الاجتماع الإسلامي المعاصر وحاجته إلى عاشوراء
محمد محفوظ
2019-09-03 05:00
مفتتح:
كثيرة هي المعارك والثورات والنهضات، التي اندثر تأثيرها مع الزمن، إلا معركة وثورة ونهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أن الزمن يزيد من إشراقها وضيائها.. ففي كل عام يجدد المؤمنون إحياء هذه النهضة، ويستلهم الملايين منها الدروس والعبر.. والذي يتابع حرارة إحياء هذه المناسبة العظيمة، يدرك بعمق أن الزمن وتداعياته، لم يمنع الناس من إحياء هذه المناسبة. فكل المعارك تصغر مع الزمن إلا معركة الإمام الحسين (عليه السلام)، فإن الزمن يزيد من عظمتها، ويجلي حقائقها وأهدافها وغاياتها النبيلة. وكل الثورات تأفل بأفول القائمين بها، إلا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، فإن القائمين بها، يزدادون عظمة وإشراقا وتأثيرا.. وكل النهضات تتراجع أهدافها وأولوياتها وغاياتها مع الزمن، إلا نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) فإن الزمن يؤكد أهدافها، وتبقى أولويات الإصلاح والحرية والكرامة هي الشاخصة والسائدة..
فثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وعبر الحقب الزمنية المتطاولة، هي أم الثورات ومنطلق النهضات ونموذج المعارك الخالدة. والإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه وأنصاره، هم قدوة الثائرين، وأسوة المنعتقين من كل الأغلال من أجل العزة والكرامة.. فهم الهداة إلى الحرية في زمن انعدامها وغيابها، وهم أئمة الكرامة في كل زمن تمتهن فيه كرامة الإنسان وتسحق مقدساته، وهم المثل الأعلى في التضحية والعطاء في كل زمن يبخل الناس عن العطاء والتضحية.. فثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي مستودع القيم والمبادئ الإسلامية، كما أنها اللحظة التاريخية التي أثبتت بشكل لا لبس فيه أن الدم ينتصر على السيف، وأن الظلم مهما تمادى واستفحل فهو إلى زوال..
أضواء على الإمام الحسين (عليه السلام):
عاش الإمام الحسين (عليه السلام) ثمانية وخمسين عاما، توزعت بالطريقة التالية: ثماني سنوات في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة، ثلاثون عاما عاشها مع أبيه (عليه السلام) في المدينة المنورة والكوفة، عشر سنوات عاشها مع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) في المدينة المنورة، ما يقارب العشر سنوات عقب استشهاد الإمام الحسن تسلم خلالها إمامة الأمة. قضى منها تسع سنين ونصف في المدينة والستة الأشهر الأخيرة من مسيرته، قضى أربعة منها في مكة بجوار بيت الله، والشهران المتبقيان تصرما بين المدينة ومكة والقسم الأعظم منها كان مسير مكة والكوفة وكربلاء، ثم توقف في كربلاء ثمانية أيام ليستشهد بعدها ظهيرة عاشوراء سنة(61) هـ.
والمكتبة الإسلامية اليوم، تضم ما يقارب 4956 كتابا ومقالا عن الإمام الحسين (عليه السلام) على حسب ما استقصاه الشيخ عبد الجبار الرفاعي في موسوعته المسماة «معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت».
أضواء على كربلاء:
1- ذكرت المصادر على أن عدد القتلى في جيش عمر بن سعد بلغ(88) شخصا، إلا الشيخ مهدي الحائري المازندراني، صاحب معالي السبطين، فإنه أوصل عدد القتلى إلى(150 ألفا). وعدد شهداء عاشوراء يتراوح في المصادر بين(73) شهيدا أو(107) من الشهداء، وعلى أكثر الأقوال(233) شهيد.
2- عدد أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) حال نزوله كربلاء، 69 رجلا وارتفع العدد بانضمام 20 رجلا من جيش عمر بن سعد، فبلغ المجموع 89 رجلا. وفي كتاب بحار الأنوار وصل عدد أصحاب الحسين (عليه السلام) إلى ألف راكب ومائة راجل.
3- عدد الجروح التي أصيب بها الإمام الحسين (عليه السلام) تراوحت في كتب التاريخ والسيرة من 63 إلى120 و 320 إلى 1900 جرحا، وأوصل البعض عدد الجراحات إلى 4180 جرحا.
4- تعددت روايات المؤرخين، حول عدد الجيش الأموي في معركة كربلاء. وجاء في الكتب أن عدد الجيش الأموي كالتالي:
ألف مقاتل كما جاء في تذكرة الخواص، أربعة آلاف في تاريخ اليعقوبي، وستة آلاف في مناقب آل النبي، وثمانية آلاف في مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، واثنا عشر ألفا في الدر النظيم، وعشرون ألفا في الصواعق المحرقة، واثنان وعشرون ألفا في شذرات الذهب، وثلاثون ألفا في عمدة الطالب. ووصل العدد في بعض الكتب إلى مائة ألف. ويذهب المتتبعون المعاصرون إلى أن الأقرب للصحة هو أن عدد الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء هو ثلاثون ألفا. ويستندون إلى رواية مذكورة في آمالي الصدوق عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: (ولا يوم كيوم الحسين (عليه السلام) ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة! كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه!! وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا...) (1).
قيمة عاشوراء:
وقيمة يوم عاشوراء، هو أنه اليوم الذي تجلت فيه كل القيم والمبادئ، حيث برزت فيه قداسة الحق وشرف التضحية وخلود العطاء الذي بذله الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه. وقد لا نجد في تاريخ الإنسانية كلها، يوم تجلت فيه كل قيم الخير والعطاء والتضحية من جهة الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه، ومن جهة أخرى تجلت العنجهية بأبشع صورها والأنانية بكل مخزونها المقيت من جهة الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد. فهو اليوم – القضية – الذي تجسدت فيه عناوين المعركة الإنسانية عبر تاريخها المديد. [إنه يوم لم يعرف المسلمون بعد، حقه عليهم، ولا واجبهم تلقاءه. وإن الأقدار لم تدع رؤوس أبناء الرسول تحمل على أسنة رماح قاتلهم، إلا لتكون (مشاعل) على طريق الأبد للمسلمين خاصة، وللبشرية الراشدة كافة، يتعلمون في ضوئها الباهر: أن الحق وحده هو المقدس. وأن التضحية وحدها هي الشرف. وأن الولاء المطلق للحق، والتضحية العادلة في سبيله: هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان وللحياة قيمة ومعنى] (2).
