المرأة في ظل حقوق الإنسان الإسلامية
مجلة النبأ
2019-02-13 05:00
بقلم حيدر البصري
في دراسة أية ظاهرة يتطلب المنهج العلمي الصحيح أن يحدد الباحث النقطة الصحيحة للإنطلاق كي يصح تعميم النتائج التي توصل إليها من خلال بحثه، وإلا فلا يمكن أن يقود البحث الباحث إلا إلى الغلط في النتائج فيما لو أخفق في تحديد نقطة الانطلاق. ومن الموضوعات التي أخفق الكثيرون في تحديد نقطة الانطلاق فيها موضوع (المرأة في الإسلام)، فقد انطلق كثير من الباحثين في دراستهم للموضوع المذكور من الواقع الذي تعيشه المرأة في المجتمع الإسلامي، ومن ثم عمموا النتائج التي توصلوا إليها خلال أبحاثهم على الرؤية الإسلامية حول المرأة، فكانت النتيجة أن (.. للمرأة مكانة أدنى ومختلفة عن مكانة الرجل، وهو أيضاً ما أوجدته الحضارة الإسلامية) (1).
إن هذا يعد خطئاً منهجياً كبيراً وقع فيه الكثير من الكتاب والباحثين، وذلك أنهم انطلقوا في دراسة واقع المرأة في الإسلام من التطبيقات، والتطبيقات قد تخطئ، وتختلف عن النظرية. فإذا أريد معرفة الرؤية الإسلامية حول المرأة يجب أن تكون نقطة الانطلاق، التشريع الإسلامي، وحينها إذا أثبت الباحث اختلافاً بين النظرية والتطبيق، فإن الخطأ سيكون عندها في جانب التطبيق، وهذا هو الاتجاه الصحيح في دراسة هذا الموضوع وفي كل موضوع، وهو ما سيكون منهجنا في هذه الدراسة حول وضع المرأة في الإسلام.
ولكن بما أن هذا الموضوع من السعة بحيث لا يمكن في حدود هذا البحث الإحاطة بجميع أطرافه، ارتأينا أن نتناول بعض الجوانب، فنركز البحث عليها، وقد فضلنا أن تكون هذه الجوانب، مما ركز عليه أعداء الإسلام، في كونه مصادراً لحقوق المرأة المسلمة، من قبيل الحرية والمساواة اللذين طالما كانا مدخل الأعداء للنيل من الإسلام فيما يتعلق بالمرأة.
المساواة بين الرجل والمرأة
قالوا عن الدين الإسلامي: بأنه دين يصادر حقوق المرأة، ويميز بينها وبين الرجل فلا مكان للمساواة فيه بينهما، فهل يعد هذا القول صحيحاً؟.
لابد قبل الجواب على هذا السؤال من التحديد الدقيق لمعنى المساواة لنرى صحة ما قيل من عدمها.
فالمساواة تعني (جعل أشياء على مستوىً واحد.. انعدام الفروق بين الناس من الوجهة القانونية)(2).
إن المعاجم اللغوية تناولت مادة (سوي) التي تشتق منها المساواة بصورة مطلقة بما يوهم عدم مراعاة الفروق الذاتية بين الناس في فرض الحقوق والواجبات، ولعل عدم الاشارة للفروق ناشئ من الاعتماد على ضرورية الأمر وبداهته.
ولكن تسبب هذا الإهمال - غير المقصود - في الايهام بعدم أهمية الفروق، وانعكاساته على قضية المرأة، والرؤية الإسلامية لها، دفعنا إلى ضرورة التدقيق في هذا الأمر.
لقد تعمد أعداء الإسلام، ومن حذا حذوهم التلاعب في المفاهيم للنيل من الإسلام وتشويه صورته أمام أبنائه والعالم، ومن الأمور التي مارسوا دوراً خبيثاً فيها، عبر التلاعب بالألفاظ مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، فلابد من توضيح الإشكال الذي ركزوه في الأذهان حول موضوع المساواة.
بناءاً على ما تقدم ذكره ومن أجل توضيح الإشكالية السابقة وحلها يمكن سلوك طريقين في ذلك:
1) القول بأن هناك تسامحاً في إطلاق مفهوم المساواة على المساواة في الحقوق والواجبات، حيث يفترض أن يراعي التشريع في فرض التكاليف الحالات العمرية والعضوية والنفسية بين الناس على اختلاف أجناسهم وأعمارهم وحالاتهم، وبما أن فرض التكاليف كان قد روعيت فيه هذه الاختلافات التي تقتضي عدم المساواة من حيث الدقة، نقول إن هناك تسامحاً في إطلاق مفهوم المساواة على الحالات المذكورة.
