نظرية السلوك اللفظي اللغوي
علي محمد اليوسف
2021-12-04 08:07
تمهيد
تعود نظرية السلوك اللفظي اللغوي لمؤسسها الاول الفيلسوف الامريكي بورهوس فريريدريك سكينر 1904-1990، الذي مرّ بمعاناة دراسية قاسية واجهته رغم حالته المادية الميسورة لعائلته، انتهى به المطاف قبل وفاته استاذا في جامعة هارفرد. نستطيع القول ان سكينر هو الذي عبّد الطريق امام الفيلسوف وعالم اللغات نعوم جومسكي في إعتماده نظرية السلوك اللغوي التوليدي وتطويرها لاحقا.
حين إعتبر علماء اللغة في اوروبا والولايات المتحدة الامريكية أن مجموعة عادات الانسان كغيرها من العادات السلوكية الاخرى، يمكن دراستها في ابراز استقلاليتها في التركيز على ظواهر اللغة الخارجية بعيدا عن مهمة الانشغال بمعنى اللغة. برز سكينر رائد هذا الاتجاه حين أصدر كتابه "السلوك اللفظي" وكان الكتاب يعتمد تداخل صوت اللغة مع السلوك اللغوي في مرجعية علم النفس في السعي الوصول اثبات عدة فرضيات نظرية فلسفية لغوية هي:
- تركيز الاهتمام بالظاهر الخارجي من اللغة (الصوت - الكلام) فقط ومعاملتها حالها حال أية ظاهرة سلوكية أخرى ترتبط بعلم النفس.
- اهمال دراسة المعنى اللغوي على إعتبار انه ليس مظهرا خارجيا يمكن النظر فيه والتحقق منه كموضوع مستقل بالمنهج العلمي كما يجري في دراسة موضوعات ونظريات العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة.
- هنا لا بد من التنويه أن علماء السلوك اللفظي حين أهملوا جانب المعنى في اللغة، فهم جردوها من أهم مقوماتها وأهم اهدافها الحياتية المتفرعة عنها وهي عديدة لا حصر لها. في مقدمتها يأتي مهمة التواصل وتعطيل تبادل إكتساب المعرفة بانواعها وكذلك تعرية اللغة من قواعد النحو والصرف وغيرها الخاصة بكل لغة مكتوبة.
- ركز اللغويون السلوكيون على اللغة المنطوقة (الصوت – الكلام ) واهملوا المعنى في اللغة المكتوبة إهمالا كبيرا، وصّبوا جلّ إهتمامهم على نظام اللغة الصوتي وإعتبروه المظهر الاساس باللغة. كما إهتموا بالصوت كمظهر خارجي وحيد يمكن إعتماده بدراسة اللغة في مقارنتها بظواهر صوتية في لغات أخرى محاولين الوصول الى مشتركات لغوية أو إختلافات تيسر لهم مهمة تعليم اللغات الاجنبية للاطفال والكبار على السواء وتبادل الابتكارات مابين لغة ولغة اخرى.
ما هي اهداف النظرية السلوكية اللغوية؟
- وصف ودراسة اللغة الحية المنطوقة (الصوت – الكلام) لدى الافراد والجماعات المختارة كعينات للتجربة التي تقود وضع قواعد نحوية جديدة للغة المحكية الحوارية بين الناس.
- التأكيد على تحديد نطاق مجال اللغة بوسيلة صورة اللغة في ظاهرة صوتية خارجية، من المتاح إعتبارها سمة موضوعية فردية قابلة للتحقق منها، وقابلة للملاحظة الدراسية والبحثية، ما يعني وضع معنى اللغة في منزلة ومرتبة ثانوية.
- قبل نشر تشومسكي كتابه "البنى التركيبية" كان سبقه هوكيت عام 1942 أن "علم اللغة علم تصنيفي يقوم بوصف اللغة فقط. كما كتب أحد علماء اللغة قائلا: نحن نحاول وصف اللغة بدقة، وليس تفسيرها، وأي تفسير لغوي هو كلام غير دقيق ولا يعد جزءا من النظرية اللغوية.
- كما إعتبر علماء اللغة من انصار نظرية السلوك اللفظي "اجراءات الكشف عن الفونيمات – وحدة قياس دلالة الصوت في المفردة -والمورفيمات– وحدة قياس دلالة الصوت في الجملة الواحدة او في مجموعة العبارات -هي بنظرهم أهم من دراستهم نظرية المعنى في اللغة. ولما كانت اللغة عندهم هي سلوك محدد محكوم بشرطي (المثير والاستجابة) فهذا سبب كاف حصر دراسة اللغة في تعالقها بعلم النفس وإغفال دراسة الكيانات العقلية في تعالقها باللغة. اخيرا الاسوأ من كل ما ذكرناه فهم أسقطوا المعرفة التامة للمتكلم بالعالم من حوله وحصروا أهدافهم في حقائق اللغة بما هي بنية نسقية مستقلة قائمة بذاتها.
