مشروع النهضة من خلال طيف التيارات
ثنائية الذات والآخر
عبد الله الفريجي
2018-04-26 06:54
الأزمـــة:
بين إصرار حركة (طالبان) الأفغانية الحاكمة باسم الإسلام على هدم التماثيل باعتبارها أوثان، وبين حركة الرفض والاستنكار التي تزعّمها الغرب وأيدها مسلمون؛ تتجلى الفاصلة بين الثقافات المتباينة التي كتب عليها العيش في دائرة صغيرة لا تزال تضيق باستمرار منذ دخول الحضارة الغربية في طورها الأخير.. الطور المعروف بالعولمة، لم يعد ممكناً للحضارات كما كان في السابق أن تعبر عن ذاتها بحرية طالما أن الآخر متواجد في نفس الدائرة يراقب ويحاسب وربما يهدد أو يتداخل.. ف(طالبان) الذين دعوا إلى هدم التماثيل ولم يكترثوا لكل من طالب بالإبقاء عليها باعتبارها آثاراً فنية وشواهد لحضارات غابرة يعكسون لوناً من ألوان الفهم الخاص للإسلام، حيث قد تعددت ألوان هذا الفهم بشدّة منذ بدء المواجهة مع الغرب، والذي بات حضوره معبّراً عن (أزمة وجودية تاريخية تعبّر عن صراع أكثر من مجرد تضايف أو حوار)(1) كما يحلو للبعض أن يسميه كذلك..
التعدد والمواجهة:
هذا التعدد في الفهم تفاقم بحثاً عن حلول مع بدء المواجهة الحضارية بين العالم الإسلامي والغرب عندما (أخرجنا من التاريخ ما كان يضعه في حالته الاستعمارية فاعتبر وجودنا في مرحلة الشيخوخة وخارج التاريخ أو على هامشه) (2).
فالعالم الإسلامي (واجه في منتصف القرن التاسع عشر مشكلة غاية في الدقة والتعقيد والخطورة، وعلى الموقف الذي يتخذه تجاه هذه المشكلة الحاسمة يتوقف مستقبله كعالم له شخصيته وكيانه، وهي مشكلة الحضارة الغربية الفتية الدافقة بالحياة والنشاط وقوة الانتشار والاستيلاء) (3).
إعادة البحث عن هوية:
لقد وقف هذا العالم أمام القوة الغربية الفتية ليرى أنه بلا أسلحة للمواجهة، واكتشف أنه بلا هوية لأن هويته الفعلية كانت هي التردي والتخلف والضعف، وأن هويته النقية القوية تنتمي إلى الماضي ولهذا و(منذ ما اصطلح عليه بعصر النهضة والفكر العربي منهمك في عملية كبيرة هدفها البحث عن الذات أو بالأحرى عن خصوصية محتملة نتيجة ما يعانيه من شعور بفقدان الهوية) (4). (ومن هنا يبدأ البحث عن الهوية، وهو بحث معرفي يهدف إلى صنع الهوية أو بالأحرى متابعة صنعها) (5).
التحصّن بالإسلام:
وأمام هذا الأزوف لم يجد المسلمون سوى الإسلام ملاذاً يمكن التحصّن به عندما اكتشفوا قوة الغرب بعد غزو نابليون لمصر، أو عندما صار بعض المسلمين يزورون ديار الغرب كان الإحساس بشدة الخطر المتعاظم وقد (نقلت الصدمة عبر أول بعثة أوفدها محمد علي إلى فرنسا وعبر عنها الشيخ محمد رفاعه الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الصادر في العام 1834م، وقد أسس الطهطاوي في هذا الكتاب بداية توليفية لشعارات الثورة الفرنسية من حرية وعدالة وإخاء مع الإسلام وتقاليده، وكذلك مع مفهوم الوطن وأصبح الطهطاوي تياراً فكرياً قدّم للعالم العربي أسس النهضة الليبرالية. ولحق بالطهطاوي مفكرون مثل أديب اسحق وفرح أنطون وشبلي شميل وعبد الرحمن الكواكبي وعبد الله النديم ومصطفى كامل وسلامة موسى، كما تأثر مفكرون إسلاميون بأفكاره وأفكار الثورة الفرنسية، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده) (6).
وإذا أردنا تحليل موقف الطهطاوي المصدوم والذي أصبح فيما بعد تياراً يمثل الصدمة، فإنه كان يحاول ادعاء وجود الواقع الغربي الذي شاهده في التراث الإسلامي، أي أنه تدرّع بالإسلام كفكر في مقابل ما شاهده لدى الآخر من واقع ملموس، إنه تزعم في صدمته أول اتجاه توفيقي في التاريخ الإسلامي المعاصر.