وعليه فإن من أراد الهدى، يجده في عاشوراء، ومن يتطلع إلى العزة يجدها مجسدة في كربلاء، ومن يبحث عن التضحية يكشف أجلى صورها في كربلاء الحسين(عليه السلام).
واللحظة العاشورائية، ليست وليدة الصدفة، وإنما هي الجواب الرسالي، على عمليات التضليل والهيمنة والاستبداد التي تنخر في جسم الأمة آنذاك، وتستهدف تزييف وعيها، وإخراجها من مقتضيات قيمها ورشدها. والإمام الحسين (عليه السلام) لم يخرج من أجل مكاسب آنية، وإنما خرج لتقويم الاعوجاج ورفع الغطاء عن كل القوى والفعاليات التي تعيث فسادا في جسم الأمة على أكثر من صعيد.
فالإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء واجه:
الزيف والتضليل، وأبان أصالة القيم الإسلامية.
وواجه الاستئثار والاستفراد والاستبداد، بعطائه اللامحدود وتضحياته الكبرى والنموذجية.
وواجه الخوف والصمت والهروب من تحمل المسؤولية بصرخات العزة ومناقبيات العظماء.
فأعاد للأمة جمعاء عزها ورشدها وعنفوانها الأصيل.
فكان الإمام الحسين (عليه السلام) تجسيدا صريحا لوصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إليه وإلى أخيه الإمام الحسن(عليه السلام) حين قال لهما [أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، افعلا الخير، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا] (3).
فقيمة عاشوراء تتجلى في أنها اللحظة التي تم الانتصار فيها للقيم والمبادئ الإسلامية والإنسانية، والوقوف بصلابة ضد كل الانحرافات والسلوكيات المسيئة للإسلام والأمة في الحكم والسياسة.
و[لقد واجه الإمام الحسين (عليه السلام) وضعا استثنائيا مترديا في الأمة حيث انقلب كل شيء رأسا على عقب، فإذا بالمنابر قد تحولت من وسائل للإرشاد والهداية، إلى وسائل للسب والشتم واللعن، وإذا بالسيوف التي شهرها الإسلام في وجه الكفر، تنقلب لمواجهة أهل البيت عليهم السلام، وإذا بالزكاة التي فرضت لتطهير النفوس وتزكيتها تصرف في شراء الضمائر. كما أن الحاكمين الذين أخذت البيعة لهم عن طريق الإكراه، أو عن طريق الترغيب، كانوا يحكمون باسم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن هنا فإن معركة الإمام الحسين (عليه السلام) تحظى بالأهمية القصوى، تماما كما إن لمعركة الإمام علي (عليه السلام)، ومعركة النبي (صلى الله عليه وآله) أهميتهما القصوى أيضا.
ذلك لأن الانتصار النهائي للدين، ليس في أن يصبح باسمه حاكمون على وجه الأرض، وإنما الانتصار الحقيقي، أن تكون الحاكمية الفعلية للقيم، والمبادئ التي ينادي بها الدين، فما دامت المبادئ والقيم تتعرض للتحريف والتزييف. فلا قيمة للشعارات، ولا قيمة للإطارات.
والإسلام يجعل المقياس النهائي، هو الإيمان والعمل الصالح، وليس مجرد الشعار.
ومن هنا فإن انتصاره النهائي، هو انتصار قيمه ومبادئه ومحتواه، وهذا ما كان مفقودا في الظروف التي ثار فيها الإمام الحسين (عليه السلام)] (4).
و[إن الحسين (عليه السلام) كجسد قتل قبل أكثر من ألف عام، ولكنه كمبدأ، وكقضية، وكرسالة، موجود في كل عصر، وفي كل زمان. وثورته لا شك هي ثورة الإنسان، كما أراده الله، وثورة الإسلام كما أنزله الله] (5).
فحينما يتمسك الإنسان بقيمه، ويحمل مشعل قضيته المقدسة والمشروعة، تتضاءل كل الصعوبات، ويزداد إصرار الإنسان بإرادته، على القبض على أهدافه وغاياته النبيلة. ألم يقل على الأكبر لأبيه حينما سمعه {يسترجع}: يا أبه ! أولسنا على الحق؟ قال: بلى، والذي بيده أرواح العباد. قال: إذن لا نبالي، أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا] (6).
هكذا تكون التضحيات، وبهذه النماذج تتحقق الانتصارات في كل زمان ومكان.
وحينما يكون الجهاد من أجل رفع راية الإصلاح في الأمة، وتحقيق عزتها، يكون الموت أحلى من العسل. ألم يقل الإمام الحسين (عليه السلام) [إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين لا برما] (7).
ويعلمنا التاريخ [إن كل الذين تقاعسوا عن نصرة الحق، وكل الذين برأوا الجلاد، وأدانوا الضحية وقعوا في قبضة الجلاد نفسه وصاروا طعمة لسيفه.
فاللذين تخاذلوا عن نصرة مسلم بن عقيل في الكوفة، وتركوا لابن زياد فرصة القضاء عليه، هؤلاء قتلوا فيما بعد بسيف ابن زياد نفسه] (8).
فالمهم أبدا ودائما هو الكفاح الإنساني المتواصل، من أجل طرد كل العناصر المسيئة إلى العدالة والحرية والمساواة الإنسانية.
وإن قداسة عاشوراء في ضمير الأمة، هي من قداسة الإمام الحسين (عليه السلام) والقيم التي رفعها ودافع عنها، وضحى من أجلها. فـ [قداسة الإمام الحسين (عليه السلام) المثل الأعلى في ضمير ووجدان الأمة هي التي أسبغت على عاشوراء كل هذه القداسة وهذه الرمزية في الزمان. فكان (كل يوم عاشوراء)، وهي التي نشرت كربلاء على كل الأرض عنوانا لميدان انتصار دم الحق على سيف الباطل، فكانت (كل أرض كربلاء). فبه عليه السلام صارت فاجعة عاشوراء (مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض)* ولولاه عليه السلام لكانت واقعة الطف بكل ما غصت به من فجائع أليمة مأساة يذكرها الذاكر فيأسف لها كما يأسف لكثير من وقائع التاريخ الأليمة الأخرى المقيدة بحدود الزمان والمكان] (9).
