التماسك العائلي واتجاهات المستقبل
د. سعد العبيدي
2018-09-02 07:24
المقــــدمــة
1. العائلة بشكلها التقليدي تكوين، أو ترتيب لمجموعة من الأفراد يرتبطون فيما بينهم برابطة الدم، ويقيمون كذلك في وسط يشتركون فيه بكثير من مستلزمات العيش والبقاء، والعائلة هذا التنظيم الاجتماعي الأصغر تشكل مع غيرها من العوائل مجتمعا معينا، يتأسس في كل جوانبه على متانة تنظيمها وحسن تكوينها، أو بمعنى آخر إن العائلة تلعب دورا فاعلا في نمو تلك التركيبة (المجتمع) وديمومتها، لأنها القاعدة التي يتأسس عليها البناء الاجتماعي، فان كانت متينة، رصينة، صالحة كان المجتمع فاعلا، قادرا على مواجهة ظروف الحياة وضغوطها، والعكس صحيح أيضا، فإن كانت مفككة متصارعة كان المجتمع ضعيفا غير متجانس.
والعائلة من الناحية الأخرى صيغة أرادها الله سبحانه وتعالى للإنسان مع بداية خلقه (نبينا آدم وحواء (ع)) وهي ذات الصيغة التي لجأ إليها النبي آدم (ع) بعد نزوله على الأرض وسلكها أبناؤه من بعده، واستمرت كذلك حتى وقتنا الراهن، حاجة أساسية لعموم الناس على الكرة الأرضية، تؤمِن الحماية اللازمة للمجتمعات بصفة عامة من التحلل والانهيار، وتقيها من الأمراض والآفات ذات الصلة بالجنس والسلوك، لأنها -أي العائلة- تتأسس على ضوابط الزواج الشرعي، والزواج بحد ذاته تصريف شرعي للطاقة الجنسية اللازم تصريفها، ووقاية من التحلل الجنسي وأمراضه المتعددة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الزواج وتكوين العائلة على أسسها الشرعية يفرض على الشباب الانصياع للحياة الاجتماعية في ضوء الأصول والضوابط المرعية، ويدفع إلى التمسك بمبادئ الدين الحنيف والتربية القويمة، ويبعث على الاستقرار والسكينة، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (1)، ويؤدي تلقائيا إلى إقامة روابط، وعلاقات إنسانية وثيقة ومستقرة، بعيدا عن الاختلاف والتوتر والصراع، ويثمر في المحصلة ألفة ومودة حميمة، ومحبة خالصة تكسب الأفراد مناعة نفسية تبعدهم بحدود ليست قليلة عن احتمالات التعرض لكثير من الاضطرابات(2).
وللعائلة اليوم مكانة بارزة في المجتمع الإنساني، بل وتعد الركن الأساسي في كيان المجتمع المعاصر:
فهي التي - وعلى ضوء إمكانياتها وقدراتها - توسع مدارك الفرد.
وهي التي تدفعه إلى العمل والتقدم بعد أن تمنحه التنشئة الاجتماعية التي يحتاجها.
وهي كذلك التي تدافع عنه عندما تداهمه المشاكل والمصاعب وعندما يتعرض إلى الأخطار والضغوط التي تكمن في مجتمعه غير المستقر.
2. إن العائلة تكوين اجتماعي صلد في قلب الأمة، وجزء من الأجزاء المهمة التي تكوّن جسم الأمة، وتنظيم يتفاعل مع كل الأجزاء المكونة لجسم الأمة، وله صلات قوية مع جميعها مثل صلاتها بالمدارس، والمعاهد، والمصانع، والمساجد، والحسينيات، والنوادي، والمؤسسات السياسية، وجميع الهيئات الاجتماعية الأخرى، وبما يجعلها بؤرة المجتمع ومركز دائرته التي يسعى الجميع في محيطها إلى تكوين مجتمع قادر على سد الحاجات الضرورية للإنسان وبمستوى مقبول من الرضا والاتزان.
التماسك العائلي
3. رغم عدم الوضوح في معنى التماسك العائلي كما يؤكد بعض علماء الاجتماع، إلا أنه مصطلح أستعمل في وصف الحالات التي يرتبط فيها أفراد العائلة بعضهم بالبعض الآخر بروابط اجتماعية وحضارية مشتركة، وأستخدم كذلك لتفسير نوع العلاقة بين الأفراد في الجماعات الصغيرة (العائلة) تلك العلاقة التي تؤمن لهم تحقيقا أفضل للأماني والأهداف، واشتراكا أشمل في بعض الخصائص والصفات، وتمثيل أحسن للقيم والتقاليد، والتزام أعم بالمصالح المشتركة، وتمسك أقوى بالأخلاقيات والسلوكيات المشتركة.
والتماسك بشكل عام وصف لنوع من العلاقات عبّر عنه بعض العلماء العرب مثل الفارابي بأنه مستوى من الاشتراك في اللغة واللسان والمنزل، وعرفه البعض:
درجة انجذاب الأعضاء للجماعة(3). وعرفه آخرون:
العلاقة التعبيرية الإيجابية التي تقع بين شخصين أو أكثر(4).
أما التماسك العائلي فيمكن تعريفه بأنه: نوع من علاقات (التجاذب) في العائلة التي تنم عن اشتراك أفرادها بواقع معين (الدم، السكن، الأهداف) والتزامهم بتقاليد معينة (الاحترام، التقدير، التواد، التراحم) وتكافلهم في العيش بحدود معينة (المسؤولية، الالتزام، التعاون).