تفاقم التنوع:
وهكذا كان حضور الغرب حافزاً على انطلاق تنوع جديد، مضافاً إلى التنوع الموروث؛ تنوع يقوم على اكتشاف الآخر في الذات أو على اكتشاف الذات في الآخر رغم كونها ممارسة فكرية أيديولوجية يراد منها شحن القوى لمواجهة واقع فعلي محسوس ومعاش.
وإذا قدّر لنا المرور بنظرة سريعة على التاريخ منذ الطهطاوي وحتى اللحظة الراهنة فإننا نلاحظ أن جوهر هذه المحاولة لا يزال قائماً في الواقع حتى لو تفاوتت المعالم والواجهات الأيديولوجية مع انسيابها التاريخي، ذلك أنها محفزة على حضور الآخر حضوراً يزاحم الذات ويداهمها ويمنع عنها خلواتها، وإذا عدنا لمثال هدم التماثيل فإننا يمكن أن نتصور وقوعه في ظروف أخرى دون أن يثير اهتماماً، لأن الهيمنة عندئذٍ لذات واحدة لا لثنائية الأنا والآخر، مع العلم أن هذا الحضور أكثر عمقاً من الصراع الفكري والاعتقادي لأنه صراع جميع معالم الوجود، فجميع المظاهر تتعاصر وتتقارب ثم تتدافع سواء أكانت أدوات ووسائل وتقنيات أم كانت عادات وأعرافاً وأنماط سلوك وقيماً فتكشف (عن ثنائية أعمق هي ثنائية الأنا والآخر، وعادةً ما يكون الأنا هو المدافع عن الهوية والخصوصية المحلية في مواجهة الآخر) (7).
وفي ظل هذه الثنائية وفي أتون التدافع تتولد أطياف المواقف التي تمتد من نبذ الآخر مروراً بالداعين للتوفيق انتهاءاً بمن لا يرون أي خلاص للذوبان فيه.
فمنذ نشوء المواجهة مع الغرب في منتصف القرن التاسع عشر عندما واجه العالم الإسلامي مشكلة في غاية الدقة، ونحن نلاحظ انطلاق المواقف التي تحاول تقديم إجابة وافية وحلول شافية لها..
(وقد تصدت للإجابة عن هذه الأسئلة جهات وتنظيمات وتيارات متعددة؛ فدعا فريق منهم إلى الالتحاق بالمشروع الغربي دون قيد أو شرط.. ودعا آخرون إلى الانكفاء على الذات والاعتصام بالموروث لنستمد منه القوة والمنعة.. والذات التي يدعون إلى العودة إليها تعني الرجوع إلى العصر الذهبي للأمة؟! ونمذجته والاقتداء به، ومن باب أنه لا يصلح آخر هذا الأمر إلاّ بما صلح به أوله؟! مع الاختلاف - بطبيعة الحال - في تحديد إحداثيات ذلك العصر الذهبي، باختلاف المذاهب والمشارب) (8).
وحين نتأمل في أي موقف من المواقف التي التزمت التيارات بتبنيها من الآخر، نلاحظ أن كلاً منها يتضمن موقفاً من الذات أيضاً كما إن أي موقف من الذات ليس سوى موقفٍ من الآخر لأن الآخر جاء ليضع كافة السياقات والأنساق التاريخية أمام امتحان البقاء وبالتالي دفع بالجميع للبحث عن ما هو قابل للبقاء أو يمكن البقاء به، وإذا عدنا إلى أول التيارات التي انطلقت لرأينا أنه كان يبحث عن معالم البقاء في الذات من خلال الآخر..
فالنهضة أساساً سؤال كبير مفاده: ما الذي لدينا من الآخر القوي؟ أما الذي لدينا ويمكن أن يكون قوياً كالآخر فإنه سؤال ثنائي أيضاً؛ لأنه يبحث عن قابلية الثبات في الذات من خلال التغيير ومحاكاة الآخر، في نفس الوقت الذي يبحث فيه عن إمكانات التغيير في شيء يريد له الثبات؛ ولهذا فإنه سؤال حائر ومرتجل يدور بين شيئين متضادين هما التغير والثبات.