فقيمة عاشوراء من قيمة سيد الشهداء، وتضحياته هو وأهل بيته وأنصاره الميامين، ومن الآثار الكبرى التي تركتها هذه الثورة في مسيرة الأمة في أبعاد الزمن الثلاثة. [لهذا كشفت عاشوراء عن وحدة وجودية لا انفكاك لها بين الإسلام المحمدي الخالص وبين الحسين (عليه السلام)، فصارت الدعوة إلى الإسلام بعد عاشوراء هي عين الدعوة إلى الحسين عليه السلام، وبالعكس، وصارت مواجهة الحسين (عليه السلام) ومعاداته بعد عاشوراء هي عين مواجهة هذا الإسلام ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسين (عليه السلام). فالإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء] (10). لذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام) [يا ابن شبيب، إن سرك أن تلقي الله عز وجل ولا ذنب عليك فزر الحسين (عليه السلام)، يا ابن شبيب، إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (صلى الله عليه وآله)
فالعن قتلة الحسين، يا ابن شبيب، إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين (عليه السلام) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما] (11).
لماذا عاشوراء:
إن سفر الحياة المفتوح، يعلمنا أن البطولات والتضحيات الإنسانية النبيلة، والتي تتجسد بكل معانيها ومستوياتها في كربلاء الحسين (عليه السلام)، هي عنوان الحضور والشهود، وهي صناعة للتاريخ وفق مقاييس القيم ومتطلبات المثل العليا. فالإمام الحسين (عليه السلام) بتضحياته وفعله الاستشهادي في سبيل الله والإصلاح في أمة المسلمين، قد كرس خطا جهاديا في مسيرة الأمة ضد كل مظاهر الزيغ والانحراف والخروج من ضوابط القيم ومتطلبات الاعتقاد الديني. فالحسين (عليه السلام) ضرورة لكل العصور، لما يجسده من قيم ومبادئ ومثل إسلامية عليا.
وعاشوراء الفداء التي سطر مفرداتها ثلة من المؤمنين المخلصين، هي التي أمسكت دفة التاريخ، وتحكمت بشكل أو بآخر في مسار العديد من ظواهر التاريخ الإسلامي بعد معركة الطف.
فعاشوراء مناسبة تاريخية مستمرة، لاستيعاب دروس التضحية والفداء، وهذا الاستيعاب يتم وفق النظرة العميقة والمنهج الدقيق والقصد الشريف. ولا نعدو الصواب حين القول: أنه ليست هناك مناسبة تاريخية في الدائرة الإسلامية، استطاعت أن تثير الوعي والضمير، والفكر والوجدان باتجاه الخير بكل صوره وأشكاله، بمثل مناسبة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين بن علي عليهما السلام. ففي هذه المناسبة تنمو نوازع الخير وتخبو نوازع الشر والطغيان. وكل ذلك بفعل الزخم العاطفي والتربوي الذي تحدثه هذه المناسبة العظيمة في نفوس أبناء مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
لذلك فإن الاحتفاء بعاشوراء والاستمرار في إحياء ذكرى الطف وأهوالها، ليس من أجل الانحباس في التاريخ، وإنما من أجل أن تأخذ القيم التي نهض من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام) طريقها في راهننا، وتتبوأ موقعها في حياتنا المعاصرة. فعاشوراء وفق هذا المنظور ضرورة راهنة، لأنها مناسبة تاريخية تدفع المجتمع بكل أطيافه وطبقاته وشرائحه إلى التفاعل مع قيم الفداء والتضحية والنبل والوفاء، وما أحوجنا اليوم إلى تلك القيم، التي تغرس في محيطنا الاجتماعي كل موجبات الانعتاق والتحرر من كل رواسب الجاهلية.
فعاشوراء طريقنا لتربية الأجيال وفق قيم الإسلام الخالدة، وسبيلنا إلى تذليل كل العقبات التي تحول دون التفاعل الاجتماعي المطلوب مع تلك القيم والمبادئ.
وملحمة كربلاء تحولت إلى رمز وأنموذج للنهضة الأصيلة، التي جمعت في واقعها وعناصرها وعواملها كل شروط الإسلام، ودروس الرسالات السماوية عبر التاريخ.
" وكربلاء ليست مدرسة للبطولة الثورية فقط، وإنما هي أيضا، مدرسة لبطولة الإنسان حينما يخرج من ذاته، من شح نفسه، من حدوده الضيقة، ليملأ الدنيا شجاعة وبطولة. كربلاء مدرسة الوفاء، مدرسة التبتل والضراع، مدرسة الحب والتضحية، مدرسة العلم والتقوى، بالإضافة إلى أنها مدرسة الجهاد والاستشهاد " (12).
وبالتالي فإن ملحمة كربلاء تحولت إلى مسيرة عبر التاريخ، واحتفاؤنا بهذه الذكرى الأليمة، هو في جوهره تعظيم لكل إنسان مسلم يضحي في سبيل دينه وأمته، وإلى كل مجتمع يقف ضد كل أشكال الزيغ والزيف، وتكريم لكل دم أريق في سبيل الإصلاح والحرية والكرامة. من هنا فإن [كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء].
"وبكاؤنا ليس وسيلة للعجز، وحزننا ليس يأسا وأداءا للانطواء، إنما هو أمل يفتح لنا الطريق واسعا، ويسد أمامنا أبواب الخزي والتخاذل والغرور والخداع الذاتي. وتجديدنا لذكرى الشهداء ليس طريقا للتعويض بهم عن شهادتنا وعن تضحياتنا. إن بكاءنا تنديد بالظلم، وعويلنا وصراخنا، إنما هو صراخ الضمير الحر والحي النابض في وجدان أمتنا، وصراخ النفس الأبية ضد العبودية والطغيان. وبالتالي هو وسيلتنا للتعبير عن سخطنا واعتراضنا المغلف بالحزن والأسى على الفساد المنتشر في أنحاء الأرض. وتكريمنا للشهداء معراجنا إلى ذلك المستوى الأسمى الذي بلغه هؤلاء الأبرار " (13).