2) القول بأن هناك فرقاً بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم المساواة؛ فالمعنى اللغوي يعني عدم الفرق بين الناس في فرض الحقوق والواجبات، من جميع الجهات، في حين يعني الاصطلاحي مراعاة الحالات المختلفة - العمر، الحالة العضوية والنفسية - للناس عند فرض التكاليف عليهم.
بعد أن حددنا معنى المساواة بصورة دقيقة، نعود إلى الدور الذي مارسه أعداء الإسلام للنيل منه من خلال التلاعب بمفهوم المساواة، فنسألهم عن الذي يعنونه بالمساواة، فهل هو المعنى اللغوي؛ أي المساواة مع عدم الالتفات إلى الفروق بين الناس، أم أن مقصودهم هو المعنى الآخر الذي يفترض مراعاة الفروق بين الناس عند فرض الحقوق والواجبات عليهم؟.
فإن كان مقصودهم المعنى الأول، فإنه مردود حتى من قبل التشريعات الوضعية الغربية التي لا تشرع قوانين على أساس المساواة المطلقة وإنما تراعي بعض الفوارق العمرية في فرض الحقوق والواجبات؛ فكل تشريع لابد أن يراعي الفروق، على الأقل العمرية، في فرض الحقوق، وهذا ما يتلائم مع الفطرة الإنسانية.
إذن لا يمكن أن تكون المساواة المقصودة في فرض الحقوق والواجبات هي المساواة بالمعنى الأول.
وأما إن كان مقصودهم الثاني، فإن المساواة التي فرضتها الشريعة المقدسة ترد ادعاءاتهم؛ لشيوعها في التشريعات الإسلامية.
من خلال ما تقدم يتبين أن ما يدعو إليه هؤلاء، والذي يحاكي الدعوات التي لا تميز بين الرجل والمرأة في شيء (إنما هو تشابه حقوق الرجل والمرأة لا تساويهما. إن شعار (المساواة في الحقوق) لصقه أدعياء التوجه الغربي، الذي يرجع في واقعه إلى (التشابه في الحقوق))(3).
إن القانون الإسلامي يساوي الذكر مع الأنثى في كل الأمور إلا موارد خاصة استثنائية قطعية تتعلق بالفروق العمرية - الحالة العضوية والنفسية، والتي لا سبيل إلى انكارها حتى من قبل أصحاب الدعوات المارة الذكر.
خلاصة القول: إن المساواة الحقيقية هي المساواة التي تراعى فيها الحالات والفروق بين الناس عند وضعهم أمام القانون.
المساواة بين الرجل والمرأة في القرآن
تختلف النظرة القرآنية إلى المرأة عن نظرة الكتب السماوية الأخرى إليها؛ فالكتب الأخرى تميز الرجل عن المرأة من حيث التكوين - وغيره - في حين لا يرى القرآن فرقاً بين الرجل والمرأة على كافة الأصعدة، اللهم إلاّ تلك الاختلافات التي تتعلق بالجوانب العضوية والنفسية والتي سبق الخوض فيها.
فإذا (أردنا أن نرى وجهة نظر القرآن بصدد تكوين الرجل والمرأة يلزمنا أن نلتفت إلى مسألة الطبيعة التكوينية للرجل والمرأة.. يتحتم علينا أن نلاحظ هل أن القرآن اعتبر الرجل والمرأة من طبيعة واحدة أم أنهما من طبيعتين) (5) مختلفتين كما جاء في الكتب السماوية الأخرى؟.
إن تتبع الآيات القرآنية يدلنا على أن القرآن الكريم لم يكن قد ميز - من حيث التكوين - بين الرجل والمرأة فقد ورد في القرآن قوله تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها.. )(6).
كما ورد قوله تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (7).
هذا بالنسبة للجانب التكويني، أما المساواة بين الرجل والمرأة على الأصعدة الأخرى ففي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلى ذلك نذكر منها:
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (8).