الآخر في معادلات التطور:
مشروع النهضة.. من خلال طيف التيارات والذي أكده أغلب دارسي النهضة هو أن اللاعب الوحيد الذي يوجه التطورات هو الآخر، فالنهضة ليست سوى ردّة فعل، ما كان لها أن تنطلق لولا الهجمة التي شنها الغرب على الحضارة الإسلامية بهدف تذويبها، ولذلك انطلقت المواقف تبحث عن الحالة التي تتيح للأمة الصمود، ولما كان (التراث القديم وهو الرافد الرئيسي في الثقافة الوطنية، نشأ في عصر مضى وفي مرحلة تاريخية ولّت منذ أكثر من ألف عام ولم يعد معبراً عن مطالب العصر - وإن كان قد عبّر عن مطالب عصر مضى - لقد تغير العصر كله من النصر إلى الهزيمة، ومن الإبداع إلى النقل ومن الحرية إلى القدرية، ومن البيعة إلى الشوكة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر، وهذا يحتم إبداع ثقافة جديدة تعبر عن ظروف العصر من احتلال وقهر وتجزئة وظلم اجتماعي وتغريب ولا مبالاة) (9).
وكل ما تم وصفه يعكس حالة من التراجع والسير إلى الاستقرار في إطار السلب وإنتاج الآليات المانعة للحركة والتغير الداخلي التي ما فتئت موجودة تسعى للوقوف بوجه التردي، إلا أنها كانت دائماً أضعف من إنهاء الصراع لصالحها.
الانتصار المعادل للتراجع:
هذه الحضارة وهي في عمق انتصارها الداخلي فوجئت بظهور الخطر من الخارج، ذلك الخطر الذي لم يكن يريد الانتصار على تيار بعينه، بل كان خطراً داهماً يعمد إلى كل التيارات فيلغيها بكيفية واحدة، ولذلك فإنه استفزّها جميعاً ووضعها أمام المواجهة، وتمكن دون قصد مع ضغطه ومغالبته على التيارات الرسمية، من منح التيارات المبعدة فرصتها الذهبية لتأخذ موقعها الخاص في ساحة المواجهة، وهذا يعني الإسهام في تحويل جميع التيارات إلى أجزاء من طيف واحد، وشريط طويل من الإطارات التي تضم بين دفتيها اتجاهات فرعية؛ إنه إنتاج لقابلية التشظي إلى أجزاء أكثر من أن تحصى، فما دام هناك أنا وهناك آخر فإن أي حركة بينهما تؤدي إلى ظهور لون أو اتجاه، فكلما اقترب تيار من طرف الأنا مبتعداً عن الآخر فإنه يأخذ لوناً خاصاً به يميزه عن درجات الابتعاد الأخرى، وكلما حصل العكس فإن حالاً معاكساً ينشأ كذلك.
ولعلنا نستطيع أن نفرز في الاتجاهات الداعية إلى الذات ألواناً تتفاوت بوضوح، وتقابلها ألوان الابتعاد عن الذات باتجاه الآخر وفي الوسط يقع طيف أيضاً يتعدد بشدة هو الاتجاه التوفيقي.
النهضة ونمذجة الماضي:
الإسلام في كل آفاقه كان حصناً للأمة، لكن عملية التحصن ظلت محصورة بين مساحة من الخيارات واقعة بين أفقي الذات والآخر، وهذان الأفقان ليسا بالضرورة يستوحيان الواقع القائم والمعاصر للذات والآخر طالما أن الواقع الفعلي للذات متردي ويائس، وإن الواقع الفعلي للآخر ممنوع ومتعذر، فإننا نشاهد اتجاه قوي يمضي نحو استيحاء نماذج للذات والآخر تنتمي إلى الماضي بلا فرق بينهما.
ولعلنا نجد من يتباكى على العهد العثماني هروباً من مآسي الاحتلال الاستعماري، أما أكثر ما يلاحظ فهو (النهضة الغربية) كانموذج يفترض ضرورة السير على خطاه، وهنا المطلوب من النهضة الإسلامية المعاصرة، أن تحاكي نموذجاً من الماضي الغربي في عصر الأنوار وثم عصر النهضة الغربية الحديثة. فيفترض أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة تشبه المجتمعات الغربية قبل النهضة وأن الحضارة الغربية المعاصرة تعمل وتؤدي نفس ما أدّاه الإسلام حين فتح الغرب، ثم أيقظه ليحتذي النموذج الإسلامي في الأندلس ثم لتبدأ النهضة بالصورة المعروفة!!.