والتماسك على وفق هذا التعريف، وضع اجتماعي بمقومات، وعوامل تشير إلى الاستدلال على درجاته، يتم الرجوع إليها في حالات القياس، وتقدير المستويات الخاصة به، بينها:
أ. توحد الهدف.
للعائلة - أي عائلة - أهداف قريبة تسعى إلى تحقيقها، وأخرى بعيدة تحاول الوصول إليها بشتى الأساليب والوسائل، وهي أهداف يتطلب إنجاز البعض منها التعاون، وتظافر الجهود لكافة الأفراد فيها، لكن التعاون هذا فرض يعتمد على طبيعة الهدف الذي يضعه كل واحد منهم أساسا لمسيرته في العائلة، فعليه إن كانت الأهداف متعددة يكون التعاون لتحقيقها قليلا، وإن كان الهدف موحدا لعموم أفراد العائلة فإن التعاون سيكون قويا، وفي هذه الحالة (التعاون) فإن عموم أفراد العائلة يتجمعون في مواقفهم ومساعيهم من أجل إنجاز الهدف، وخير مثال لنا في هذا المجال ما يحدث في المجتمعات الزراعية، التي يكون الهدف الأساسي للعائلة هو زراعة الأرض، وهو الهدف الذي يتعاون الجميع ويتوحدون من أجل تحقيقه، وتوحدهم هذا يعني تماسكا في الرؤية، وفي المساعي، وفي الاهتمامات وبمستوى يفوق أقرانهم في المجتمعات الصناعية التي يتجه فيها كل فرد من أفراد العائلة الواحدة إلى السعي لتحقيق هدف ما، قد لا يجد فيه الأخ الآخر أية أهمية لتحقيقه، أو فرصاً متاحة لتقديم العون من أجل تحقيقه، لأنه هو أيضا يسعى لهدف من نوع ثان، وهكذا تعددت الأهداف، وقل التعاون الذي أضعف التماسك العائلي.
ب. التكافل.
تمر العائلة بظروف عيش متعددة، ومواقف حياتية مختلفة، تحتاج خلالها وفي أحيان ليست قليلة إلى وقوف أفراد العائلة مع بعضهم البعض للتعامل معها (المواقف) ولتجاوز آثارها، فالوقوف مع الأب مثلا، والمساهمة في دعم جهوده لتحسين وضع العائلة اقتصاديا يعني تكافلاً عائلياً وبمستوى يؤشر قدرا معقولا من التماسك، ومساعدة الأخ لأخيه الأصغر ماديا لإكمال دراسته، أو لإتمام زواجه يعني تكافلاً يؤشر مستوى مقبولا من التماسك، واشتراك جميع أفراد العائلة ومساهمتهم في تشييد دار العائلة تكافل يؤكد قدرا من التماسك.
وفي الجانب الثاني فإن ترك الأب المسن والأم العجوز في دار المسنين بخلاف رغبتهم يعبر عن انعدام التكافل الذي يؤشر ضعفا في التماسك، وهكذا.
ج. المسؤولية.
للأب في العائلة الشرقية، أو الغربية مسؤولية تجاه أفراد عائلته سواء في مجال التربية القويمة، أو في مجال توفير العيش اللائق، وللأم مسؤوليتها في التربية ودعم الأب، ولباقي أفراد العائلة مسؤولياتهم في بعض الجوانب(5) ولهؤلاء جميعا أدوار تبعا لمسؤولياتهم تلك، يقومون بتأديتها ضمن العائلة الواحدة، وعلى أساس الالتزام بالمسؤولية وتنفيذ الأدوار يمكن أن يكون التماسك قويا أو ضعيفا، وبمعنى أدق كلما تحمل أفراد العائلة مسؤولياتهم بشكل صحيح كان التماسك جيدا، وكلما أدوا أدوارهم ضمن العائلة بشكل واضح ومضبوط كان التماسك معقولا.
وفي الجانب المقابل، كلما تنصل الأب من مسؤوليته لتوفير العيش المناسب لأفراد عائلته كان التجانس ضعيفا، وكلما ابتعدت الأم عن دورها كربة بيت وكقدوة لبناتها كان التماسك هشا.
د. التمثل القيمي.
لكل مجتمع قيمه التي تشكل ضوابط السلوك الفردي والجماعي لأبناء ذلك المجتمع، وللعوائل أيضا قيمها التي تستمدها من مجتمعها الأصلي، ومن تعاليم دينها، وسنن أنبيائها،، وتوجيهات أوليائها، ومنها على سبيل المثال:
طاعة الأب واجبة.
وتقدير الأم أمر ملزم.
واحترام الأخ الأكبر مسألة واردة.
والعطف على الأخ الأصغر موضوع قائم.
وفيها أيضا يُنفَذ أمر الأب، ويُسمَعُ قول الأم.
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (6).
وفيها كذلك نهي عن التجاوز على الأب السلطة الأعلى في العائلة.
وغيرها من قيم إذا ما تمثلها أفراد العائلة في سلوكهم أثناء التعامل مع بعضهم البعض سيكون التماسك فيما بينهم جيدا، وإذا ما ابتعدوا عنها وآمن كل منهم بمفاهيم على النقيض منها سيكون عندها التماسك بأقل المستويات.