فعاشوراء مدرسة تربوية متكاملة، نتعلم منها كيف ننتصر على ذواتنا ونصل إلى مستوى الصديقين، وكيف نخرج من جمودنا وسباتنا من أجل الحق والحرية، وكيف نتحمل كل المكابدات والصعوبات في سبيل الأهداف المقدسة والمشروعة، وكيف نضحي بأعز ما نملك من أجل تحرير الآخرين من ربقة الذل والعبودية. إنها مدرسة انتصار الدم على السيف، ومدرسة الاستغفار والتوبة والقرب إلى الله سبحانه وتعالى عبر الصلاة والدعاء وتلاوة الذكر الحكيم وفعل الصالحات.
فعاشوراء نور عبر التاريخ، ينير لنا دروبنا، وتبلور تطلعاتنا، ونبراسا مضيئا لكل حياتنا. وبفعل التراكم التاريخي، تحولت منابر عاشوراء، إلى وسائل للدعوة والهداية والإرشاد، وتعميق مفاهيم الدين الحنيف في المحيط الاجتماعي، وزيادة منسوب الوعي الديني والحياتي. فعاشوراء مدرسة متكاملة، تغذي العقل والروح، وتشحذ العاطفة والوجدان، وتوصل التاريخ بالراهن، وتطهر الضمائر من رواسب الزيغ والتحريف والتبرير، وتبلور للإنسان الموقف والموقع المناسب من معارك الوجود. فحينما ينادي الإمام الحسين (عليه السلام) في أرض المعركة [والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد]. أو قوله (عليه السلام) [إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله...]. أو قوله (عليه السلام) [ألا وإن هؤلاء قد تركوا طاعة الرحمن، وأطاعوا الشيطان، واتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا...] (14). فإنه (عليه السلام) يرسم نهجا لكل المؤمنين والأحرار، بأن الحرية لا توهب أو تعطى، وإنما هي تؤخذ وتكتسب بالجهاد والتضحية والفداء. فلا حرية حقيقية بدون جهاد وتضحية. وعاشوراء الحسين (عليه السلام) تعمق هذه العلاقة السببية بين التضحية والحرية، بين الإصلاح والعمل والكسب الإنساني، بين الظاهر والباطن، بين اللسان والقلب، بين القول والفعل. فالقيم الإسلامية منظومة متكاملة، تتعاطى مع كل العناصر والدوائر.
وهكذا تعلمنا عاشوراء، إننا بإمكاننا أن نتحول من التبرير إلى المسؤولية، ومن الجمود إلى الحركة، ومن الخضوع إلى المقاومة، ومن الانتظار السلبي إلى الفعل الإيجابي، ومن التواكل إلى التوكل، ومن ليس بالإمكان أفضل مما كان، إلى اجتراح الفرادة الذاتية والإبداع.
وعلى المستوى التاريخي والواقعي، تماهت قيم العزة والكرامة والحرية مع السبط الشهيد. فالمطلوب أن نكون حسينيين في عزتنا وكرامتنا، كربلائيين في حريتنا وعنفواننا. ولهذا فإن الحسين (عليه السلام) تحول من فرد إلى قضية ومشروع، ومن شخص إلى منهج، يجيب على كل التساؤلات والاستفهامات التي تعترض طريق المصلحين عبر العصور. لهذا فإن [الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة] (15). لذلك نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) أعلن لأصحابه مساره، وإلى أين يتجه، فلم يضلل أحدا، أو يمني أحدا بجاه أو منصب، وإنما أعلن الخروج على يزيد بن معاوية لانحرافه واستهتاره بقيم الدين والشريعة المقدسة.
ففي مكة وقبيل مغادرتها باتجاه الكوفة، قام السبط (عليه السلام) خطيبا وقال [الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقربهم عينه، وينجز بهم وعده.. ألا ومن كان باذلا فينا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى (16).
فالهجرة من مكة لم تكن هروبا، وإنما استجابة لدعوة المسلمين وتحملا للمسؤولية، وحملا للأمانة المقدسة. فالحسين (عليه السلام) باستشهاده أيقظ ضمائر الناس، وعاشوراء لا زالت تمارس هذا الدور على مر العصور.
فالاحتفاء بعاشوراء واستدرار الدموع على أبي عبدالله (عليه السلام) وأنصاره الكرام، هو احتفاء بالضمير الحي وبالوعي الديني الذي يقف ضد كل أشكال الخروج من ربقة الدين، وهو احتفاء بذلك الإنسان البطل الذي تخلى عن كل شيء من أجل الدفاع عن دينه ومبادئه المقدسة. [ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا] (17). فمن عاشوراء يتم استلهام دروس التصدي والتحدي والاستقامة، ومن ذكراها العطرة ومدرستها الجهادية يتم خروج الأبطال والمضحين بكل ما يملكون في سبيل دينهم وأمتهم.
فعاشوراء مدرسة للالتزام وتعميق عناصر الإيمان في النفس والسلوك، وهي منبر إعلامي عبر التاريخ لفضح الظالمين، وتعرية المتخاذلين والمستسلمين، وبلورة الموقف الرسالي من أحداث الواقع.
وفي خضم التحديات الكبرى التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى مدرسة عاشوراء، وقيمها ومبادئها، لأنها هي التي تبلور لنا معاني العزة والكرامة. وذلك لأن الإنسان الذي ينتصر على ذاته، وعلى ما فيها من تردد وازدواجية وعجز، ويتغلب على الرهبة من الحياة، يكتشف ما أودع الله عز وجل في كيانه من كنوز، من العقل والإرادة والضمير النابض. إن هذا الإنسان هو القادر على تغيير المعادلات، ومواجهة التحديات، واجتراح الانتصارات والمكاسب.
حاجتنا إلى عاشوراء:
عديدة هي المشاكل والأزمات والتوترات، التي يعيشها الاجتماع الإسلامي المعاصر. ولا علاج ناجع لهذه إلا بتوفر إرادة مجتمعية، تتجه صوب تفكيك موجبات كل المظاهر السيئة والأزمات المتلاحقة التي يعيشها الاجتماع الإسلامي المعاصر.