تشومسكي والسلوكية اللغوية
تصنيف علماء اللغة لنظرية تشومسكي في السلوكية اللغوية التوليدية أنها نظرية لا تخالف نظرية السلوك اللغوي الوصفي الخارجي للغة (الصوت – الكلام) لكن تشومسكي بالحقيقة انكرعلى اصحاب السلوك اللغوي ما يلي:
- معرفة حقيقة أية لغة هي قدرة المتكلم الناضج انتاج جمل وعبارات توليدية جديدة ملائمة للموقف الذي يتحدث فيه، وقدرة المتكلمين والمتلقين المستمعين الاخرين فهم تلك الجمل مباشرة رغم جدتها الاستعمالية بالكلام. هنا يؤكد تشومسكي أهمية كل حوار لغوي أنه يحتوي على جمل وعبارات لغوية توليدية جديدة عفوية بين المتحاورين لم يكونوا إعتادوا إستعمالها لكن بمستطاعهم فهمها والتعامل معها إستقباليا من اول مرة يسمعونها.
- ينكر تشومسكي المنطوقات الكلامية الانسانية الجديدة (المنطوقات التوليدية حسب تعبيره) أنها إعادة إنتاج لغوي مستمد من الذاكرة. في حين التوليد اللغوي الجديد هو ابداع انفرادي للشخص مصدره استعداد فطري لا علاقة تربطه بالبنية العقلية الداخلية. الذي يكون فيه الحدس اللغوي للمتكلم والمتلقي هو المقياس الذي يقرر صحة ودقة أي قواعد أو نظرية أو إختبار علمي.
- من المهم التنويه هنا أن تشومسكي يستعمل مرجعية علم النفس في توليدية تداعيات الالفاظ المنطوقة اللغوية بدافع ارتجالي لا شعوري من قبل المتكلم يتحدد فيه انبثاق تلك المنطوقات الحوارية في وقت محدد دونما التحضير المسبق له وهو نفس المنطلق لاصحاب السوكية اللفظية. ونعتقد أن تشومسكي في إستبعاده تفكير العقل اللغوي عن توليده العبارات الجديدة ليست خاصية عقلية مصدرها (الذاكرة) كان مصيبا تماما. فالذاكرة هي مخزون لغوي فكري تجريدي سبق إستهلاكه الحواري في زمن مضى وإكتسب صفة الثبات بالذاكرة غير القابل للتوليد المتجدد في الالفاظ التي تدّخرها الذاكرة، وأن توليد الجديد حسب تشومسكي من منطوقات التعبير اللغوي ليس مصدرها الذاكرة ولكن مصدرها تداعيات اللاشعور لدى الشخص المتكلم من منطوق علم النفس. وليس مرجعية البنية العقلية من منطوق العقل الذي هو حسب ديكارت جوهر ماهيته التفكير في انتاجية اللغة.
هنا يتوجب علينا وعلى تشومسكي الاجابة عن تساؤل هل تداعيات منطوقات الشخص اللغوية مصدرها تخليق اللاشعور النفسي لها أم تداعيات الملفوظات اللغوية هي تخليق عقلي شعوري في انتاجية افكار اللغة؟ تشومسكي يختار التداعيات اللاشعورية التي مصدرها الارتجال الحواري النفسي قبل الابتكار العقلي للافكار قبل تعبير اللغة عنها.
- في هذا الاقتباس الذي ندرجه بهذه الفقرة نجد تشومسكي يناقض ما ذهب له في الفقرة السابقة أعلاه، حين نجده جاهد طويلا من أجل الوصول بعلم اللغة الى المرحلة التفسيرية في مركزية توليد المعنى اللغوي بدلا من التوصيفية التي اعتمدت مركزية الصوت في دلالة السلوك النفسي التي قال بها سكينر ومؤيديه. تفسيرية تشومسكي تقوم على مرجعية دراسة طويلة ومعمقة (تبحث تخليق اللغة في تفاصيل بنية العقل) البيولوجية وليست البنية التجريدية للغة إعتبارها ناتج بنية علم النفس وليس بنية بيولوجيا العقل. ومن أجل هذا الهدف لم يكن يعتبر تشومسكي دراسة اللغة غاية بذاتها بل وسيلة لغاية أكبر منها، هي القاء الضوء على الطبيعة البشرية ككل ولتحقيق ذلك يجب البداية بدراسة العقل الانساني في توليده اللغة.