غير أن هناك آخرين يستبدلون النموذج الماضوي الغربي بنموذج عربي ماضوي، فيفترضون أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة نماذج تشبه المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام، ثم يعمد هؤلاء إلى إنتاج النهضة بطريقة مشابهة لما أداه الدين الإسلامي حينما قاد عمليات النهوض في الجزيرة العربية.
ولا شك في أن اتخاذ أي من النماذج التاريخية سواء كانت غربية ماضية أو إسلامية أو عربية أو عثمانية صفوية أو فرعونية أو بابلية.. يعني القفز على الكثير من الفواصل والعوامل التي تفعل فعلا في الواقع المعاصر، وتجعل من المتعذر استنساخ أي نسخة ماضية. ولا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه البعض من تحليل هذه القضية تحليلاً نفسياً ووصف الحالة بأنها (نوستالجيا) وهي تعني (توق غير سوي للماضي، أو إلى استعادة وضع يتعذر استرداده وهو ناتج إلى حد كبير عن عدم قدرة الذات على التكيف مع المستجدات والمتغيرات خصوصاً إذا كانت متسارعة وعظيمة الأثر، وعدم القدرة على الاندماج الاجتماعي وبالتالي خيبة الأمل في تحقيق التوقعات، إنها نوع من أنواع اغتراب الذات) (10).
فهذه الحالة تصيب بعض الأفراد، حيث يريدون أن يصفّوا في الاتجاه الداعي إلى تجديد الإسلام برمته فيقول هذا البعض: (إن القضية تهون لو كان النوستالجي شاعراً هنا أو هناك، فرداً في الشرق وآخر في الغرب، ومثل هؤلاء يوجدون في كل وقت حين، ولكنها تتحول إلى إشكالية عندما يكون هذا النوستالجي جماعة بأكملها) (11).
الماضوي والقفز على الواقع:
غير أن هناك عوامل موضوعية يمكن الإشارة إليها مباشرة؛ من قبيل حضور الغرب حضوراً مباشراً في كل التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. في جميع أنحاء العالم، كأهم عامل لإعاقة النهوض، وتوجيه المسارات لصالحة، وهذا يعني فرقاً هائلاً بين الواقع العربي قبل الإسلام والواقع الإسلامي اليوم. أما بالنسبة للفرق بين أوربا قبيل عصر الأنوار والواقع الإسلامي اليوم؛ فإنه يكمن في أن الديانة المسيحية التي كانت قد تحالفت مع الإقطاع قد هزمت بفعل عامل خارجي، وهو وجود الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي، من خلال العلاقات والأفكار والنظم، الأمر الذي أطلق حركة نقدية واسعة النطاق انتهت بانطلاق الثورات العلمية والسياسية والفكرية.
لكن الغرب حينما هاجم العالم الإسلامي لم يستطع أن يضع الدين الإسلامي في نفس زاوية الدين المسيحي، بل إنه استطاع أن يمنح الدين - كنظرية - نوع من القوة والبراءة وينزّهه عن كل ما يعج به الواقع الإسلامي من نقاط ضعف وتردي، بل إنه صار إطاراً للثورة، ومن هناك برزت حالة تفسير النصوص وفهمها فهماً معاصراً الأمر الذي أضاف إلى الإسلام إطاراً جديداً، إطاراً يحقن تفسير النصوص بالأفكار المعاصرة، الأمر الذي أفرز في إطار الإسلام اتجاهين: أحدهما تجديدي يعمد إلى إنتاج فهم معاصر للنصوص يقابل إطاراً آخر أيضاً تجديدي لكنه يحاول استنبات بعض الأفكار التاريخية والأطر الماضية في الحاضر فـ(الفكر الديني المعاصر يعيش أزمة طاحنة بين التبعية للموروث الديني المتمثل في الاجتهادات المختلفة التي وضعها فقهاء القرون الماضية، وما يفرضه الواقع المعاصر علمياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من قضايا لم يعد من الممكن احتواؤها في إطار ذلك الموروث الديني التقليدي) (12).