وفي تقديرنا أن قيم عاشوراء، هي روافع الأمة اليوم، للخروج من هذه الأزمات والمشاكل. فحاجتنا إلى عاشوراء، تنبع من حاجتنا إلى قيم النهوض والانعتاق من آسار وربقة كل الأزمات والتوترات التي نعانيها على أكثر من صعيد ومستوى. ولا شك أن حاجتنا ماسة اليوم، لاستلهام الثالوث القيمي التالي من مدرسة كربلاء وأحداث الطف الأليمة:
1- الكرامة الإنسانية:
فعاشوراء الحسين (عليه السلام) تربطنا ارتباطا جوهريا بقيمة الكرامة. وتعلمنا أن الإنسان أو المجتمع الذي تمتهن كرامته وتهدر حقوقه الإنسانية، عليه العمل والسعي والجهاد لإزالة الذل وصيانة الكرامة الإنسانية والمحافظة على حقوق الإنسان.
لذلك نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) يخاطب أعداءه قائلا لهم [والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد] (18).
فالإنسان المسلم ينبغي له أن لا يقف موقفا سلبيا لا أباليا تجاه أي طرف يمتهن كرامته ويدوس مقدساته وينتهك حقوقه، وإنما عليه اتخاذ الموقف الإيجابي الذي يتجسد في صناعة الوعي الذي يدفع الجميع إلى المطالبة بكرامتهم المسلوبة، والعمل بكل الطاقات والإمكانات لإعادة الحقوق المستلبة.
فعاشوراء الحسين (عليه السلام) ليست حبيسة الماضي، وإنما تطل على الإنسان المسلم بقيمها ومبادئها ومثلها وآفاقها ودروسها وجهادها ودمائها على حاضر الإنسان، لكي تدفع الراهن نحو التشبث بالكرامة الإنسانية حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس في سبيل صون الكرامة الإنسانية. وذلك لأن صون الكرامة الإنسانية، من أهداف الدين وغاياته العليا، التي ينبغي المحافظة عليها، وخلق الوقائع المجتمعية التي تحميها وتطور آفاقها في الواقع الاجتماعي. فقد قال الله تعالى [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا] (19).
كما أن مدرسة كربلاء تعلمنا أن صون الكرامة الإنسانية بكل متطلباتها وآفاقها، بحاجة إلى الدفاع المستميت عنها، والجهاد الدائم من أجل صونها، وغرس الوعي اللازم لممارستها. فحاجتنا إلى عاشوراء الحسين (عليه السلام)، تتجسد في حاجتنا إلى قيم الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان. فهي سبيلنا لتعلم هذه القيم، وغرسها في نفوس أبناء مجتمعنا، وعقد العزم على اعتبارها من أولويات وجودنا الإنساني، الذي ينبغي أن نعمل ونجاهد من أجل تحقيقها وصونها في واقعنا المعاصر.
لذلك نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم ترهبه الكثرة المدججة بالسلاح، ولم تهزمه الحشود البشرية التي تجمعت إلى قتاله، وإنما جميع هذه المظاهر زادته عزيمة على صون كرامته والدفاع عن مقدساته وقيمه العليا.
ما تعلمنا إياه مدرسة عاشوراء، أن صون الكرامة الإنسانية مطلب ديني وحضاري وإنساني، وينبغي أن ندافع عن هذه القيمة بكل ما نملك من إمكانات وطاقات. فالمطلوب دائما أن نشعر بعزتنا وكرامتنا، وندافع عنهما بالكلمة والوعي وخلق الوقائع المعبرة عن هذه القيم، والاستعداد الدائم بكل مستوياته للدفاع عنهما. فعاشوراء تعلمنا ضرورة أن نكون أكثر شفافية تجاه كرامتنا الإنسانية وعزتنا الدينية، حتى لا نسمح لأي طرف أن ينتقص من كرامتنا أو يذوّب جزءا من عزتنا.
والكرامة الإنسانية هي بوابة الحرية، إذ لا حرية لمن لا كرامة له. أي أن الكرامة الإنسانية هي التي تدفع الإنسان إلى دفع ثمن الحرية، وهي التي تجعله يدافع عنها ويحميها من كل المخاطر والشرور. لذلك نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) يؤكد على قيمة الكرامة والعزة، ويحث القوم إلى استعادتهما والانعتاق من ربقة الذل والمهانة. وذلك لأن الإنسان الذليل لا يستطيع أن يحافظ حتى على حقوقه الشخصية فضلا عن حقوق الأمة. وعاشوراء الحسين (عليه السلام) تغرس في نفوسنا جميعا الاستعداد التام للدفاع عن كرامتنا وعزتنا.
والأمة التي تمتهن كرامتها، ترتهن إرادتها. بمعنى أن الأمة التي تهان كرامة أبنائها، ويداس على قيمها ومبادئها، ولا تحرك ساكنا ولا ترفض الظلم والضيم، فإن هذا الامتهان هو البوابة الكبرى لدخول الأمة جمعاء في براثن التبعية والذيلية وارتهان إرادتها واستقلالها وقرارها لصالح العدو الحضاري للأمة. لذلك فإن الدفاع عن الكرامة، هو دفاع عن استقلال الأمة ومستقبلها. فامتهان الكرامة، يعني المزيد من الإخضاع والتركيع، والوقوف بوجه كل المحاولات التي تستهدف النيل من كرامة الأمة وعزتها، يعني الوقوف ضد كل من يحاول تحريف مسيرة الأمة وتزييف قناعاتها وسرقة جهودها وجهادها، والعمل الجاد ضد كل محاولات الارتهان والتبعية بكل صورهما وأشكالهما.
لذلك فإن امتهان كرامة إنسان، دون التصدي لعملية الامتهان والتحقير، يعني على المستوى العملي، انتقال هذا الامتهان إلى الجميع. وذلك لأنه من يجرؤ على امتهان كرامة إنسان، فإنه سيستمر في جرأته إذا لم يردعه رادع لتطال كل المجتمع والأمة. قال تعالى [من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون] (20).
2- الحرية:
الحرية في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفا وتشريعا.
والشرك العقدي أو السياسي، يعيق من انطلاقة مقولة وفكرة الحرية ويضيف لها أبعادا ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية.
لهذا فإن جميع المصلحين عبر حقب الزمن المتطاولة، ينادون بالحرية، ويعملون من أجل تجسيدها في الواقع الخارجي.