- من أهداف نظرية تشومسكي الهامة في التوليدية اللغوية هو الانتقال من التوصيف الظاهري الخارجي للغة، كما ذهب له علماء نظرية السلوك اللفظي، الى دعوته دراسة ما اطلق عليه (الاستعمال الابداعي للغة) الذي يعني به الاستعمال العادي التداولي العفوي بين الناس في حواراتهم الكلامية. ومن أكثر المتاثرين بهذا التوجه في فلسفة اللغة هم رواد المنطقية التحليلية الانجليزية بزعامة بيرتراندراسل وعضوية فينجشتين المتاخر انضمامه لهم وجورج مور ووايتهيد وكارناب الذين انشقوا على انفسهم بتاثير من فريجة القوي في وجوب تبني إعتماد الرياضيات كمنهج اصلاحي في مراجعة وتقويم أخطاء اللغة الذي تحمس له راسل بشدة دونما تحقيقه جدوى. إلا إن جورج مور كان أكثر المتحمسين من فلاسفة الوضعية التحليلية الانجليزية في تبني وجهة نظر تشومسكي حول أهمية إعتماد الوضوح اللغوي الذي يصل الى تبني لغة الناس العادية في معالجة قضايا الفلسفة. علما ان اقطاب الفلسفة السلوكية اللفظية كانوا سبقوا تشومسكي بهذا الطرح حول العودة الى إعتماد لغة الكلام اليومية الشفاهية بين الناس من اعتبار اللغة سلوك نفسي وليس توليد عقلي.
- إعتبر تشومسكي في التوليدية الابداعية اللغوية أهمية اكتشاف المباديء الاساسية للغة، في ثلاث اهداف هي: النحو التوليدي وفي رد هذا المصطلح الى مرجعية علم النفس فيكون تمحوره حول السؤال: ما هي طبيعة المعرفة الحدسية اللاواعية التي تسمح للمتكلم استعمال لغته؟ والهدف الثاني هو بناء نظرية لغوية تفسيرية داخلية تهتم بالمعنى وليس بالصوت فقط. اما الهدف الثالث الاخير فيتمثل في اعتبار الخصائص العامة للغة خصائص بيولوجية تعطي النسق الذي الذي يخضع له اكتساب اللغة.
- برأيي الشخصي إعتراف تشومسكي بأخطر قضية خلافية له مع علماء نظرية السلوك اللغوي اللفظي تاكيده "مثالية النحو في إعتباره النحو اللغوي بنية ادراكية، تتفاعل مع انساق المعرفة أو الاعتقادات الاخرى وطبيعة ذلك التفاعل بعيدة عن التسليم بوجود الانساق المستقلة، فلكل نسق بنيته الخاصة التي تتفاعل مع الانساق الاخرى بطريقة ما. والمثالية والتجريد لا مفر منها للبحث الجاد لكن يجب تبريرهما على اسس تجريبية".
تعقيب إجمالي نقدي ختامي
رغم الاختلافات ما بين علماء نظرية السلوك اللفظي اللغوي، ونظرية تشومسكي في التوليدية الابداعية التي تقوم على مرتكزي علم النفس والاستعداد الفطري لتعلم اللغة الا اننا نضع التعقيبات النقدية التالية:
1.نظرية السلوك اللفظي اللغوي في ترجيحها إعتماد الكلام السائد بين الناس بهدف استنباط قواعد نحوية وصرفية سهلة جديدة، إنما تقوم على خلق لهجات محلية كلامية حوارية على حساب تغييب قواعد ونحو لغة الكتابة لدى تلك الاقوام رغم تحذيراتها وجوب استبعاد اللهجات ذات المحدودية التواصلية التداولية لمجموعات بشرية صغيرة ألا أنها سقطت في الفخ الذي حذرت منه حين عمدت إستحداث قواعد ونحو لهجات لغوية جديدة مستمدة من كلام الناس الواضح الخالي من تعقيدات وأحكام ضوابط اللغة المكتوبة على حد زعمهم التبريري، وليست هناك فائدة الوقوف عند معنى اللغة معتبرين "ما يقوله مجتمع معين كلاما هو لغة سليمة تستحق التسجيل في كتب القواعد، واستبعدوا اللهجات ذات المحدودية التواصلية ضمن رقعة جغرافية ضيقة لا تمتلك الامتداد اللغوي التواصلي بغيرها من اللغات لدى مجموعات اخرى من الاقوام " 12 لكن هذه اللهجات المحلية التي استبعدوها لم تندثر ولن تغيب عن المشهد اللغوي العالمي العام رغم محدودية الاقلية التي تتكلم وتتعامل بها بسبب أن اللغة عند هذه الاقليات تعتبر من مقومات الهوية القومية الخاصة المتوارثة بتلك المجموعات.
