حوار افتراضي في الفلسفة

علي محمد اليوسف

2022-01-24 03:44

اجرى المفكر صادق جلال العظم حوارا افتراضيا بكتابه (دراسات في الفلسفة الغربية المعاصرة) بين كيركجورد رائد الوجودية الحديثة ووايتهيد فيلسوف الرياضيات واحد اقطاب الوضعية التجريبية المنطقية الانجليزية ومما جاء في ثنايا الحوار انه: ورد على لسان كيركجورد "ان جوهر الوجود الفعلي هو الصيرورة، وان الفكر المجرد يبتعد عن حقيقة الوقائع العينية كلما توغل في التجريد".

في مداخلة توضيحنا العبارة:

- حين ينسب لكيكجورد قوله جوهر الوجود الفعلي هو الصيرورة فهو لا يميز تمييزا واضحا بين الكينونة والجوهر. ويكرر كيرجكورد نفس منطق الصوفية التي قال بها اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود ان الجوهر سابق على الوجود وبدلالة ثبات الجوهر ندرك الوجود. والجوهر برايه ثابت في حين الكينونة الوجودية هي صيرورة من التغيير المستمر. بهذا المعنى ادخلنا كيركجورد في احتدام متقاطع مع مسالتين الاولى انه بدلالة ثبات الجوهر واسبقيته على الكينونة نفهم الوجود انه صيرورة من التغيرات المستمرة. وهذا لا يمنع من ادراك الصيرورة للوجود انها تعبير تجريدي وبغير هذه الآلية لا يمكن رصد صيرورة الوجود في ثبات الجوهر.

المسالة الثانية انكاره الكينونة الوجودية تسبق الماهية الجوهرية كما تذهب له الفلسفة الوجودية والفلسفات المادية منها الماركسية. واسبقية الجوهر في صوفية كل من اسبينوزا الايمانية وكيركجورد في قفزته الايمانية، انما تكون في مصادرة إعمال العقل ان لا يكون له كلمة ولا مجال مناقشة الايمان كمسلمة قبلية ترجح الوجدان القلبي على التفكير العقلي.

- حسب راي كيركجورد فهو ابقى الخلاف حول امتلاك الكينونة الذاتية جوهرا ام لا تمتلك جوهرا نظرة خلافية قائمة لم يقم بتوضيحها. بخلاف راي سارتر جوهر الانسان انه لا يمتلك جوهرا. تعبير كيركجورد جوهر الوجود الفعلي هو الصيرورة انما يعتبر الجوهر ثانويا وثابتا يسير بموازاة صيرورة الكينونة المستمرة على العكس تماما من سارتر الذي يرى الكينونة ثباتا لا يتغير بينما الجوهر تصنيع تغييري ملازم لحياة الانسان.

- قول كيركجورد الفكر المجرد يبتعد عن حقيقة الوقائع العينية كلما توغل في التجريد، هو قول لا يضيف جديدا على الاقرار بحقيقة التجريد ملازم القصور التعبيري عن وقائع الموجودات. الفكر هو ادراك العقل في تجريد اللغة ولا يتوفر بديل غير وسيلة التجريد سواء بخيانة الالمام التام او القاصر عن مطابقة التجريد الفكري مع الواقع العياني، ويبقى تجريد اللغة خارج ثنائية هيجل كل ما هو عقلاني عقلي، وكل ماهو عقلي واقعي. وهو ما ينسحب على الادراك ولا ينسحب على تجريد الفكر في تعبير اللغة.

الضرورة والصيرورة

تماشيا مع رأي احد الفلاسفة قوله (ليس الانسان طبيعة بل له تاريخ) بهذا المعنى الحرفي يكون معنا التاريخ هو الذي يصنع الطبيعة الانسانية. متناسين الحقيقة الانثروبولوجية الى ان الانسان يصنع تاريخه بإرادته. انسنة التاريخ تتم بدلالة طبيعية الانسان في وجودها بقلب التاريخ.