وإن الحرية كقيمة فردية ومجتمعية، بحاجة إلى من يدافع عنها، ويبشر ببركاتها.
والإمام الحسين (عليه السلام) حينما رأى الاستئثار والاستبداد وتكميم الأفواه وإفساد حياة المسلمين السياسية، وقف في وجه هذه الممارسات، معلنا بصوت صريح معارضته لتولي شؤون الأمة [يزيد بن معاوية] وهو الذي قال في حقه سيد الشهداء (عليه السلام) [أيها الأمير، إنا بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالبيعة والخلافة] (21).
وحينما تمادى الطغاة في فسادهم وانحرافهم، ضحى الإمام الحسين (عليه السلام) بكل ما يملك في سبيل حرية الأمة وصون مقدساتها وكرامتها.
وكما نعلم جميعا فإن الإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام. فلا حرية بدون عدالة في كل المستويات. لذلك فإن رفض الظلم بكل صوره ومستوياته، والوقوف بوجه الظالمين هو بوابة إنجاز مفهوم الحرية في واقع المسلمين.
من هنا ندرك طبيعة الحركة التي أقدم عليها سيد الشهداء، فهو رفض الظلم ووقف بوجه الظالمين، وضحى بكل ما يملك في سبيل رفع الظلم عن الأمة.
وتعلمنا عاشوراء أنه لا حرية بدون أحرار، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين. وإن كل حرية بلا أحرار، هي حرية شكلية، وأن كل ديمقراطية بدون ديمقراطيين هي شكلية أيضا.
وإن حجر الزاوية في مشروع الحرية، هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية، ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها.
لذلك نجد الإمام الحسين (عليه السلام) يصرخ في وجه أعدائه [يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون] (22).
فالحرية كممارسة، ليست خطابا يلقى، أو ادعاءا يدعى، وإنما التزام وتضحية وإرادة إنسانية صلبة تتجه نحو التمسك بالحرية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب الحرية، تتحقق بذات القدر حقائق الحرية. فحجر الزاوية في مشروع ممارسة الحرية، هو الإرادة الإنسانية. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى تربية وتأهيل وتدريب واستعداد نفسي تام للقيام بكل مقتضيات الحرية.
وعاشوراء الحسين (عليه السلام)، هي أحد المدارس الكبرى التي نتربى فيها على قيم الحرية ورفض الظلم ومقاومة الظالمين، وتحمل كل الصعاب في طريق إرساء قيم الحرية في واقع العرب والمسلمين.
وكما قال الإمام الصادق (عليه السلام) [إن الحر حر في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر استبدل بالعسر يسرا، كما كان يوسف الصديق الأمين، لم يضرر حريته إن استعبد وقهر وأسر] (23).
فالإنسان الحر هو الذي يقاوم كل المعادلات الظالمة، ولا يخضع لها، وهو الذي يعمل ويكافح ويجاهد من أجل بناء حقائق الحرية في فضاءه الثقافي والاجتماعي والسياسي.
ومن كربلاء أرض البطولات والتضحيات، نستلهم كل معاني الإباء والحرية. ومن عاشوراء ننطلق في سبيل الدفاع عن حريتنا وعدالتنا وكل حقوقنا المشروعة.
وكل الرايات التي حملت لواء الحرية، وطالبت بنبذ الظلم ومقاومة الظالمين، استلهمت قيم عاشوراء، واستندت إلى عنفوان كربلاء، وتمسكت بمعادلة أن الدم ينتصر على السيف. فروح الحرية حينما تسري في قلب وعقل الإنسان، فإنها تجعله طاقة خلاقة، قادرة على مواجهة كل الصعاب، ويمتلك الشجاعة المادية والمعنوية، للتعبير عن قناعاته ومواقفه والدفاع عنهما والتضحية من أجلهما.
فهذه الروح حينما سرت في قلب وعقل [قيس بن مسهر الصيداوي] إذ أمره سيد الشهداء أن يسير إلى مدينة الكوفة وهو يحمل كتابا مختوما من الإمام (عليه السلام).
إذ تقول كتب السيرة الحسينية [فمضى قيس إلى الكوفة، وعبيد الله بن زياد قد وضع المراصد والمسالح على الطرق، فليس أحد يقدر أن يجوز إلا فتش، فلما تقارب من الكوفة قيس بن مسهر لقيه عدو الله، يقال الحصين بن نمير السكوني، فلما نظر إليه قيس كأنه اتقى على نفسه، فأخرج الكتاب سريعا فمزقه عن آخره. فأمر الحصين أصحابه فأخذوا قيسا وأخذوا الكتاب ممزقا حتى أتوا به إلى عبيد الله بن زياد. فقال له عبيد الله بن زياد: من أنت !؟
قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن علي.
قال: فلم خرقت الكتاب الذي كان معك؟
قال: خوفا حتى لا تعلم ما فيه !
قال: وممن كان هذا الكتاب وإلى من كان !؟
فقال: كان من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم !
قال: فغضب ابن زياد غضبا، ثم قال: والله لا تفارقني أبدا أو تدلني على هؤلاء القوم الذين كتب إليهم هذا الكتاب أو تصعد المنبر فتسب الحسين وأباه وأخاه فتنجو من يدي أو لأقطعنك.
فقال قيس: أما هؤلاء القوم فلا أعرفهم، وأما لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإني أفعل.
فأمر به فأدخل المسجد الأعظم، ثم صعد المنبر، وجمع له الناس ليتجمعوا ويسمعوا اللعنة فلما علم قيس أن الناس قد اجتمعوا وثب قائما فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على محمد وآله، وأكثر الترحم على علي وولده، ثم لعن عبيد الله بن زياد ولعن أباه ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم ثم دعا الناس إلى نصرة الحسين بن علي.
فأخبر بذلك عبيد الله بن زياد، فأصعد على أعلى القصر، ثم رمي به رأسه فمات رحمه الله.(24).
فروح الحرية إذا سرت في قلب إنسان، فإنه يواجه كل المعادلات الظالمة، ويملك الاستعداد النفسي التام للتضحية والفداء من أجل مبادئه وقيمه العليا.
ووظيفة عاشوراء أنها تجدد عهدنا باستمرار بهذه القيم الخالدة، وتدفعنا عبر إحياء الشعائر الحسينية إلى تجسيد هذه القيم والانطلاق في رحاب العمل للدفاع عن قيمنا وحريتنا وكرامتنا.
