الشورى في الإسلام: آفاق وأبعاد

ابراهيم محمد جواد

2018-02-28 05:40

مقدمة

الشورى ركن مهم من أركان الإسلام، لا بالمعنى الاصطلاحي وإنما بالمعنى اللغوي لكلمة ركن، فهي من أساسيات التوجهات الإسلامية في كافة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الفردية، ناهيك عن أهميتها في نظام الحكم الإسلامي بحيث تعتبر البديل الإسلامي الناجع عن الديمقراطية الغربية تختزل كل إيجابياتها وتتنزه عن سلبياتها.

ربما يتبادر إلى أذهان بعض الناس أن الشورى إنما هي من النظم المستحدثة على أيدي الغرب، لكن الواقع التاريخي يؤكد أن الشورى كانت نظاماً معمولاً به -بشكل أو بآخر- منذ العصور القديمة الغابرة.

وقد ذكر القرآن الكريم عدداً من مصاديقها، نقتصر من ذلك على مثالين:

المثال الأول: ملكة سبأ إذ جاءها كتاب النبي سليمان (ع).

(قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)(1).

الملأ في القاموس: أشراف القوم الذين يملأون العيون أبهة والصدر هيبة، والملأ كذلك هم الأشياع والأعوان. وهم هنا بشكل عام حاشية الحاكم وأعوانه ومستشاروه. وأفتوني تؤدي دونما أي تقصير معنى أشيروا عليّ. وواضح أنها كانت استشارة ملزمة للملكة، بما ألزمت به نفسها من قولها لهؤلاء الملأ: (ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون).

ويظهر من هذا المثال أن الشورى كانت نظاماً متبعاً وسلوكاً شائعاً في المجتمع السبئي ونظامه الحاكم.

والمثال الثاني: فرعون مصر، عندما فاجأه موسى وأخوه هارون عليهما السلام بالدعوة إلى التوحيد وعبادة الله الواحد.

(قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحّار عليم)(2).

وليس من الواضح إن كانت هذه الشورى الصورية ملزمة للحاكم في نظام فرعون أم لا، ولكنها تدل بشكل واضح على أن مفهوم الشورى كان موجوداً ومعروفاً في ذلك العهد، معمولاً به ولو بشكل صوري.

وقد قبل فرعون ما أشار به عليه الملأ في أمر موسى وأخيه هارون لسببين:

السبب الأول: لأن هؤلاء الملأ هم حاشية فرعون وأعوانه وأشياعه الذين كانوا ملتفين حوله، يعينونه في حكمه، فكان هواهم تبعاً لهواه، وكانت شوراهم تصب في مجال رغباته وما يذهب إليه من رأي أو تصرف؛ لأنهم الطبقة الأكثر انتفاعاً من هذا الحكم، بل هم المستأثرون بالنفوذ والجاه، وتأمين المصالح وتحقيق المنافع.

والسبب الثاني: لأن رأي هؤلاء الملأ - للسبب الموضح - أتى فعلاً في هذا المثال وفق هوى فرعون ورغبته، ليكون مخرجاً ديمقراطياً للبطش بموسى وهارون (ع) بشكل مبرر أمام شعبه.

وإذا تفحصنا حال العرب قبل الإسلام، سنجد دون عناء وبلا أدنى ريب، أن نظام الشورى كان معمولاً به لديهم، وخاصة في المجتمع المكي، وكان لأشراف قريش - حسب اصطلاح ذلك العصر، ولأصحاب النفوذ والجاه فيهم دار جامعة كانوا يسمونها (دار الندوة) فكانوا يتشاورون فيها لاتخاذ القرارات الصعبة، وخاصة قرارات الحرب وإقامة الأحلاف، ومن هذه القرارات المواقف التي اتخذوها من النبي (ص) ودعوته، وأهم هذه المواقف تلك التي نجمت عن الشورى المشهورة التي انتهت إلى الاتفاق بالاجماع على وأد الرسالة بقتل الرسول، واختاروا من جميع قبائلهم وبطونهم مائة شاب ليقوموا بتنفيذ هذه المهمة الخطيرة، وأمروهم أن يضربوه جميعاً بسيوفهم ضربة رجل واحد ليتفرق دمه في القبائل.