عليه نضع التساؤل هل طبيعة الانسان ثابتة كجوهر لازماني؟ وهل التاريخ يستمد طبيعته بدلالة الزمن؟ برجسون يذهب "ان الفكر المجرد يزّيف طبيعة الديمومة، ولا يستطيع ان يستوعبها الا بعد تجريدها من بعدها الزماني.".

الفكر التجريدي المدان بقصوره الاستيعابي في نقص تعبير اللغة هو اكثر زمانية من الديمومة التي يرغب برجسون الحفاظ عليها انها مسايرة زمانية تقودها الصيرورة الفاعلة. والفكر التجريدي يكون متقاطعا مع الزمني دائما.

زمانية الفكر "ضرورة الصيرورة" التي من دونها تفقد طبيعة الديمومة حضورها الزمني. لا يستطيع الفكر التجريدي تجريد الزمن من حياديته الادراكية. بمعنى الزمن يرتبط بالتجريد الفكري في تعبيره عن الصيرورة الضرورية. والزمن يمتلك ماهية حيادية مستقلة عن كل من معنى الصيرورة من جهة ومعنى الضرورة من جهة اخرى وحتى في وحدتهما الثنائية.

ورد على لسان كيركجورد في حواره الافتراضي مع وايتهيد "انه مهما كان المجال الذي نفسحه ضيقا في تحديد مجرى الصيرورة، فالضرورة لا بد ان تمتد بالرغم من كل شيء لتشمل الصيرورة باسرها وتغطي عليها وتحولها الى وهم ليس الا" ثنائية الضرورة والصيرورة في ترابطهما الذي لا انفكاك يعتريه هي ثنائية كلية تحركها في تلازم الضرورة والصيرورة فيها "الارادة" القصدية الهادفة وبغير الارادة لا يكون معنا هناك صيرورة تقود الضرورة. وليس مهما ان يكون طريق الصيرورة ضيقا او واسعا لتجد الضرورة مجالها الافتراضي في تحقيق اهدافها.

الضرورة كهدف قصدي يسبق الصيرورة وسيلة التنفيذ. كما أن الفكرة المهمة اننا يمكننا مهما كان مجرى الصيرورة ضيقا، فالضرورة يمكنها الاستحواذ عليها وقيادتها نحو اهدافها القصدية مرغمة. بمعنى اولوية الضرورة سابق على ثانوية الصيرورة، فالضرورة وعي قصدي تجسده الارادة في الوصول الى مراتب متقدمة الاهداف على خلاف الصيرورة التي هي وسيلة تنفيذ لضرورات ملزمة لها.

تناقض ثنائية الضرورة والصيرورة

ياخذ كيركجورد على وايتهيد انه جمع بين الصيرورة والضرورة اعتسافيا من حيث برأيه انهما فكرتين متناقضتين. (فالضرورة واجب الوجود، بينما كل ما هو في صيرورة غير واجب الوجود، ولذلك لا يمكن أن يكون ضروريا).

وفي رد وايتهيد على راي كيركجورد هذا يقول " كل ما هو ضروري موجود هو في حالة من التكوين ولكن ما اعنيه والكلام له هو ان الصفات التي يتصف بها المستقبل والصلات التي ستربطه بالحاضر كافية دائما بخطوطها العريضة في هذا الحاضر بالذات."

الحدس والمكان

يشير المفكر صادق جلال العظم على لسان احد الفلاسفة المختصين بدراسة كانط الى ما يلي:

1. لا نستطيع ان نحدس الاشياء من غير مكان. اي ان جميع الاشياء التي نحدسها موجودة في المكان.

2. نستطيع حدس المكان من غير الاشياء.

امعان التفكير في العبارتين تجعلنا نحصل على نتيجة تداخلية بينهما تقوم على تعبيرين متناقضتين. الفقرة الاولى لا نستطيع ان نحدس الاشياء من غير مكان صحيحة كون الاشياء امتلاء مكاني. ونستطيع حدس المكان من غير الاشياء في الفقرة الثانية خاطئة تناقض ما قبلها.