هـ. وحدة الخصائص
هناك بالإضافة إلى القيم والمفاهيم المذكورة في أعلاه عادات وخصائص تميز المجتمعات، وتنتشر بين العوائل لها صلة مباشرة بموضوع التماسك، فالأب الذي اعتاد تأدية الفرائض الدينية بشكل صحيح، واعتاد معه الأبناء السير بنفس النهج تكون عائلتهم متماسكة، أو أكثر تماسكا، بالمقارنة مع عائلة أخرى تمتاز باعتياد الأب وحده تأدية الفرائض دون الأبناء الذين يلتزمون بعادات أخرى على النقيض من عاداته، والعائلة التي فيها الابن الأكبر اعتاد التجاوز على المال العام على العكس من باقي إخوانه ستؤدي عادته هذه إلى ابتعادهم عنه أي ضعف التماسك.
ووحدة الخصائص التي نقصدها هنا لا يقتصر تأثيرها على التماسك في جوانب العادات الإيجابية فقط، إذ إن العائلة التي اعتاد معظم أفرادها أكل المال الحرام مثلا، يمكن أن تكون متماسكة سلبيا، أي من زاوية التوحد على الفعل الحرام إذا ما توفرت مع هذه العادة شروط أخرى.
العائلة والتماسك
4. العائلة مصطلح في علم الاجتماع يشير إليها البعض على أنها:
المنظمة الدائمة نسبيا والتي تتكون من الزوج والزوجة وكذلك الأطفال أو بدونهم.
ويؤكد البعض على أنها: المنظمة التي تتكون من رجل وامرأة على انفراد مع وجود أطفال، تربطهم علاقات تعتمد على أواصر الدم والمصاهرة والتبني والمصير المشترك.
ويرى البعض الآخر أنها: وحدة بنائية تتكون من رجل وامرأة تربطهما علاقات روحية متماسكة مع الأطفال والأقارب، ويكون وجودها قائما على الدوافع الغريزية والمصالح المتبادلة والشعور المشترك الذي يتناسب مع أفرادها ومنتسبيها.
بينما يعرفها آخرون بأنها: تجمع طبيعي بين أشخاص انتظمتهم روابط الدم فألفوا وحدة مادية ومعنوية تعد من أصغر الوحدات الاجتماعية التي عرفها المجتمع الإنساني(7).
هذا ومن مجموع التعاريف التي تناولت مصطلح العائلة نصل إلى تصور على أنها:
منظمة اجتماعية تتكون من أفراد يرتبطون فيما بينهم بروابط اجتماعية وأخلاقية وروحية. وهي أي العائلة تصنف في وقتنا الحالي إلى عدة أصناف هي:
(آ) العائلة النووية:
ويعني هذا النوع من العوائل أن العائلة صغيرة الحجم تتكون من الزوج والزوجة والأطفال الذين يعيشون في بيت واحد. وهذا وصف يمكن تعميمه على العوائل في المجتمعات الحضرية، والصناعية، وفي البيئات المهنية، والشرائح المتوسطة. ومن خصائص هذا النوع من العوائل بالإضافة إلى قلة أفرادها هو أن التعامل في إطارها أكثر ديمقراطية ومرونة لأن الزوج فيها لا يتعرض إلى القيود التي تفرضها عليه سلطة الجد مثلا، أو الأخ الأكبر، هذه السلطة التي كانت تقرر مصير ومستقبل العوائل في الأنواع الأخرى. كما إن الزوجة فيها لا تُحكم من قبل والدة زوجها، ولا تخضع لإرادتها. وإن تربية الأطفال ورعايتهم والعناية بهم في إطارها مقصورة على الأبوين، ون الأقارب في مجالها نادرا ما يتدخلون في شؤونها.
وهذا النوع من العوائل يمكن أن يكون التماسك فيها مقبولا، لأن التفاهم فيما بين أفرادها موجودٌ، والتعاون بينهم ميسور، وأهدافهم واضحة، إذا لم تتدخل متغيرات البيئة الصناعية مثل تعدد الأهداف، وضعف المسؤولية، وقلة التكافل لتؤثر سلبا على مستويات تماسكها.
(ب) العائلة الممتدة:
إنها العائلة الكبيرة الحجم التي تتكون من الزوج والزوجة والأطفال وربما الجد والجدة وبعض الأقارب، يعيشون جميعا في بيت واحد، ويتقاسمون مصادر رزق واحدة وبمستويات عيش تكاد تكون متقاربة، وهذا النوع من العوائل يكثر وجوده في المجتمعات الزراعية، والقروية وفي المجتمعات المحلية العشائرية، والقبلية، وكذلك في البيئات الاجتماعية العمالية وذات الدخل المحدود، وقد يسمى هذا النوع من العوائل بالعائلة الأبوية التي يخيم عليها الجو السلطوي، فالأب فيها يحتل منزلة اجتماعية أعلى بكثير من منزلة الأم، حيث الانفراد باتخاذ القرارات، والإجراءات التي تتعلق بمستقبل العائلة والأطفال. وعلاقات القرابة في العائلة الممتدة قوية جدا وعميقة، فهي تقدم المساعدات للأقارب وتستلم المساعدات منهم، كما إن الأقارب يساهمون من جانبهم في تربية الأطفال واتخاذ القرارات الخاصة بتنظيم شؤونها وتقرير مستقبلها. وهذه العوائل عادة ما يكون أفرادها موحدين في الأهداف القريبة والبعيدة التي يسعون جميعا لتحقيقها وبذا تكون مستويات التجانس فيما بينهم عالية نسبيا بالمقارنة مع الأنواع الأخرى من العوائل.