3- الإصلاح:
إذ أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) ومنذ انطلاقته إلى كربلاء، إلى أنه لا يستهدف إلا الإصلاح في أمة جده، فهو كما يقول [لم أخرج أشرا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين] (25).
فحينما يسود الفساد السياسي، وتتعمق في الأمة ثقافة التضليل والتجهيل، ويستبعد الأخيار والمصلحين من المشاركة في الحياة العامة. حينذاك تزداد الكوابح المانعة للتطور والتقدم، وتتراكم عناصر التأخر والتخلف، وتبرز أهمية العمل لإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية. فليس مطلوبا من العلماء والفقهاء والمثقفين، التفرج على عملية الانهيار والتراجع السياسي والحضاري. وإنما المطلوب هو عقد العزم لبلورة مشروع إصلاحي، ينتشل واقع المجتمع والأمة من وهدة التخلف ودهاليز الانحطاط.
وهذا ما تعلمنا إياه عاشوراء. فالصمت والانزواء والهروب من مسؤوليات الراهن، ليس هو الخيار الأصيل الذي ينقذ الأمة ويخلصها من براثن الاستبداد والاستئثار.
كما أن الخوف من المواجهة، لاعتبارات خاصة أو ذاتية، لا يزيد الأمور إلا سوءا واستفحالا. ويبقى المطلوب هو تحمل المسؤولية والانخراط في مشروع الإصلاح ودعوة جميع الفعاليات والتعبيرات للمشاركة في خيار الإصلاح والدفاع عن رموزه وشخصياته، وتعميق هذا الخيار والمشروع ثقافيا واجتماعيا.
وحاجتنا إلى عاشوراء، تنطلق من حاجتنا الدائمة إلى إصلاح أوضاعنا، وتطوير واقعنا. ومهمتنا المعاصرة هي أن نحول عاشوراء إلى مناسبة مجتمعية وإنسانية لتعميق قيم الإصلاح والحريات الدينية والفعل الإصلاحي المتواصل الذي يتجه إلى طرد أسباب الانحراف وموجبات الخروج من الجادة.
وإن النهضة الحسينية كانت من أجل خلق أمة الإصلاح والكرامة والعدالة. فرفعت الراية ضد الظلم والانحراف لأنهما (الظلم والانحراف) يهددان كرامة الإنسان ومفهوم العدالة ويعرقلان مشروع الإصلاح الدائم في الأمة.
وعبر التاريخ الطويل، انشغل أئمة أهل البيت عليهم السلام وأنصارهم وأتباعهم للدفاع عن الإسلام والأمة وأهدافهما العليا، وقدموا في سبيل ذلك ولا زالوا الكثير من الشهداء والتضحيات من أجل إعلاء كلمة الحق وإرساء دعائم الحرية والعدل في المجتمع الإنساني.
ولا يمكن أن يحمل عبء الدعوة إلى الحق والكرامة من ألف الخضوع إلى الظلم والظالمين. فإنه لا يدعو إلى العزة إلا الأعزاء، ولا إلى الكرامة إلا الكرماء. وثورة عاشوراء جاءت من أجل صون الكرامات ووقف الانهيار الخطير الذي أصاب الأمة آنذاك على جميع الصعد والمستويات. فالطغاة دائما يسارعون في الذل والهوان وإماتة الهمة.
والإمام الحسين (عليه السلام) بثورته، حاول أن يبث روح العزة والكرامة وإسقاط كل مشاريع التخويف وألفة الخضوع للظالمين. ولولا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) التي أمدت الأمة عبر الأجيال بزخم الرفض للظلم والظالمين، لأرهق الأمة ذل الطاعة للطغاة. وحينما يلتزم الإنسان بقيم الكرامة والعزة والإباء، تتحول الوسائل المادية التي يمتلكها إلى وسائل فعالة وذات تأثير عظيم. كما أن الإنسان ضعيف الإيمان وخائر القوى والإرادة، وفاقد معنى البسالة والشجاعة، لا يستطيع أن يستفيد من كل إمكانات الدنيا. بل قد تكون نقمة عليه، وذلك لأنه لا يحسن التعامل معها.
فمربط الفرس في كل هذه الأمور، هو الإنسان نفسه. لذلك نجد أن ثورة عاشوراء، اتجهت إلى الإنسان ذاته، وحولته إلى طاقة خلاقة، وبفعل الإيمان العميق بقضية الإسلام والعزة والكرامة، تحولت إمكاناتهم المحدودة، إلى إمكانات ضخمة على مستوى التأثير والتداعيات. لذلك نجد وعبر هذه السنين المتطاولة، أن لكربلاء وهجها الدائم، ولعاشوراء منطقها الثابت، وللإمام الحسين (عليه السلام) سفينته وموكبه المتواصل، ولأصحابه الكرام تأثيرهم الخالد.
فالإنسان المؤمن بربه وقضيته، لا يخضع إلى المعادلات الظالمة، وإنما يسعى بكل إمكاناته وقدراته، إلى تغيير هذه المعادلات، وإرساء معالم جديدة قوامها العدالة والكرامة الإنسانية. فالإنسان هو القيمة الكبرى، التي جاءت جميع الأديان السماوية للحفاظ عليه وإسعاده وإبعاده عن كل ما يشينه أو يدخله في أتون الشقاء والمعصية. وعاشوراء الحسين (عليه السلام)، جاءت في هذا السياق، وقاومت الظالمين من أجل الحفاظ على كرامة الإنسان ومنع استلابها وتزييفها. فالفئة المؤمنة التي تحمل لواء الحق وتضع أرواحها على أكفها فداءا له، هي الفئة القادرة حتى ولو سفك دمها، إلى تعمير الأوطان بالسعادة والحرية، وهي التي تمنع الانهيار، وتبقي وهج العزة حيا ونابضا في قلب الإنسان فردا وجماعة. فالإنسان الذي يحمل الإيمان في قلبه ويملك الاستعداد التام للدفاع عنه بكل ما يملك، ولا يبحث في جهاده إلا عن تحقيق الحرية وصيانة الكرامة الإنسانية، فإنه يمتلك القدرة على التأثير في الحياة، أكثر مما تملكها الجيوش الجرارة والمعدات العسكرية المتطورة التي يقودها أو يعمل عليها من هو أسير نفسه وسجين أهواءه وغرائزه ونزواته الشيطانية.