فرصة العودة والمحك:
ولذلك وكما قلنا فإن هذه النزعة التجديدية المستظلة بالصراع أتاحت لكافة التيارات، وحتى تلك التي هزمتها التجربة الاجتماعية فرص الحديث عن العودة إلى الواجهة مع أن بعضها قد أخذ نصيبه من فرص التطبيق وساهم مباشرةً في زرع الكثير من عوامل التراجع من خلال ما طرحه من أفكار في الماضي، وبالتالي فإن فرصته الوحيدة لهذه العودة تكمن في تجديده، مع إننا نلاحظ الإصرار على نقل الماضي بقوة، ولعل النموذج الأبرز لهذه القيادات هو تيار الطالبان الذي يختلف في الكثير من توجهاته حتى عن المذاهب التي تنتمي إليها رسمياً وهو يحمل فهمه الخاص للتعاليم الإسلامية والذي عارضه عدد كبير من العلماء في جميع أنحاء العالم الإسلامي فـ(ظاهرة الإيمان المغلوط ليست جديدة علينا، ولا هي مقصورة علينا فهي قديمة في مجتمعات المسلمين، وقامت عند المسلمين وعند غيرهم. الخوارج في التاريخ الإسلامي نموذج يجسّد ذلك الإيمان المغلوط. في كتب التراث يوصفون بأنهم متطهرو الإسلام) (13).
على أن هذا البروز ليس سلبياً كله، بل لا يخلو من إيجابية خصوصاً طرحه لجميع التيارات على المحك، ويسلب من الجميع فرص الادعاء، لأن الميدان سيكون هو الحاكم وإن أي تيار سوف لن يكون قادراً على البقاء ما لم يمتلك مقوماته، فالمطلوب ليس العودة إلى تيار أو طرح مقولات معينة بل إن المطلوب إنجاز النهضة (وإذا كانت مواجهتنا قد تعثرت إلى الآن، فلأننا لم نتعامل تعاملاً صحيحاً لا مع التراث ولا مع الآخر) (14).
وعلى هذا الأساس فإن البقاء في المساحة التي كانت تسبح فيها النهضة منذ انطلاقها وحتى اليوم ليس صحيحاً، تلك المساحة التي تنحصر بأفق الذات منذ اللحظة الراهنة رجوعاً إلى العصر الذهبي، أو بأفق الآخر منذ هذه اللحظة نفسها رجوعاً إلى عصر النهضة، والصحيح هو البحث عن أفق جديد، أي لابد من استيحاء نموذج ثالث مختلف.
النبوءة بالتردي وصورة النهوض:
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام الذي عالج في نصوص كثيرة فترة التردي هذه قبل وقوعها وبشر بالخروج منها لم يضع نموذجاً ماضوياً في بشائره، بل وضع النموذج الأكمل والذي وصفته النصوص الواردة عن الرسول الأكرم وأهل البيت بأنه نموذج عالمي يقوم على التطور العلمي والعلاقات السليمة بين كافة أبناء البشر، مما يفرض علينا الالتفات بقوة إلى ضرورة طرح الماضي كنموذج من الحساب كما يجدر بنا الإشارة من جهة أخرى إلى أن الآخر مستمر على مواصلة تقدمه لأنه استطاع ترسيخ بنية الآليات التي تدفعه لتطوير نموذجه، وهو بالطبع نموذج لا يزال يضيق الفاصلة بين الحضارات ويفرض عليها اللقاء - كما أشرنا إليه في بداية البحث -، بينما لا تزال محاولات النهوض تحصر همها في السعي للاستقلال، أي أنها تحاول استعادة الواقع الذي كان لها قبل النهضة الغربية وقبل قيام إشكالية الأنا والآخر، وهذا فضلاً عن تصادمه مع اتجاه الحركة العالمية فإنه لا يقود إلى النهوض إطلاقاً.
الطموح القاصر:
ويمكننا أن نرى ذلك واضحاً في الأدبيات والشعارات التي تدعوا إلى الحفاظ على الهوية أو الخلاص من الهيمنة أو التحرر والاستقلال أو الدعوة إلى التنمية والتخلص من التخلف بطريقة الارتجال أو النط، وهذا يعني ببساطة وضع أول قدم على طريق خاطئة، لأن ذلك إن وقع فهو نصف الطريق فقط ومع ذلك فإنه لن يقع.
فمن هذه الناحية يمكننا ملاحظة التقييم المغلوط للواقع، الذي وقع فيه القيمون على النهضة من ساسة أو نخب، ذلك أنهم كانوا يتطلعون إلى مضاهاة الغرب في امتلاك عناصر تفوق مشابهة لما عنده بهدف استعادة واقع عالمي كان يتيح للمسلمين الحركة بمعزل عن حضور الغرب.
