغلط -يرحمه الله- فيها».
الحالة الثانية: عند حديثه عن التفريق بين الأمر الدنيوي والحكم الشرعي، رأى ابن خلدون أن الحسين قد غلط في أمر دنيوي ولم يغلط في الحكم الشرعي، وحسب قوله: «فقد تبيَّن لك غلط الحسين، إلَّا أنه في أمر دنيوي لا يضر الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه».
الحالة الثالثة: عند حديثه عن موقف نفر من الصحابة الذين لم يتابعوا الحسين في الخروج على يزيد ولا أنكروا عليه، رأى ابن خلدون عدم جواز تأثيم هؤلاء بناء على تغليطهم للحسين وحسب قوله: «ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره».
الحالة الرابعة: عند حديثه عن اجتهاد الحسين في الخروج على يزيد، فكونه اجتهادًا لا يعني -في نظر ابن خلدون- تصويب قتله، وحسب قوله: «وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد، وإن كان هو على اجتهاد».
الحالة الخامسة: عند حديثه عن موقف القاضي أبي بكر بن العربي من خروج الحسين، غلَّط ابن خلدون هذا الموقف قائلًا: «وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سمَّاه بالعواصم والقواصم ما معناه: إن الحسين قُتل بشرع جَدِّه، وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل».
دلَّت هذه الحالات الخمس على تعدُّد صورها، أن قضية الحسين -في نظر ابن خلدون- إنما تدور في دائرة الغلط، وتتحدَّد بهذا الحكم وتتقيَّد به تفسيرًا وتقويمًا، وليس هناك ما هو أسهل من هذا الموقف ولا أبسط منه.
ومن ناحية الموازين العلمية والأخلاقية يُعَدُّ هذا الموقف موقفًا خفيفًا ومخفَّفًا، باعتبار أن الغلط أمر عادي، يحصل من الإنسان عادة، ويجري مجرى العادات اليومية، ويألفه الناس في حياتهم العامة، ولسان حالهم أن الغلط فعل يصدر من جميع البشر في جميع الأمكنة وجميع الأزمنة وبين الملل والنحل كافة.
وحقيقة الحال أن قضية الحسين ليست كذلك على الإطلاق، فهي لا تدور مدار الغلط والاجتهاد، وإنما تدور فعلًا وحقيقة مدار الحق والباطل، العدل والظلم، العزة والذلة، الحرية والعبودية، وهذا ما كشفه الحسين في أقواله ونصوصه العظيمة والخالدة.
فمن جهة مدار الحق والباطل، رُوي عن الحسين قوله: «ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، لِيَرْغَبِ المؤمن في لقاء الله مُحِقًّا»[18].
ومن جهة مدار العدل والظلم، رُوي عنه قوله: «أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحِلًّا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيِّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله»[19].
ومن جهة مدار العزة والذلة، رُوي عنه قوله: «ألا وإن الدَّعي ابن الدَّعي قد رَكَزَ بين اثنتين بين السِّلة والذِّلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميَّة، ونفوس أبيَّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»[20].
ومن جهة مدار الحرية والعبودية، رُوي عنه قوله: «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد»[21]، ورُوي عنه قوله: «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارًا في دنياكم»[22].
لا شك أن هذه الأقوال والنصوص تقلب صورة الموقف، وتُقدِّم منظورًا لحركة الحسين ونهضته يتفارق كثيرًا ويتباعد عن منظور ابن خلدون، ويكشف كيف أن ابن خلدون قدَّم فهمًا وانطباعًا منقوصًا ومعكوسًا لا يُجاري الحق ولا يطابق الحقيقة.
خامسًا: تقصَّد ابن خلدون الإشارة إلى الصحابة لكي يمُايز بين موقفهم وموقف الحسين، في محاولة منه لإظهار أن الصحابة ما كانوا مع الحسين في موقفه من الخروج على يزيد، وظلَّ يُصوِر أن أكثر الصحابة كانوا مع يزيد، فحين أشار لموقف هؤلاء مدافعًا عنهم، رافضًا التقوُّل بتأثيمهم لمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره، عقَّب قائلًا: «فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه»[23].
هذا الإيهام من ابن خلدون أقل ما يُقال عنه أنه ليس دقيقًا ولا علميًّا ولا موضوعيًّا، ولا يخلو من التضليل المتعمَّد أو غير المتعمَّد، ويُخفي ميلًا إن لم يكن تجاه يزيد فتجاه الحكم الأموي.
وحقيقة الحال أن الصحابة بهذا العنوان، لا يمكن القول عنهم: إنهم كانوا مع يزيد حتى لو كان بعضهم معه؛ لأن بعضًا آخر كان مع الحسين قاتل واستشهد معه مثل: حبيب بن مظاهر الأسدي، وأنس بن الحارث الكاهلي، ومسلم بن عوسجة الأسدي وغيرهم، وبعضًا آخر كان مع الحسين قبل المعركة وبعدها مثل: جابر بن عبدالله الأنصاري، وسليمان بن صرد الخزاعي، وعبدالله بن عفيف الأزدي وغيرهم، إلى جانب آخرين ما كانوا مع يزيد قطعًا، بعضهم في المدينة، وبعضهم في مكة، وبعضهم في أصقاع أخرى، الأمر الذي يعني أن تعويم موقف الصحابة بالطريقة التي أشار إليها ابن خلدون لم يكن سليمًا لا من الناحية العلمية، ولا من الناحية الموضوعية، ولا حتى من الناحية الأخلاقية.
هذه محاولة لدراسة وتحليل رؤية ابن خلدون تجاه حركة الحسين ونهضته، ولعلَّها الأولى حتى هذه اللحظة بهذا القدر من الاتساع الكمي، فعند البحث لم أجد مادة مستقلة على صورة مقالة أو دراسة تناولت هذه القضية، وما وجدته كان مجرَّد فقرات صغيرة على طريقة الفقرة التي خصَّصها الدكتور علي الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون)، وجاءت بعنوان (ابن خلدون والحسين).
وخلاصة القول أن ابن خلدون لم يكن علميًّا ولا موضوعيًّا ولا عادلًا في موقفه تجاه حركة الحسين ونهضته.