2. حول ماديّة اللغة التي ينكرها اصحاب نظرية السلوك اللفظي نفهمها بدلالة تعبيرها عن المادة ولا يمكن إدراكنا لغة التجريد كأصوات مادية مكتفية بذاتها مصدرها اللغة ولا تمتلك خاصّية (معنى) لها مستقلة عن نسقها الصوتي، إن مجرد اعتماد جومسكي عضوية اللغة البايولوجية تجعل من العقل وليس من علم النفس مرجعية لها.
المادة كمحسوس متعّين حسّيا يدركه العقل لا يتحدد بالصوت اللغوي المعّبر عنه، بل تتحدّد المادة بوجودها ألأنطولوجي كمتعيّن يدرك ويحس بصفاته الثلاث الطول والعرض والإرتفاع، وأضاف أنشتاين له البعد الرابع الزمن. وهو الوجود المادي السابق للشيء على الفكر واللغة. وهو ما لا تأخذ به نظرية السلوك اللفظي اللغوي أن حقيقة الصوت فيزيائيا لا يمكننا تحديده ماديا بصفات مادية معروفة ذكرناها ندرس الصوت اللغوي بدلالة تعبيره الكلامي وحتى غير المادي، واللغة كصوت ذي دلالة تعبيرية عن معنى قصدي، هي تجريد في تعبيرها عن أشياء وليست مادة تجريدية بصفات لامعنى لها بذاتها يمكن دراستها، ولا تكون اللغة هنا جزءا من مادة مدركة حسّيا بل تكون جزءا من لغة تجريد إدراكي للمادة في موضعتها بها منفصلة التعبير عنها. وتجسيد اللغة للفكر في التعبير عن معناه المضموني لا يجعل من كليهما اللغة والفكر مادة بإكتسابهما صفة تجريد الصوت مدركا بذاته وهو خطأ لعدم إمكانية إدراكنا الصوت مجرّدا عن دلالته ألماديّة في التعبير التي هي المعنى المقصود في معنى تعبير اللغة. والمعنى في اللغة لدى اصحاب السلوك اللفظي لا أهمية له بمقياس اولوية أهمية العناية بالشكل الخارجي للغة الذي هو الصوت الدلالي لا يكفي.
3. التسليم بمقولة اللغة مادة بدلالة الصوت، عندها يصبح لا غرابة أن نجد اللغة كما يعبّر عنها أحد الفلاسفة المثاليين "هي تعبير كلّي يقوم مقام الواقع بكامله.". تماشيا مع هذا التعبير إلإفتراضي الخاطيء لا يمكننا معرفة الواقع في حقيقته المادية عندما نحاول التعبيرعنه بمادة لغوية متموضّعة فيه تكوينيا وليست لغة إدراك تجريدي منفصلة عنه نفهم بها انطولوجيا الوجود، وليس من الصحيح أن تمتلك المادة تجريدا لغويا ما يعني إمكانية أن تعي المادة ذاتها وتعي غيرها من الماديات الأخرى ليس بدلالة تجريد اللغة بل بدلالة تجريد لغة المادة الموهومة التي أصبحت هي ميزة المادة ذاتها في كثرة تنوعاتها وإختلافاتها التي يعجزنا حصرها.
وهذا أمر ليس محالا على صعيد الإدراك العقلي وحسب وأنما محال على صعيد إلغاء خاصّية التجريد اللغوي عن مدركات اللغة التعبيرية التي هي في حقيقتها تعبير عن مدركات عقلية. بوضوح ألعبارة اللغة لا تمتلك أسبقية الإدراك العقلي للأشياء، كما أن المادة لا تمتلك لغة تعبير لا عن نفسها ولا عن غيرها من الموجودات المتعالقة في الوجود معها.
4. كل شيء موجود في الواقع يحمل معه لغة الإدراك المعبّرة عنه التي يتواصل بها مع إدراك العقل لذلك الشيء. ولا تمتلك أيّة مادة لغة الإدراك التواصلية مع غيرها من المواد والاشياء. فالمادة غير العاقلة لا تمتلك خاصّية التعبير العلائقي مع غيرها من دون وسيط ثالث بينهما هو لغة الانسان فقط.