ورغم كون هذا التقييم مغلوطاً إلا أنه غلط مبرر لأن أحداً لم يكن يدري إلى أين يمكن أن تقود هذه الحركة المتسارعة في الغرب، وربما ينطبق هذا على الغرب نفسه، إذ إنه كان يجهل أنه كان متجهاً لخلق واقع عالمي جديد يقضي على الحركة المستقلة وإلى الأبد ويفرض على الجميع العيش في عالم القرية الكونية الموحدة التي تعيش واقع الترابط بين الجماعات الإنسانية.
الأهداف المستحيلة:
ففي تلك المرحلة لم يكن أي من ملامح هذا الأمر قد تجلت وتبلورت بالصورة التي عليها الآن، ولم يكن بارزاً منها سوى القوة الكبيرة التي كان الغرب يضع يده عليها، أما إدراك طبيعة العلاقات التي ستولدها القوة - وهو النقطة الحاسمة - فقد كان مستبعداً حينها، ولهذا فإن النتيجة كانت هي استيحاء نموذج يركض وراء أهداف مستحيلة؛ وهو ما حصل بالفعل وانتهى إلى غياب النهضة المرجوة حتى اللحظة الراهنة.
إنتاج المعاصرة
وتبعاً لهذه القراءة الخاطئة للعلاقات القائمة فإن المواقف جميعاً اتجهت نحو حقن التراث بالمعاصرة لا إنتاج المعاصرة، وهذا ينطبق طبعاً على تلك الاتجاهات التي تغالي في الابتعاد عن الآخر؛ فهي حين توغل في هذا الطريق إنما تريد أن تؤكد إمكانية الولوج إلى العصر من خلال رفض الآخر، وحينها لا تجد أمامها إلاّ الماضي غثه وسمينه فيختار البعض - كالطالبان - الإيغال فيما يكرّس العزلة عن الآخرين مسلمين أو غربيين كطريق للنهوض والولوج إلى العصر وهو غير ممكن طبعاً، لأن المفترض بمن يريد الولوج إلى العصر أن يبحث عن الفسح الممكنة، لأن الواقع المعاصر واقع قوي، بل إن الله سبحانه الذي شرّع لنا الإسلام وأراد أن يُطبق اختار بقعة كالجزيرة العربية وهي منطقة فراغ للقوى السياسية والفكرية، أي إنه اختار الفسحة في الواقع يومذاك، وأراد أن يملأها بغية نجاح التطبيق.
وعليه فإن القاعدة نفسها تبقى صحيحة وبالتالي لابد لنا من الانطلاق مما هو قائم، فإذا كان الغرب يتكأ على التراث الإنساني العلمي والثقافي فإنه من الضروري أن يتكأ المسلمون على العلم كذلك لا أن يحصل العكس.
كما إننا نلاحظ أن التيارات التي تحاول الاعتماد على هذا النهج في البناء فإنها لا تستطيع مواصلة الاعتماد عليه طويلاً، إذ سرعان ما تجبرها التطورات على البحث عن مديات من التوفيق وبالتالي فإن رفع شعار الذات سيكون تعبوياً ولا يستطيع الاستمرار حتى إنجاز النهضة الحضارية، لأنها تحتاج إلى مقومات مادية محددة لابد من توفرها، ولذلك فإننا نجد أن الحالة التوفيقية تصبح خياراً وحيداً في النهاية وهو ما تجلى في بعض التجارب المعروفة.
ولذا نجد أن التبشير يبدأ بالإفراط في الدعوة إلى الذات، وينتهي إلى إقامة نموذج توفيقي، وإن دراسة هذا الأمر لا تقود إلاّ للخروج بنتيجة مفادها هو أن الاحتفاظ بالذات يحتاج دائماً إلى مقدار من السماح بالاستعارة من الآخر، وهذا يعني عملياً إطلاق سؤال متواصل هو إلى أي مدى يمكن لنا الاستعارة من الآخر؟ أو إلى أي مدى يمكن لذات الآخر بالنفوذ إلى ذاتنا الحضارية لتتمكن من البقاء؟.
ومهما كانت الإجابة على السؤال، سواءً كانت رفضاً كلياً للآخر أو ذوباناً فيه وإلغاءً للذات أو القبول بضغث من هذا وضغث من ذاك فإن ذلك يتجاوز الموقف الصحيح، وهو الموقف الذي يطرح السؤال بصورة مغايرة، أي ما هو النموذج الصحيح الذي بإمكان حركتنا كأمة أن تتجه نحوه؟ هل هو النموذج الإسلامي الذي شكله الرسول الأعظم(ص) زمن البعثة وتطوراته؟ أو هو النموذج الغربي في عصر النهضة وتطوراته؟ أم هو نموذج آخر لا هذا ولا ذاك؟!.