فعاشوراء وملحمة الإمام الحسين (عليه السلام)، هي التي تبنت في النفوس فكرة البطولة والتضحية بأجلى صورها وأسماها نشدانا للعدالة ورفضا لمنطق الطغيان والاستبداد ودفاعا عن الكرامة الإنسانية.
وإننا نرى أن حاجتنا إلى عاشوراء، تتجسد في حاجتنا إلى قيم الكرامة والحرية والإصلاح. ونرى أن هذه القيم، هي القيم العليا التي وجهت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام). لذلك نهيب بخطبائنا الكرام دائما، أن يعمقوا هذه المفاهيم في نفوس المستمعين، وأن تكون موضوعاتهم ومحاضراتهم في سياق صيانة كرامتنا ونيل حريتنا والإصلاح في واقعنا المعاصر. وبهذه القيم تكون عاشوراء بحق ملحمة إنسانية وحضارية، تساهم بشكل دائم في تطوير الواقع الإنساني على مختلف الصعد والمستويات.
الخاتمة
(1)
المجتمعات الإنسانية جمعاء، بحاجة دائما إلى روافع روحية وثقافية وسياسية، لإزالة سيئات الواقع أو إصلاحه وتطويره..
وعاشوراء بما تحتضن من قيم ومبادئ وشعائر متعددة، هي من المواسم الدينية الهامة، التي تشكل رافعة روحية وثقافية واجتماعية وسياسية في آن..
ففي عاشوراء ولاعتبارات قيمية وموضوعية، تبرز نوازع الخير، وتتجه النفوس والعقول للمشاركة في الأنشطة الدينية والاجتماعية.. لذلك نستطيع القول وبدون مبالغة، أن موسم عاشوراء، هي من المواسم النموذجية للأنشطة الدينية والخيرية والتطوعية في المجتمع..
حيث تحتضن عاشوراء العديد من المناشط التي تتجه في كل عناصرها ومفرداتها إلى التالي:
1- نقد بعض المظاهر السيئة في الواقع الاجتماعي – الثقافي – السياسي، والعمل على تفكيك موجبات وحواضن هذه المظاهر..
2- بلورة المعالجات السليمة، التي تساهم في إخراج المجتمع من تداعيات تلك المظاهر السيئة..
ولذلك عمل الإعلام الأموي ومنذ معركة الطف، إلى تصوير معركة كربلاء بوصفها فعلا انشقاقيا في الأمة..
ولكن في حقيقتها هي الفعل التوحيدي المتميز الذي حافظ على قيم الدين بدون تزييف وتضليل، وحد من تغول السلطة الأموية على الأمة..
وهكذا الحركات الإصلاحية في الأمة، قد لا تصل إلى كل أهدافها وغاياتها، ولكن وجودها في الأمة ضرورة من أجل صيانة قيم الأمة، ومنع تغول السلطة أو الدولة وألتهامها لكل شيء..
(2)
عديدة هي مبررات ومسوغات الخروج على الظلم والجور، ولكن عمدة هذه المسوغات، هو أن الظلم والاستبداد يشرع لأبناء الأمة مقاومة هذا الظلم بالوسائل المتاحة..
ما قامت به السلطة الأموية عبر وعاظها ورموزها الدينية، هو حصر مبرر الخروج والمقاومة في الكفر البواح لذلك حدثت في الأمة المفارقة التالية [سلطة سياسية موغلة في الاستئثار والاستبداد والفساد، ولكن تغطي نفسها ببعض المظاهر الإسلامية الشكلية] فتبقى وفق هذا المنظور سلطة شرعية، لا يجوز مواجهتا ومقاومتها..
ما فعلته عاشوراء وهو أنها شرعت إمكانية الخروج على السلطة لفسادها واستبدادها السياسي، حتى ولو تجلببت ببعض شكليات الدين..
ولعل المأزق الحقيقي الذي تعانيه اليوم، العديد من الوجودات الإسلامية على صعيد الفقه السياسي هو هذا المأزق.. هل تبلور في إرثها وفقهها السياسي، خيار مقاومة الظالم لاستئثاره وفساده السياسي..
(3)
في كل مناطقنا الحضور الجماهيري في إحياء الشعائر الحسينية متميز وحيوي وحار، وما نحتاج إليه هو العمل على توظيف هذا الحضور في مشروعات ذات طابع مؤسسي وتنموي، يتجاوز في فائدته حدود اللحظة الزمانية القائمة.. لذلك نحن بحاجة إلى التفاكر الدائم حول بعض المشاريع الإسلامية والاجتماعية، التي يمكن أن نؤسسها انطلاقا من زخم عاشوراء وبركات الشهداء..
(4)
نحن في مجتمعاتنا لا نعيش وحدنا، وإنما لنا شركاء في الوطن.. وتمر هذه المناسبة العظيمة دون الالتفات إلى شركائنا في الوطن..
لهذا فإننا جميعا نتحمل مسؤولية مباشرة، لتعريف شركائنا في الوطن، حقيقة عاشوراء، وطبيعة المناشط العاشورائية التي نقوم بها..
والتعويل على مبادراتهم الفردية للمجيء لا يكفي،وإنما نحن بحاجة إلى آلية عمل تتجه إلى دعوة شخصيات وفعاليات المجتمع للتعرف بشكل مباشر على مناسبة عاشوراء..
فليس لدينا ممارسة في عاشوراء نخجل منها أو من تعريفها للآخرين.. كما إننا معنيون بمواجهة حروب الشائعات والفتن والتضليل التي تستهدفنا وتستهدف مناسباتنا الدينية..
إننا اليوم بأمس الحاجة، لإطلاق مبادرات ومشروعات إعلامية واجتماعية، تستهدف أبناء وطننا لتعريفهم بحقيقة عاشوراء وطبيعة الشعائر الممارسة في مجتمعنا.
ونحن هنا ندعو جميع الأخوة القائمين على إدارة الشعائر الحسينية، للاهتمام بهذا الأمر، والقيام بخطوات عملية لتعريف شركائنا في الوطن بحقيقة وطبيعة موسم عاشوراء في مجتمعنا..