(ج) وعلى أساس الثبات المهني والقيمي لجأ بعض علماء الاجتماع إلى تقسيم العوائل تقسيمات أخرى وكما يأتي:
أولا. العائلة المستقرة.
ويقصد بها العائلة الكلاسيكية، أو التقليدية التي تقطن البيئات الزراعية والريفية، والقروية، وهذا نوع كان موجودا في أوربا قبل الثورة الصناعية، وفي اليابان والصين قبل بدء التصنيع، وكان موجوداً أيضا في البلاد العربية والإسلامية قبل خمسينات القرن الماضي، هذا وقد سمي هذا النوع بالعائلة المستقرة لأن أفرادها يعتقدون بأفكار اجتماعية، ودينية، وأخلاقية واحدة ويشاركون في أداء مهنة واحدة - أي أن الابن يزاول نفس مهنة أبيه - ويعتقدون بقيم متشابهة ويسلكون عادات وتقاليد متشابهة، ويعيشون ظروفاً اقتصادية، واجتماعية متقاربة، وإن العلاقات الاجتماعية التي تربطهم قوية ومتينة، الأمر الذي يسبب استقرار العائلة وترابط علاقات أفرادها، وتوحدهم في مجال تحقيق أهدافها وطموحاتها، وبالتالي تماسكها بشكل جيد(8).
ثانيا. العائلة الفرعية.
وهي العائلة الانتقالية، أي العائلة التي في طريقها نحو التحول من عائلة مستقرة إلى عائلة غير مستقرة، والعائلة الفرعية هي التي تتميز ببعض صفات العائلة المستقرة في الوقت الذي تتميز فيه ببعض صفات العائلة غير المستقرة، وتعتبر هذه العائلة مقطوعة الجذور لأنها فقدت صفاتها التقليدية، ولم يتح لها الوقت الكافي لكي تكتسب صفات العائلة الحديثة أي الصناعية , وتعد العائلة العربية في الوقت الحاضر عائلة فرعية تمر في مرحلة انتقال، لأنها كانت عائلة مستقرة، وهي الآن عائلة فرعية وسوف تتحول مستقبلا إلى عائلة غير مستقرة. وهذا النوع من العوائل هو الذي يزاوج بين القديم والحديث، فعاداتها وتقاليدها وقيمها قديمة نسبيا، بينما طراز معيشتها والأدوات التقنية التي تستعملها تكون حديثة بدرجة كبيرة. وعادة ما تكون مستويات تماسكها معقولة.
ثالثا. العائلة غير المستقرة.
وهي العائلة الحديثة التي تعيش وسط المجتمعات الحضرية والصناعية. وقد سميت بهذه التسمية أي غير المستقرة لأنها تعتقد بقيم وأيديولوجيات وممارسات مختلفة، فالإبن مثلا يعتقد بأفكار وآراء وقيم ومقاييس تختلف عن أفكار وآراء وقيم أبيه، كما إنه يمارس مهنة تختلف عن مهنة الأب، وتكون ظروفه الاقتصادية، والاجتماعية ليست متشابهة مع ظروف أخوته. وأمور كهذه تسبب عدم استقرار الأسرة، أي عدم وجود العلاقات الاجتماعية القوية والمتماسكة التي تربط أفرادها، وهذا ما يؤدي عادة إلى فشلها في تحقيق أهدافها الأساسية، أما العلاقات القرابية التي تربط أفراد هذه العائلة فتتميز بالضعف والبعثرة لكونها تستند على الجانب الرسمي والمصلحي، فالزيارات بين العائلة غير المستقرة وأقاربها تكون مقتصرة على المناسبات مثل الأعياد والأفراح والمآتم، ولا تتيح المجال لهم بالسكن معها في بيت واحد.
إن العائلة غير المستقرة صغيرة الحجم تغالي باستخدام برنامج التخطيط العائلي، يميل أفرادها إلى تولي الوظائف الأساسية، وترك الثانوية إلى الدولة، ولما كانت هذه العائلة تعيش في بيئة حضرية وصناعية معقدة فإنها تعتمد مبدأ تقسيم العمل، والتخصص فيه وتتمتع بمستوى اقتصادي رفيع وتكون عادة مرفهة ماديا واجتماعيا. إلا أنه ومن ناحية أخرى فان المشكلات الاجتماعية والحضارية التي تجابه هذه العائلة هي أكثر خطورة وأشد بأسا من المشكلات التي تجابه تلك العوائل المذكورة في أولا وثانيا. الأمر الذي ينعكس سلبا على مستويات تماسكها.
رابعا. العائلة المختلطة.