البحث عن نموذج:
من الطبيعي لنا حين نريد الإجابة على سؤال من هذا النوع أن نحتاج إلى قراءة متأنية للذات؛ منطلقين من أنها ذات أريد لها أن تكون ذاتاً فاعلة في المرحلة المحصورة بين بعثة الرسول(ص) وحتى يوم القيامة عبر اتباع آليات محددة وخطوات محسوبة تتابع ديناميكية التاريخ وتتطور معه، حيث يبدأ الرسول(ع) ببناء الأسس ويواصل الأئمةi وخلال اثني عشر جيلاً إعداد نخب قادرة على التعامل مع النص تعاملاً سليماً بحيث يمنع كافة عمليات حقن النصوص بما ليس منها بما فيها المحاولات المعاصرة، ومن هذه النخب يتم استخلاص طبقة العلماء المؤهلين لوراثة الأنبياء، إلاّ أن هذا الأمر لم يقع وتم تعطيل البرنامج، وعندما تعطل البرنامج خرجت الأفكار التي تحاول الانتساب إلى النص دون أن تنتسب إليه صدقاً، وبذلك وقعت حالة انقلاب في الواقع، وحركة عودة عن الحالة المفترضة إلى واقع مغاير، أي من واقع كان يفترض فيه الفعل والفاعلية إلى واقع منفعل عاجز ظل يختزن عوامل العجز والتراجع عبر نقلات متواصلة حتى جاء الزمن الذي بدأت فيه الإشكالية بصورة غزو في البداية ثم انتقلت في طورها الأخير إلى حالة هي حالة العولمة التي تتجه نحو إذابة كافة الثقافات في إطار الثقافة الغربية.
وما كان للحضارة الغربية بهذه الصيغة أن تنشأ أصلاً لو أن هذا الانقلاب لم يقع ولم تخرج الحضارة الإسلامية عن مسارها المفترض، إذ إنها كانت ستنشأ كجزء من الحضارة الإسلامية العالمية التي ستأتي في النهاية كما يعد بذلك الإسلام، أي أن الحضارة الغربية إن كان مقدراً لها أن تنشأ فستنشأ تبعاً للأسس التي أرساها الإسلام أي حالة التوازن بين المادي والمعنوي والغيب والشهود والدنيا والآخرة، وليس حضارة المادة واللذة والإنتاج والاستهلاك، وحضارة المركزية الأوربية.
ولما كانت الحضارة الغربية قد قامت فإن حالة من الانقلاب قد وقعت، لأن أسساً جديدة قد أقيمت وتغيرت الأهداف والغايات وهذا يمكن تفسيره بما يلي:
المركز والأطراف:
من المعروف أن المجتمعات البشرية مهما كانت متباينة في مواقع تواجدها جغرافياً، أو متباينة في اللغة والثقافة ومستوى التطور الحضاري، فإن هناك وحدة تجمع بين أجزائها، هذه الوحدة قائمة على التأثير والاحتكاك الحضاري وانتقال الأفكار والمنجزات، وإنها بالتالي تنتمي إلى أفق معين رغم التباينات الجغرافية والعرقية والثقافية، وإننا نستطيع أن ننتهي إلى إطار معين يمكننا أن نعدّه أثراً مشتركاً لكافة أبناء البشر.
وقد أثبت التاريخ أن بداية الحضارات تنطلق من الشرق ثم تسير إلى الغرب لتقيم عناصر حضارة، وإذا كان هذا الأمر غير واضح في أطوار عميقة الغور في التاريخ إلاّ أنه واضح ومثبت بالنسبة لنشوء الحضارة اليونانية وكذلك بالنسبة للطور الفعلي في الحضارة الغربية المعاصرة(15).
وهذا يساعدنا على تصور وجود مركز لانطلاق الحضارات هو الشرق، إذ إن أغلب الديانات شرقية، فجميع الحضارات الشرقية ستكون حضارات مركز، وعليه فإن جميع الحضارات الغربية هي حضارات طرف؛ أي إن الطور التصاعدي في الجهة الموجبة من موجة الحضارة سيقع في الشرق، وإن الطور التصاعدي في الحضارة الغربية سيقع في الجهة السالبة من الموجة ذلك أن (الثقافة حلقة وصل بين الدين والقيم الروحية من جهة، والحضارة التي تمثل الناتج ناتج الثقافة في الزمان والمكان من جهة أخرى، ويشبّه أحد الكتاب وضع الثقافة بعلاقتها بغيرها بالشجرة حيث تكون الجذور القيم الروحية الدينية وتمثل الثقافة الساق والأغصان وتمثل الحضارة الثمار والناتج المادي) (16).