فقد نقل صاحب (تفسير نور الثقلين) في تفسير الآية السابقة التالي: (مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء الرسول(ص) فقالت: هل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار! فقال: ومم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فانزل الله تعالى هذه الآية - يعني (إن المسلمين والمسلمات.. ) ) (9).
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل.. ) (10).
(أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ..)(11).
فلم تميز الآية السابقة الرجل عن المرأة، وإنما عاملت الاثنين على قدم المساواة. وهناك آيات كثيرة تدل على أن القرآن الكريم لم يكن قد ميز بين الرجل والمرأة وانما عاملهما بالتساوي مع حفظ الفارق الطبيعي بين الطرفين ومراعاته.
وقفة مع آية القوامية
لقد حاول البعض استغلال آية القوامة للتشنيع على الدين الإسلامي كدليل على تفضيل الرجل على المرأة.. فهل تدل الآية الكريمة على ذلك؟.
قبل أن نبدأ بالحديث عنها نذكر نص الآية الكريمة:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.. ).
إن (درجة القوامة هذه ليست نقصاً في المرأة مطلقاً بل القوامة أو (القيادة أو الأمارة) شيء لابد منه لتسيير الحياة بصورة منظمة و(... أنه لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر) أي أن القوامة مفروضة حتى على الرجل نفسه، فهل أن الرجال يرفضون تنصيب قائد عليهم) (12).
فالقوامة إذن لا تعد انتقاصاً من حق المرأة، وتفضيلاً للرجل عليها، بقدر ما هي آلية تنظيمية تفرضها ضرورة السير الآمن للأسرة، كما أن القيّم لا يعنى به المفضل على غيره وإنما (هو الذي يقوم بأمر غيره، والقيّام والقيامة مبالغة منه) (13).
أما المقصود بقوله تعالى: (بما فضل بعضهم على بعض) فهو (ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء. وهو زيادة قوة التعقل فيهم، وما يتفرع عليه من شدة البأس والقوة والطاقة على الشدائد من الأعمال ونحوها) (14) وذلك في مقابل قوة العاطفة التي تتميز بها المرأة وما يتفرع عليها من الرقة، والشفافية، وعدم القدرة على احتمال الصعب الشديد من الأعمال ونحوها.
ما تقدم ذكره كان في الرؤية القرآنية للمساواة بين الرجل والمرأة، وفي سيرة وأحاديث رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) الكثير مما يدل على المساواة الإسلامية بين الرجل والمرأة.
فعلى صعيد طلب العلم مثلاً ورد عن رسول الله (ص) قوله: (طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة). كما جسد ذلك عملياً، حيث مارس عملية التعليم بنفسه فقد ورد في الأثر أنه (جاءت امرأة إلى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتك فيه، تعلمنا ما علمك الله؟ قال: اجتمعن يوم كذا وكذا في موضع كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن النبي (ص) فعلمهن مما علمه الله) (15).
وعلى الصعيد السياسي لم يكن الإسلام قد فرق في التعامل بين الرجل والمرأة فيما يخص أمور الدولة، فقد ذكر آية الله السيد صادق الشيرازي عن كتاب كشف الغمة الأمر التالي:
عن سودة بنت عمارة الهمدانية - في حديث دخولها على معاوية - قالت:
(والله لقد جئته - تعني أمير المؤمنين (ع) - في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا. فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي بلطف ورفق ورحمة وقال: ألك حاجة؟.
قلت: نعم، فاخبرته الخبر. فبكى ثم قال - رافعاً طرفه إلى السماء -:
اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك. ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها:
(بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) (16) فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه والسلام. قالت: ثم دفع الرقعة إلي، فوالله ما ختمها بطين، ولا خذمها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنّا معزولا) (17).
حرية المرأة في الإسلام
عرّفت الحرية بتعريفات شتى نذكر منها:
(حق المرء في العيش حراً من دون ضغط أو إكراه أو قهر، وممارسة حرياته كاملة كحرية الفكر وحرية الرأي، وحرية المعتقد) (18).
كما عرفت من قبل الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الفرنسي بأنها:
(قدرة الإنسان على إتيان كل عمل لا يضر بالآخرين).
أما وفق الاصطلاح الشرعي فقد عرفت الحرية بأنها:
(ما يميز الإنسان عن غيره، ويتمكن بها من ممارسة أفعاله وتصرفاته، بارادة واختيار من غير قسر ولا إكراه، ولكن ضمن حدود معينة) (19).