الخطأ هنا يعتبر المكان شكلا او اطارا لفراغ ندركه لا يحتوي مادة. حتى ادراك الشكل مجردا عن محتواه لا يمكن تمريره بسهولة الا في معايير منطقية ميتافيزيقية صرف. المكان الادراكي هو مادة حسية وليس تجريدا تصوريا لفظيا في التعبير عنه فقط. والحدس قابلية عقلية تتعامل مع حقائق منطقية يستلهما تسبقها ذخيرة معرفية مخزنة بالذاكرة.

كيف نستطيع التعبير عن التناقض في العبارتين في موائمة لا تعتمد المنطق التجريدي تماما منفردا كما لا تعتمد الحس المادي من غير تجريد تعبير اللغة؟ لو نحن نحاول تحديد معنى المكان في العبارتين نجده تعبيرا عن (الفراغ) المكاني وليس المقصود بالمكان الوعاء الاحتوائي الممتليء (صورة ومحتوى) بل الفراغ (شكل) مجرد من محتواه المادي. المكان هو وحدة من امتلاء قابل للحدس او الادراك في ثنائية تلازم صورة (شكل) ومحتوى (مادة). الفراغ بلا مادة هو خلاء مكاني وليس مكانا يدرك بدلالتي المادة المحتوات فيه وملازمة الزمان له ايضا.

لا مجال ان نحدس وجود الاشياء من غير ملازمة مكانية إحتوائية لها. اي لا مجال امامنا حدس الفراغ مجردا عن خاصيته المكانية في الاحتواء المادي. ان تقول مكان يعني انك تقصد امتلاء شيئي محدود متعين ادراكيا انطولوجيا. وعندما تقول فراغ انما تكون تقصد شيئا غير موجود ماديا لكنك يمكنك تحديده بابعاد ثلاثية هي الشكل بلا محتوى.

علما ان الابعاد الثلاثية للفراغ ممكن ان تكون محددات لمحتوى مادي. مثال ذلك ادراك غرفة خالية من اي شيء تحتويه. هنا تكون ابعاد الفراغ بالغرفة حددت لنا ادراك مادة هي الغرفة (فراغ بلا مادة محتوات) وليس الابعاد مجردة عن دلالة احتوائية لا تشغلها مادة.

حدس الاشياء يلزم عنه نوع من الادراك الذي يجمع توفر صورة ومحتوى لكل مدرك حسي ذهني. والحدس الذي يتخطى معيار المنطق والحس انما يكون ملزما بثنائية الادراك (الزمان – المكان) التي هي ثنائية تجريدية تقود الحدس الى محاكمة صوابه العقلي. بمعنى العقل هو الذي يحدد معنى الادراك لشيء حقيقي من عدمه لمدرك زائف.

الحدس والادراك

في البدء علينا التسليم ان كلا من الحدس والادراك هما عمليتين تتمان داخل المنظومة العقلية اي داخل سلسلة عضوية مترابطة تبدأ بالحواس ومن ثم مرورا بالجملة العصبية لتنتهي بالدماغ. بمعنى لا حدس بدون العقل ولا ادراك من دون العقل ايضا. كما لا يمكننا القول ان تفسير الانطباعات الحسية عن الواقع الخارجي لا تعتمد الخبرات المخزنة في الذاكرة. قبلية الخبرة هي التي تعطي الادراك حقيقته التصورية.

وعملية الادراك الحسي عملية مركبة موثوقة في صدقيتها اكثر من الحدس، حيث تتداخل عملية الادراك مع الشعور النفسي وعمليات التذكر وتداعيات الافكار المخزنة وكذلك الوعي واللغة. وكل هذه المفردات لا تتوفر ولا ملزمة للحدس بمقدار الزاميتها المشروطية الادراك الحسي المادي المباشر. فالادراك هو عملية عقلية- نفسية تساعد الانسان معرفة عالمه الخارجي، والوصول الى معان ودلالات الاشياء وذلك عن طريق تنظيم المثيرات الحسية لتفسيرها وصياغتها في كليّات ذات معنى.