فالحضارة والثقافة تقومان أصلاً بعد عمليات التصحيح الذي تمارسه الديانات ثم تنتشر في أي مساحة على أساس الاحتكاك والتواصل، ثم تلد حضارة أخرى في البقع المؤهلة لذلك فتبدأ حضارة الطرف(17).
وعلى هذا فإننا نعيش مرحلة انقلاب؛ أي مرحلة انطلاق حضارة الطرف (الحضارة الغربية) وإن بدت لنا اليوم هي المركز فإنها أصبحت مركزاً بعد انقلاب الحضارة، وبعد كف المركز عن التأثير نتيجة لتراكم عوامل الإعاقة الذاتية وهي نفسها عوامل ضبط الواقع الإسلامي باتجاه التوقف والسكون والقضاء على كل فرص التصحيح والتقويم وصولاً إلى تنامي عوامل الضعف، وأخيراً الوقوع تحت هيمنة الذات الحضارية الغربية (حضارة الطرف).
الانقلاب والانقلاب المضاد:
ومن الطبيعي فإن أي تصحيح يحتاج إلى تحديد الخلل ثم السعي إلى استعادة المركز لمركزيته، وهو طبعاً يقوم على أساس واحد وهو ضخ عناصر أقوى مما هو موجود عند الحضارة الغربية أو ما هو غير موجود لديها، أي التركيز على عناصر يمكن قبولها في الذات والآخر معاً على أساس وجود الحاجة إليها.
فنحن نحتاج إلى آليات التواصل مع الآخرين طالما أن الحضارة الغربية تفتقر في هذا الجانب إلى إلغاء الفاصلة مع الآخر ولا تستطيع التعامل مع الإنسانية كإنسانية، بل إنها تعمل دائماً من خلال تجزئة الإنسان إلى ذات وآخر، وهذا يعني استعادة قيم موجودة لكنها مغيبة في إيديولوجية المركز، ولعلها هي التي نجحت في خلق مركزية المركز في بداية نهضته، إذ إنها استطاعت إذابة الفواصل فاجتذبت الجزء الموحّد في الإنسان أي إنسانية الإنسان وليس ذاتيته التي تميزه عن الآخرين وبذلك تمكنت من الانتشار والهيمنة، وفي هذا الإطار يأتي نفي الفواصل بين البشر من زاوية الاعتقاد، أي منح الإنسان كامل الحرية في اختيار عقيدته، وهو العنصر الذي جعل الإسلام يدير رقعة بشرية واسعة، لأنه كان يمنع السادة من فرض عقائدهم على الناس وبعد أن يحررهم لا يفرض عليهم عقيدته بل يترك لهم حرية الاختيار فيختارون الإسلام بعد أن يروا مزاياه.
على أن هذا كان قائماً على أساس وجود الإنسان الذي يمثل الإسلام بهذه الصورة أي النموذج، وهم طبعاً أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من ذوي التربية العالية الذين يؤثرون في القلوب ويتحكمون بالناس بلا سلطة سوى سلطة الحب والتأسي.
لقد أكد المفكرون على أن النهضة تحتاج إلى قطيعة مع الواقع المتردي، وهي تعني وجود النموذج الإنساني المنقطع عن كافة أشكال التردي، أي إنه المؤثر إيجابياً وغير المتأثر بسلبيات الواقع السائد، وهو ما يسميه كولن ولسن ببثور الحضارة، فإن النقلات الحضارية تبدأ على شكل بثور على وجه الحضارة القديمة، ثم تتزايد لتصبح هي الوجه برمته؛ أي وجود أفراد يمثلون النموذج المغاير وهم الذين لا يزالون يتزايدون عدداً حتى يصبحوا وجه الواقع برمته.
خاتمة:
ولهذا فإنه من العبث الحديث عن نهضة إسلامية حقيقية ما لم نستطع تشخيص نموذج معين، هذا النموذج أكبر من الطيف الأيديولوجي وأكبر من كل أمراض الواقع، وقد يقول قائل إن هذا الحل أكثر مثالية من الحلول السابقة، والجواب أنه حلّ صعب ولكنه ممكن ولو بعد حين، فهو السبيل الذي لا يوجد سواه..