من ينظر في هذه التعريفات المتقدمة - باعتبارها نموذجاً يمثل وجهة نظر الإسلام ووجهات النظر المقابلة - يتبين أن الفارق بينها هو في الحدود التي رسمها كل تعريف، فالتعريف الإسلامي وضع الحدود التي تضمن الحرية المسؤولة في حين وسع التعريف المقابل إطار الحرية بالمقدار الذي يوصلها إلى الفوضى.
فالتعريفات المقابلة خاضعة للمذهب الفردي الذي يقدس الفرد، ويطلق حريته بحيث ينحسر دور الدولة في حفظ الأمن والنظام، في حين يتخذ الإسلام طريقاً وسطاً بين إطلاق الحرية، ومصادرتها.
لقد انعكست النظرية الإسلامية، والنظريات المقابلة على مسألة حرية المرأة حتى غدت المرأة في كل الأنظمة الأخرى تتجاوز الحدود في تصرفاتها وسلوكها تحت غطاء الحرية، وهو ما دفع إلى أن ينظر إلى حرية المرأة في الإسلام بالقياس إلى حرية المرأة الغربية؛ مما قاد في النهاية إلى اتهام الإسلام - ظلماً - بمصادرة حرية المرأة، فهل يصح ذلك؟.
إن (المرأة إنسانة كالرجل فلها حقوق وعليها وواجبات كما أن للرجل حقوقاً وعليه واجبات ولذا فان الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها الرجل كلها موجودة للمرأة أيضاً من حرية الرأي والعمل والتجارة وغيرها) (20).
فالمرأة لم تكن قد أعطيت حريتها بالقدر الذي أعطاها إياها الإسلام، بناء على الحرية المدروسة المتوازنة، بخلاف الأنظمة الأخرى قديمها وحديثها، فالمرأة لم تحظ (في تاريخ الحضارات القديمة ما عدا الحضارة المصرية بأي نظرة إنسانية كريمة، وإنما كانت عند الرومان واليونان وفي شريعة حمورابي وعند الهنود واليهود والمسيحيين.. محتقرة وملعونة لأنها أغوت آدم، ورجساً من عمل الشيطان، بل هي أحياناً تعد في عداد الماشية المملوكة) (21).
لقد خلق الله سبحانه المرأة لتكون عنصراً فاعلاً في المجتمع الإنساني، لأنها طرف أساسي فيه يقابل الطرف الأول (الرجل)؛ فمنهما يتكون أفراد المجتمع الإنساني؛ قال الله سبحانه: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا) (22)، كلا إنما خلقهما لمهمة خطيرة لها أبعادها، كما لها حيويتها(23) وهذه المهمة الحيوية التي تكون المرأة وفقها فعالة في المجتمع لا يمكن أن يتسنى أداؤها دون أن يكون لها القدر اللازم من الحرية التي تتناسب مع هذا الدور الفاعل والخطير وهو ما توجه إليه الدين الإسلامي، فوفره للمرأة وفق الأطر والضوابط الشرعية.
لقد أعطى الدين الإسلامي للمرأة حريتها في كافة الأصعدة، ولكن الحرية التي أعطاها لها الإسلام تتميز في سموها عن تلك التي أعطتها الأنظمة الأخرى للمرأة؛ فالحرية إذا لم تكن وفق أطر وضوابط لا يمكن أن تسمى حرية، وإنما تدخل في إطار الفوضى، فالمرأة في ظل الأنظمة الغربية أعطيت الحرية، ولكن أية حرية؟ إنها الحرية التي تفتقر إلى الضوابط والأطر الصحيحة؛ لذا نجد انعكاسات هذه الفوضى تتجسد في تفكيك الأسرة التي تعد المرأة عمادها، وكذلك في انعدام القيم في المجتمع الذي تناصف المرأة فيه الرجل.
أما الدين الإسلامي فقد أعطى للمرأة حريتها، ولكنها الحرية المسؤولة، التي تولد في داخل المرأة وازعاً ذاتياً يحول بينها وبين الخروج عن الخطوط التي رسمها الإسلام، والتي يعد الخروج عليها مورد خطر على المجتمع، ولكن هل اقتصرت حدود الحرية الإسلامية التي منحت للمرأة على صعيد دون آخر؟
(إن الحقوق التي يتمتع بها الرجل كلها موجودة للمرأة أيضاً من حرية الرأي والعمل والتجارة وغيرها من سائر الحقوق الإنسانية الأخرى) (24).