اما الحدس فهي قدرة عقلية تخييلية تصل حقائق الاشياء من دون المرور في آلية الإدراك الحسي الطبيعي البايولوجي لها، بل تحصل على المعلومة بضرب صوفي ما فوق عقلي هي نوع من قوى عقلية خارج المالوف في الادراك الحسي بخطفة من الحدس في مباشرته العقل ومباغتته ادراكيا.

وبالرغم من الاختلاف الواضح بين الحدس والادراك ليس من حيث الآلية فقط بل من حيث التصور التمثلي للاشياء تصورا حقيقيا صحيحا فلا بد من ان يتوفر العقل على معرفة قبلية مخزنة يكون مصدرها الذاكرة كما اشرنا له سابقا.

كانط والمكان المحض

كانط في فرضيته الادراكية الحسية او الحدسية ذهب اننا يمكننا نزع صورة الشيء عن محتواه وندركهما كلا منهما على انفراد مجردين من تعالقهما شكلا ومحتوى، نجده ذهب ابعد من ذلك قائلا:" المكان ليس تصورا حسيا مشتقا من الخبرات الخارجية. والمكان تمّثل قبلي وضروري يكمن وراء جميع الحدوس الخارجية. ونحن لا نستطيع تمثل غياب المكان ولكن باستطاعتنا ان نفكر به خاليا من الأشياء.

ملاحظات تعقيبية:

- المكان وجود مادي لا تخلقه تصورات وتمثلات العقل الادراكية. وتجريد تصوراتنا الحسية عن المكان هي نفس تصورات التفكير في اي موضوع عقلي. والضرورة الموجودية للمكان تستبق فكرة المكان حدسيا مقطوعة الاوصال بعوامل انبثاقها المنطقي الحي الطبيعي كمادة. المكان تجريد مادي وليس تصورا يبتدعه الحدس او الحس ويخلعه على الاشياء.

- كل تصور حسي للمكان حدسيا كان او تجريبيا هو تمّثل لخبرات اولية مكتسبة سابقة عنه. وبذلك عندها يصح قولنا المكان تمثل قبلي وضروري يكمن وراء جميع الحدوسات الخارجية.

وعندما يكون المكان قبليا على الحدس الادراكي فهذا يلزم بالضرورة خبرة مخزنة بالذاكرة عنه لاتمام عملية ادراكه بصورة صحيحة سليمة. الحدس استثارة معرفية يتم خارج توقعات الادراكات الحسية يأتي على شكل ومضة عقلية.

- قول كانط " لا نستطيع تمثل غياب المكان لكن باستطاعتنا ان نفكر به خاليا من الاشياء" غياب وحضور المكان تصوريا لا يتم بمعيارية الفراغ، بل بمعيارية الاحتواء الامتلائي بالمادة، تصورنا الفراغ وتمثله لا ينسحب على غياب وحضور المكان كمحتوى. الفراغ هو صفة مادية لمكان غير متعيّن ولا محدود لكن لا ينوب عنه في الدلالة والمعنى. فالمكان غير الفراغ رغم تعالقهما الثنائي.

- يبقى المكان في جميع تجلياته وتحولاته مقرونا بمادة يحتويها، اما ان نقصر ميتافيزيقا التمثلات العقلية المجردة ان تخلق حقائق مكانية نعطيها صفة الادراك الواقعي الحقيقي ولم تكن موجودة سابقا فهذه استحالة يعجز التفكير العقلي القيام بها لانعدام آلية الادراك السليم.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
.............................................................................................
الهوامش:
* صادق جلال العظم/ دراسات في الفلسفة الغربية المعاصرة.

ذات صلة

القائد الجماهيريمرويات السيدة الزهراء (ع) في تفسير القرآن الكريمالإسلام دين التوازنالجيل الجديد: قضايا الهويَّة والوعي السياسيعودة ترامب المحتملة للسلطة.. قلق ايراني وأمل اسرائيلي