هي العائلة التي تتكون من أبوين ينحدران من أصول قومية، أو عرقية، أو اثنولوجية، أو دينية مختلفة، وبذا يكون الأولاد في هذا النوع من العوائل يمتازون بصفات مزدوجة تجمع بين صفات الأب وانتماءاته وصفات الأم وأصولها , وتتأصل العائلة المختلطة عادة في الزواج المختلط الذي يتعدى الخط القومي، أو الديني، أو الطائفي، وهذا يعني أنها تجمع أصولاً مختلفة، فقد يكون الأب سوريا والأم ألمانية، أو يكون الأب من الجنس الأصفر والأم سمراء، وقد يكون الأب مسلما والأم مسيحية، ونتيجة لهذا التداخل والازدواج في العائلة المختلطة فإن درجة تكيفها وتوافقها الزواجي والاجتماعي والثقافي أقل من تلك التي تميز العائلة غير المختلطة، وإنها تتعرض إلى مشكلات اجتماعية وثقافية معقدة قد تكون سببا في تصدعها وتبعثرها وانهيارها، كما إن الإحصاءات تشير إلى أن نسب الطلاق بين الأزواج فيها يفوق النسب في الأنواع الأخرى من العوائل، عليه فإن درجة تماسكها هي الأقل بالمقارنة مع الأنواع الأخرى من العوائل.
خامساً ـ وبالعودة إلى أنواع العوائل من وجهة النظر الاجتماعية وتطبيقها على المجتمعات البشرية في الوقت الحاضر، نرى أن العوائل الممتدة، والعوائل الفرعية هما النوعان اللذان يميزان المجتمعات العربية والإسلامية، بينما يتميز المجتمع الغربي، بكون العوائل فيه تنتمي إلى النووية وغير المستقرة في أغلب الأحيان.
ولو حاولنا إلقاء الضوء على الأسباب التي كانت وراء ذلك التوزيع، نجد:
آ. إن التحضر وظروف العيش التي كونتها الصناعة في الغرب كانت من بين العوامل الرئيسة في هذا التقسيم، فالوظائف المتيسرة وسبل الحصول عليها جعلت الابن يمتهن وظيفة أخرى غير التي يمتهنها الأب، كما إن مكان وجودها (الوظيفة) قد لا يكون في نفس مكان سكن العائلة، وإن دخلها بالمقارنة مع تكاليف المعيشة ونوع الاستهلاك يجعل كل فرد من أفرادها يجهد نفسه ليعيش هو بكفاية معقولة، وبذا تكونت بالتدريج وتحت ضغط الضرورات مفاهيم في المجتمعات الصناعية الحديثة تعزز التوجه لتكوين العوائل النووية لتسهل على الإنسان قبولها دون مشاكل نفسية واجتماعية، لذا نرى وفي كثير من الأحيان، لجوء الأب إلى الضغط على ابنته بعد بلوغها الثامنة عشرة لكي تترك البيت وتتوجه إلى المجتمع الواسع تفتش فيه عن عمل يعيلها بعيدا عن سلطة الأب وتوجيهاته إلا في بعض الأمور القليلة(9)، وبالتدريج صار الآباء وتبعا لظروف العيش من دعاة هذه القيم، وصار الأبناء من مناصريها على ضوء الاتكال على النفس وبناء الشخصية المستقلة والتمتع بالحرية الفردية وغيرها من مفاهيم تعزز قيمة الوجود أو الكيان النووي للعائلة.
وعلى نفس منوال التحضر نلمس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على سبيل المثال أن غالبية الريف حتى وقتنا الراهن ولحاجة الزراعة فيه إلى أيدي عاملة فإن الأب المزارع يتوجه إلى إنجاب أولاد بنسب أكبر من أقرانه في المدينة تماشيا مع هذه الحاجة، وعندما يكبر الأبناء فإن زراعة الأرض تتطلب مشاركة أولادهم في شؤونها حتى بعد زواجهم الأمر الذي يجعلهم يتجهون إلى السكن في نفس مكان سكن العائلة الذي يضم الأب والجد وربما الأعمام (عائلة ممتدة)، كذلك تحتم ظروف العيش في الريف أن يسكن الأبناء مع آبائهم على الأغلب لأن كثرة الأيدي العاملة في الأرض الزراعية تعني اتساع ثروتها الحيوانية، ومدخولاتها المادية التي تتطلب حماية تعتمد على العنصر البشري، ثم إننا وفي المجتمعات الزراعية الشرقية ما زلنا نعاني من بعض المشاكل فيما يتعلق بالتجاوز على حقوق الغير في مياه السقي مثلا وفي الرعي وغيرها، وهي عوامل تتطلب كثرة لأفراد العائلة تعزز قدراتها في الصراع مع العوائل الأخرى المجاورة، أو القريبة وهكذا. وهذا يعني أن الحاجة ومستويات التحضر فرضت واقعا أبقى العائلة الممتدة في الريف العربي والإسلامي ماثلة حتى وقتنا الراهن، رغم تقلصها بشكل ملموس في الآونة الأخيرة.