من الحريات التي أعطاها الإسلام للمرأة:
1- حرية الاجتهاد وطلب العلم:
(باب الاجتهاد مفتوح في الإسلام لمن كان أهلاً له.. فالحرية ثابتة لكل إنسان شرط أن يكون مسلماً مؤمناً بالغاً عاقلاً) (25) ولم تكن المرأة مستثناة من هذه الحرية؛ فالآيات والروايات لم تستثن المرأة من وجوب طلب العلم، ولم تخص الرجل وحده بطلب العلم؛ فقد وردت الآيات بلسان مطلق وكذلك الروايات، وسنذكر منها على سبيل المثال الشواهد التالية:
(.. وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (26).
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (27).
وورد عن رسول الله (ص) قوله: (قلب ليس فيه شيء من الحكمة كبيت خرب، فتعلموا وعلموا، وتفقهوا، ولا تموتوا جهالاً، فإن الله لا يعذر على الجهل) (27).
وورد عنه (ص) قوله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم.. به يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام.. ) (28).
فالشواهد السابقة لم تكن قد استثنت المرأة من طلب العلم وإنما جاءت مطلقة مما يدل على أن الإسلام قد منح المرأة حرية العلم والاجتهاد، بل إن الشاهد الأخير قد أوجب ذلك على المرأة.
2- الحرية السياسية:
يرى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتاب القانون بأن الإسلام أعطى الحرية السياسية للمرأة، ورد كل أدلة القائلين بعدم حريتها في ذلك، مستفيداً في ذلك من ردود العلماء الأولين.. نورده هنا بتصرف:
أما الكتاب: فلا دلالة في الآية (الرجال قوامون) إلاّ على ما يخص الشؤون البيتية حيث يلزم في البيت الإدارة، والإدارة لابد فيها من مدير، فلا يقاس بذلك ما نحن فيه، ولذا قال سبحانه: (وبما أنفقوا من أموالهم) (29).
وأما السنة: فلا سند نقي فيها، بالإضافة إلى احتمال أنه قضية خارجية لا أنه حكم ويشير إليه ما رووه من أنه لما بلغ رسول الله (ص) أن أهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة).
وكذا ما رواه البخاري وابن حنبل والنسائي في هذا المجال.
ويؤيده: إن قوم بلقيس أفلحوا حيث أسلمت وأسلموا معها لله رب العالمين.
وأما الإجماع: فلا إجماع إيجابي، والسلب لا يدل على الإيجاب.
وأما العقل: فما استدلوا له بان المرأة عاطفية صحيح، لكنها أيضاً عقلانية، فمن جانب عاطفية، ومن جانب عقلانية؛ فلا يكون حينئذ دليلاً عقلياً صالحاً لاستناد الحكم إليه(30).
3- حرية العمل والتجارة:
ليس هناك دليل على منع الإسلام المرأة من ممارسة العمل، ولقد أفتى العلماء بناءً على الأدلة الشرعية بجواز العمل بالنسبة للمرأة، (فإن الحقوق الإنسانية.. من حرية الرأي والعمل والتجارة وغيرها.. فان للمرأة كما للرجل الحق الكامل في ممارسة أي نشاط) (31) ولكن هناك أمراً قد يتعارض مع حرية العمل ألا وهو الخروج من البيت بدون إذن الزوج، ولكن هذا مبني على القول بعدم جواز الخروج من البيت - بالنسبة للمرأة - أما بناءاً على القول بجواز الخروج من البيت بدون إذنه - وهو ما يقول به بعض العلماء - فإن الإشكال المطروح هنا لا يأتي.
إذن فحرية العمل بنفسها ليست محجوبة عن المرأة في الإسلام؛ ولكن بشرط ألا تكون على حساب الجوانب الأخرى من حياتها الأسرية؛ فلو أن حرية العمل تعارضت مع الواجبات الأخرى للزوجة، فإن الواجبات الأخرى تقدم باعتبارها واجبات لا بناءاً على اعتبارات أخرى.
هذه بعض الحقوق التي منحها الدين الإسلامي للمرأة ذكرناها بالمقدار الذي يتناسب والمقام وإلا ففي الموضوع كلام كثير.