إن الحقيقة التي يراد العبور من فوقها أن اللغة تبقى تجريدا تعبيريا، والمادة تبقى واقعا موضوعيا لإدراك هذا التجريد اللغوي ولا بأس في توكيد صحة هذه الحقيقة، لكن اللغة المتموضعة بالأشياء في التعبير عنها هي لغة تجريد يحتويها الموجود المادي أنطولوجيا ويبقى تجريد اللغة غريبا عن المادة كتجريد لغوي معبّراعن المادة منفصل عنها في خصائصها المادية التكوينية، ولا يحمل إدراك اللغة خصائص تلك المادة كواقع مادي. مشروع اللغة الكليّة المصنوعة آليا التي نادى بها العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين في القرن التاسع عشر إعتبرها "دستوت تراسي" من فظائع الأخطاء التي وقعت بها الفلسفة كما في محاولة بعضهم تربيع الدائرة.
5. إقترح جومسكي منذ خمسينيات القرن الماضي إعتماده اللغة تمتلك عنصرا بيولوجيا مركوزا في دماغ الانسان بألفطرة، وأننا ننطوي وراثيا على حاسّة الكلام، وأننا مبرمجون وراثيا لنتكلم اللغة بدلا من التقليد الاكتسابي لها من ثقافتنا وبيئتنا، وكلامنا يرتكز على مخطط وصفة إنطبعت فينا منذ الولادة، هنا جومسكي ينهي أي أجتهاد فلسفي حول إمكانية إستنساخ لغة وظيفية آليا في حاسوب متطوّر. كون الإفتراض الذي يبيح لبعض التقنيّات المتطورة صناعة لغة حاسوب آلي يمكنه الإشتقاق وتوليد الافكار إلا أنه يقف حتما في عجزه مجاراة لغة الانسان وقابليته الخصائصية المتفردة من توليد الأفكار وتطوير لغة الحياة بما تعجز عنه الآلة.
6. من المسائل التي رفضها فلاسفة السلوكية اللغوية الاميركان إمكانية إستنساخ اللغة آليا بالحاسوب وهذا الرفض هو ما طرحه جون سيرل وهو فيلسوف العقل واللغة وأحد أبرز المتبنّين للوعي القصدي، أن توليدية الإبتكار اللغوي التي نسبها جومسكي لملكة الانسان الفطرية الوراثية، لا يمكن إستنساخها في الحاسوب لاسباب مانعة أبسطها عدم إمكانية تحّكم الحاسوب بالعبارات والجمل التي تكتفي بإيصال المعنى المطلوب. وضرب لذلك مثلا أن الحواسيب يمكنها تركيب جملة مثل (أنا أعدك) لكنها لا تفهم ما يترتب على العبارة من تنفيذ تطبيق هذا الكلام كمحاورة قصدية ذات معنى. الوعد بماذا؟ ومتى وأين؟
7.الحقيقة التي لا يمكن مجاوزتها بسهولة هي أن الفكر هو أدراك متعيّن بدلالة لغوية عن معنى ، وكذلك تعبير اللغة هي إدراك متعين بدلالة الفكر، ولا يمكننا التعبير عن فكر لا تلازمه بالضرورة لغة تعبير عنه.. نظام التفكير باللغة يطوّع لغة التعبير التداولية عنه.. كما ليس من مهام اللغة التي ترتبط حسب عبارة كانط بعلاقة اعتباطية بالفكر أن تقوم هي تنظيم وتخليص الفكر من الاعتباطية التي تلازمه. بل تنظيم نسق الادراكات الواصلة الى الدماغ تصبح مهمة تنظيمها تقع على عاتق العقل وليس على عاتق اللغة التي مصدرها علم النفس كما يتوهم السلوكيون اللغويون. فالعقل مضمون تفكيري بايولوجي واللغة وسيلته في التعبير عن تلك المضامين.. اللغة تعبير أكتسب محتواه من مرجعية تفكير العقل ولا تمتلك اللغة أمكانية تنظيم مدركات العقل بمعزل عن العقل نفسه.
8. السلوك النفسي في مرجعيته للغة يرفض العقل رفضا قاطعا حيث تنكر السلوكية اللغوية " أن الشخص لديه القدرة أو وسيلة استبطان محتويات عقله". السلوك النفسي حسب اجتهادنا تحدده اللغة بمرجعية العقل الادراكي، وضرورة التمييز بين مرجعية علم النفس عن مرجعية العقل في التوليد اللغوي يجعل من نظرية الاستعداد الفطري ليست بالاهمية التي تلغي معها ان حقيقة اللغة سلوكا مكتسبا بالتجربة والخبرة الحياتية المتفاعلة مع الاخرين. وذات الشخص بامكانها استبطان محتويات عقله كون جوهر الذات هو العقل.