ب. اضطراب الأوضاع الاجتماعية: بالإضافة إلى التأثير الحضاري والاقتصادي في تحديد شكل العائلة فإن اضطراب الوضع الاجتماعي يؤثر هو أيضا في هذا المجال، ودعما لهذا التصور يمكننا أخذ المجتمع العراقي مثالاً جيداً لتأكيده، إذ إنه وحتى عام 1990 كان العراق مجتمعا تصنف في مدنه العائلة كعائلة انتقالية وفي ريفه أو غالبية ريفه حافظت العائلة على كونها عائلة ممتدة، وإن تلك العوائل في التصنيفين التزمت بقيم وتقاليد تعبر عن مستويات تماسك بدرجات جيدة، ونرى على ضوء هذا الالتزام أن العوائل التي انشطرت أو التي انتقلت إلى تصنيفات (غير النووية) وكَوّنَ أبناؤها عوائل جديدة بعد زواجهم وسكن بعضهم لاعتبارات الوظيفة وضرورات العيش في بغداد على سبيل المثال، فإنهم يتوجهون وأبناؤهم وزوجاتهم إلى بيت الوالد في مدينة الحلة أو النجف كل يوم جمعة، وفي غالبية العطل وفي جميع الأعياد والمناسبات، كذلك فإن الابن الذي أنشأ عائلة وسكن في حي البنوك ببغداد يحضر مع باقي أخوته المتزوجين أيضا والساكنين في أحياء أخرى من المدينة ليتناولوا طعام الغداء يوم الخميس أو الجمعة ويقضوا النهار في بيت والدهم، ليعودوا إلى بيوتهم آخر النهار وربما في اليوم الثاني، وهكذا فقد أصبحت هذه التوجهات قيما تميز العائلة العراقية الانتقالية وتشدها إلى بعضها البعض بدرجات عالية من التماسك، لكننا نرى وبعد عام 1991 وكلما تقدمنا في زمن الحصار وظروف القسر والحاجة والعوز والفوضى السياسية نجد أن تغييرا قيميا تدريجيا قد أصبح واضحا، فلم يعد الأب في العائلة العراقية وفي ظل الظروف البائسة قادرا على استضافة أبنائه على وجبة غذاء تجمعه والأحفاد، ولم يعد الابن راغبا بترك منزله ليبيت ليلة الخميس - الجمعة في بيت العائلة مع أخوته ليجتمعوا وأبناؤهم مع الأب خشية أن يسرق دارهم، ولم يعد من يسكن والداه في محافظة أخرى يرغب في أن يذهب إليهم في عطلة نهاية الأسبوع، لأن الذهاب إليهم قد يكلفه انفجار إطار سيارته في حر الصيف، وانفجاره يعني خسارة لا يمكن تعويضها، وإن كان من بين الذين لا يملكون سيارة خاصة فإن أجرة الذهاب إلى بيت الوالد في المحافظة الأخرى مع أبناءه وزوجته تعني دفعه كل راتبه الشهري أجرة للذهاب فقط، وفي هذه الحالة وجد نفسه مضطرا وبالتدريج إلى أن يقلل من عدد مرات الذهاب حتى تقتصر على المناسبات أو الأعياد لتتقلص مرة أخرى لأحد الأعياد فقط، وهكذا وجد العراقيون أنفسهم يعيشون مفاهيم العائلة النووية وغير المستقرة وإن لم يكن مجتمعهم قد حقق الانتقال إليها تاريخيا، لأن الإبن الأكبر وإن سكن قرب والديه اضطر إلى التغاضي عن إعالتهم أو تقديم العون لهم ولنفس الأسباب عجز عن مساعدة أخيه الطالب الجامعي لإكمال دراسته، وبذا أصبح مضطرا لممارسة نهج العوائل النووية وإن كان بطريقة ثانية قائمة على مفاهيم جديدة وظروف جديدة سوف تخلق بالتدريج قيماً جديدة في هذا المجتمع المسلم تختلط فيها المعايير بشكل يخل كثيرا بالتماسك.
ج. وتضاف إلى العوامل الحضارية والاقتصادية والاضطراب الاجتماعي في تحديد نوعية العوائل، عوامل أخرى قد تكون مساعدة، مثل الدين والسنن الإلهية، إذ إن في الإسلام على سبيل المثال تأكيداً على أواصر العلاقة والترابط والتواد والتراحم والإحسان والتعامل مع القربى وروح الجماعة، كعوامل أساسية للتماسك العائلي، وذلك من خلال العديد من الآيات القرآنية التي توصي وتلزم المسلم بذلك:
(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (10).(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (11).
لكن هذا لا يعني أن المجتمعات الغربية تفتقر إلى القيم التي تحث على الترابط والتماسك، إذ إن هناك بعض القيم السائدة حتى وقتنا الراهن يؤدي الالتزام بها إلى قدر من التماسك ونوع من حسن الترابط، مثل تحمل المسؤولية، وتعميم العدالة وغيرها، بالإضافة إلى وجود تيارات اجتماعية وسياسية في الغرب تسعى الآن للعودة إلى دور العائلة في المجتمع وإلى قيمها التي كانت موجودة قبل عشرات السنين، تلك القيم التي كان الالتزام بها يقدم شعورا بالأمان والاستقرار بدرجات تفوق مستوياتها في الوقت الحاضر، والتى وعى المجتمع تأثيراتها الإيجابية على التماسك العائلي.
طبيعة الحياة العائلية وانعكاساتها على التماسك
سادساً ـ إذا ما بقينا في نفس المجال النوعي للعائلة (النووية والممتدة والمستقرة وغير المستقرة) وقارنا بين تلك الأنواع في مجال التماسك نجد أنه وبما لا يدع مجالا للشك أن العوائل النووية وغير المستقرة والمختلطة يكون فيها التماسك وفي أحسن أحواله يقل درجات عن مستوياته في العوائل الممتدة والمستقرة والانتقالية، ومؤشراته يمكن إجمالها بالآتي:
أ) العزلة
عندما لا يشاهد الأب ابنه الذي غادر البيت بعد سن الثامنة عشرة أو أنه يعيش في نفس البيت بعزلة بدعوى الحرية الشخصية، والاعتماد على النفس عندها سوف لا يجد الأب فرصة للإلتقاء بالإبن في الأوقات الاعتيادية وقلة اللقاءات تزيد المسافة النفسية بينهما ولحدود يضعف التماسك عندها.
ب) الافتراق
إذا ما عاش أفراد العائلة الواحدة بعيدين عن بعضهم البعض، فإن كل واحد منهم سيجهل ظروف الآخر وإن الإحساس بالوجود العائلي سيضعف بالتدريج وضعفه يعني انفراط التماسك، لأن التماسك شعور بالارتباط ورغبة في تقديم العون، واتجاه للتواد، وهذه جميعها مشاعر تقوى وتضعف تبعا لكثرة الالتقاء أو الافتراق.
جـ) الذاتية
ظروف الحياة الصعبة تلزم الفرد في العائلة الواحدة أو مجموعة الأفراد فيها بالتوجه إلى التركيز على الأنا في كل علاقاتهم وتعاملهم، إذ عندما لا يجد الواحد منهم ما يزيد عن حاجته الفعلية، تقل عنده الرغبة في اقتسام ما عنده مع الغير، وإن كانوا من القريبين، وهذا يعني أن مسألة التكافل ستضعف وبضعفها يقل التماسك.
د) الفردية
يشير المجتمع الحديث أو بالمعنى الأدق الصناعي إلى الفردية في كل شيء، فالحرية في إطاره تعني أن يتمتع الفرد بحريته في العيش والسلوك، والحياة من وجهة نظره أن يحافظ الإنسان فيها على وجوده كيانا مستقلا عن الآخرين، وهذه تولد بتفاعلها مع العوامل الأخرى ظروفا تضعف التماسك.
هـ) بينما نرى وعلى العكس من ذلك أن في أنواع العوائل الممتدة والمستقرة والانتقالية من القيم والمعايير والضوابط التي تؤشر قوة في التماسك تفوق كثيرا المستويات الثلاثة المذكورة آنفا.
سبل تعزيز التماسك العائلي في المجتمع العربي والإسلامي
سابعاً ـ التماسك نوع من الارتباط والعلاقة يتأثر بالظروف البيئية المحيطة، وهذا يعني أنه نتيجة، أو استجابة للمتغيرات والمثيرات الحاصلة في البيئة، ويعني أيضا أن المجتمعات البشرية قد تقبلته كتحصيل حاصل، وكواقع لم يستفق منه الإنسان الغربي على وجه الخصوص إلا في سنواته الأخيرة عندما بدأ يقارن بين وضعه الاجتماعي الحالي، حيث الأنانية والفرقة، والنرجسية (ضعف التماسك) وبين حالته في الأمس حيث المشاركة والتعاون والانجذاب للجماعة (قوة التماسك) مقارنة كانت حصيلتها رغبة في العودة إلى قيم الماضي بظروف العيش الحالية، أملا في أن تعيد هذه القيم التماسك العائلي الذي يُقدم لإنسان العصر أمنا، واستقرارا، ورضا عن حاضره والمستقبل(12).
ذلك في المجتمع الغربي الذي أدرك التأثيرات الجانبية للتصنيع والتحضر في مجال التماسك بعد مئات السنين، وتوجه للتفتيش بين تاريخه الطويل عن وسائل يمكن أن تعيد قيمه السابقة أو أن تكوّن أخرى بديلة يمكن أن تناسب مستلزمات العصر. وإذا كان الأمر كذلك في الغرب، فالأجدر بنا في المجتمعات العربية والإسلامية الاستفادة من صحوتهم في هذا المجال وأن نبدأ التحسب لتقوية قيمنا التي بدأ البعض منها يضعف بحكم الحاجة والتطور، وأن نستعيد تلك التي غُمرت بحكم التصنيع والتحضر، والاستفادة هنا لا تعني الركون إلى العشيرة والقبيلة بالطريقة الآلية العمياء، ولا تعني التمسك بالقرية والريف بالأساليب التقليدية المجردة، التي خضع لها إنساننا لفترة من الزمن، بل تعني أن تكون:
خطوتنا الأولى باتجاه تقوية الانتماء إلى الجماعة (الإسلام - العروبة) والسعي للعيش في كنفها، والاهتداء بمنطقها الروحي والقيمي.
وخطوتنا الثانية إعداد الإنسان العربي المسلم بشكل يكون فيه:
* قادراً على التجريب دون خوف من التجديد.
* راغباً في الأخذ بنتيجة التجربة الناجحة دون تردد.
* يناقش ويزن قبل أن يتقبل أو يرفض.
وأن تكون خطوتنا الثالثة التأكيد على معايير التضامن الاجتماعي الصحيح الذي لا يتأسس على التماثل في كل شيء وفي كل فرد، بل التضامن الذي نجد فيه تقسيما وتعددا للعمل الاجتماعي في ظل الهيئات والتجمعات العامة التي يتحول فيها (التضامن) من النوع الآلي والعفوي إلى التضامن التعددي المؤسساتي، الذي يدرك فيه الفرد أن ارتباطه المتبادل مع غيره ينفعه والآخرين، ويعي أنه وغيره يخدمان سويا النسق الاجتماعي، ويفهم أنه والمجموع يؤديان وظيفتهما في ذلك التقسيم المتعدد المتنوع، كأساس للاستقرار وديمومة التطور والتعاون والرقي.
إن التضامن المطلوب في المجتمع العربي والاسلامي ينبغي أن يكون قائما على التعاون بين جميع العناصر التي تكونه (المجتمع)، وأن هذه العناصر تسعى لأن تتشابه بالحقوق والواجبات. وأن يكون مختلفا عن التضامن الدارج عند الجماعات الضيقة، المتهمة بالطائفية والعشائرية، والإقليمية، أن يكون فيه تبادل في الأفكار وتداول للآراء بشكل أوسع يفسح المجال للفرد لكي يعطي ويأخذ بنفس الروحية والدافعة الذاتية، وفيه يؤثر ويتأثر، يحاسب ويفكر ويقبل أن يحاسب بروح الود والتسامح، لأن الرقي الحضاري وميزة المواطن المرغوب في مجاله هما في الانتماء إلى المجتمع الكبير حيث التضامن يكون واعيا، حرا، على العكس من المجتمعات المذكورة التي تتقلص فيها الحلقة الاجتماعية إلى درجة ينتهي عندها الفرد بضعف شخصيته، وضيق تفكيره، وانخفاض مستواه الحضاري.
إن البقاء على معايير الانتماء القديمة - التضامن المجزأ - للقرية والعشيرة والطائفة رغم تقديمها تماسكاً أحسن للعائلة في زمان معين وظروف عيش مختلفة، سيؤدي الاستمرار بها في الوقت الحاضر إلى ما يسمى بالتناشز المعرفي الذي يمكن أن يحصل للإنسان الذي يعيش بعد تلقفه معايير التحضر التي باتت تدخل بيته من كل الاتجاهات، والتناشز يعني البقاء عند حدود الذهنية التي تغرق في الأمور البسيطة، أو القليلة القيمة والتأثير: التي تبقي الفرد ضيق الأفق، محدود المشكلات، أناني التوجه، لا يبلغ الحدود الوطنية، وهذه تؤشر اضطرابا في التماسك.
أما الخطوة الرابعة في اتجاه التماسك فتحتم على العرب والمسلمين أن يخطوا سريعا لمساعدة شعوبهم في الانتماء إلى المجتمع الأوسع - خارج إطار الإقليم والقطر - بحيث يكون فيه الوعي بآدمية الإنسان أعمق، والشعور بإنسانية الإنسان أشمل، انتماءاً يرتبط بالوطن كحضور في ضمائر المواطنين، وبالشريعة السماوية كوجود في سلوك المسلمين، لأن الشروط الحقيقية للمواطنة هي أن لا يقف فيها المواطن عند أحاسيس ورغبات حلقته الاجتماعية الضيقة، والتطور الحضاري يتجه صوب تعزيز النمط المجتمعي المنفتح التعددي، ووقائع الأحداث تشير إلى أن التاريخ يتجه صوب توسيع وعي الفرد بحيث تكون اهتمامات وطنه فوق العصبيات والانتماءات المقفلة، علما أن الانتماء القومي في الأساس هو حاصل التطور التاريخي والرقي الحضاري لمرحلة من مراحل التاريخ كوّنت العرب، والفرس، والأكراد وغيرهم، وفي فترة لاحقة كوّنت المسلمين والمسيحيين وربما ستكون تجمعات أخرى في المستقبل، لذا فإن خير انتماء ينسجم مع تطورات العصر الحالي ويفتح المجال واسعا أمام تماسك عائلي مقبول، يقوم على أساس التحاور والانفتاح على الرأي المخالف، وتبادل التأثير والتأثر بغية تكوين الرأي الذي يجمع الحصيلة المركبة لما موجود، أو النتيجة التوليفية للآراء والأنماط القائمة، ويزيد من التفاعل الحي بين الثقافات المتعددة.
والأهم هو أن نبلغ نحن العرب والمسلمين النمط العلائقي التعاضدي حيث نسق التواصل أفقي تعاوني غير تسلطي، وتعددي غير أحادي، لأنه يرمي حقا إلى الحرية الحقيقية وليس التكبيل والقسرية، إلى الشمولية التعاونية وليس التفرد والفعل السياسي غير السوي.
وباختصار فإن الانتماء المغلق في القرن الحادي والعشرين سيؤدي إلى انكفاء المنتمين من هذا النوع في المجتمع المغلق، وفي الفكر الايديولوجي، وفي الفعل السياسي العصابي، وهنا يموت الإنسان، وتنعدم الحرية، وتذبل الشخصية، ويختل التكيف المتوازن مع الحقل، ومع الذات، وتستعر الرغبة بالتحقق والتوكيد، عندها سيكون الارتباط بين الأنا والأنت (التماسك) في العائلة التي تشكل أساس المجتمع الكبير مسألة غير مضمونة وسيخسر (المجتمع) الكثير من مقومات صموده تجاه الهجمات الخارجية إن لم يتحرك بسرعة على وفق التفاهم والتعاطف وكذلك التعاون والانفتاح، مكونا معايير للتماسك تتأسس على قيم الماضي وتنسجم مع روح العصر. وهذه مهام لا يمكن أن تقوم بها الدولة بمؤسساتها فقط، بل على المجتمع بكافة وسائله والإنسان بكل قواه أن يتظافرا جميعا من أجل تحقيقها سعيا لأن يعيش الجميع في مجتمع أفضل وظروف أحسن بعيدا جهد الإمكان عن ضغوط الحضارة وقسوة اللاتماسك العائلي.