وفشلت المؤامرة وظهر الإسلام في الجزيرة العربية، ليرسي نظاماً للشورى، يختلف اختلافاً جذرياً عما عداه من النظم، نظاماً يشمل المجتمع بأسره، من أصغر نواة فيه وهو الفرد، مروراً بالأسرة، وصولاً إلى النواة الأكبر وهي نظام الحكم.

لقد أراد الإسلام أن يرتفع بالشورى عن مصاف الوضع القانوني الجامد، لتصبح سلوكاً أخلاقياً حيا، وعرفاً شائعاً فاعلاً في المجتمع، يعضد القانون ويكون سنداً شعبياً له، يشارك فيه جميع أفراد الأمة.

وقد بدأ الإسلام بالفرد، فأوحى إليه أن (لا ظهير كالمشاورة)(3) وأن (من شاور ذوي الألباب دُلّ على الرشاد)(4). وأنه (ما ضل من استشار)(5)، وأن (من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل)(6)، وأن (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)(7).

وكل ذلك كيما يأخذ بيد الفرد المسلم، ليجعل الشورى ديدناً له ومنهجاً سلوكياً وأخلاقياً من مناهجه، يلجأ إليه في كل ما يعضله من الأمور، وما يعترض حياته الفردية والشخصية من عقبات.

وإذا خطونا مع الإسلام نحو عالم الأسرة المسلمة، نجد أن الشورى من الأدبيات الأخلاقية الأساسية في نظام الأسرة وحماية حقوق أفرادها.

قال تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنّ َبِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَآ ءَاتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (8).

لقد أوردنا آية الرضاع كاملة ليتبين القارئ جمال وكمال وشفافية نظام الأسرة بشكل عام في الإسلام، ونظام ارضاع الطفل كما بناه القرآن الكريم وارسته تعاليم النبوة، وكيف جاء نظام الشورى في الأسرة ضمن هذا النظام الشامل، ليزيد النظام الأسروي جمالاً وكمالاً وشفافية واتساقاً.

* الرضاعة الطبيعية التامة للمولود حولان كاملان، يتحمل خلالهما كل طرف من أطراف الأسرة مسؤولياته الواضحة كاملة وبعدالة تامة.

* لا يحق لأي من الطرفين وحده أن يوقف الرضاعة قبل تمام الحولين، فإذا ما طرأت ظروف أو برزت أسباب تستدعي الفطام (الفصال) وايقاف عملية الارضاع، فلا يجوز أن يتم ذلك إلا بعد تشاور وتراض الطرفين - الوالدة والمولود له - أو الوارث في حالة غياب أحدهما، وذلك حفاظاً على حقوق الطفل من جهة، ولإشاعة روح الشورى على اكبر وأوسع نطاق في المجتمع الإسلامي من جهة أخرى فإذا انطلقنا من الأسرة إلى نظام الحكم فسنجد أن الدستور الإلهي قد تعرض للشورى في آيتين واضحتين من آيات القرآن الكريم ترسخان المفهوم العام الأساسي لنظام الشورى وترسمان آفاقه وأبعاده.

نظام الشورى في الحكم الإسلامي

نود بادئ ذي بدء أن نعترف أن الحكام المسلمين بعد رسول الله(ص) لم يعيروا أهمية تذكر إلى نظام الشورى أو على الأقل ضيقوا مفهومه وحاصروه ولم يعملوا بمقتضاه إلا في أدنى المستويات مما أدى إلى اختلاف علماء المسلمين فيما بعد ذلك في أحكام نظام الشورى بين نافٍ ومثبت، ومضيق وموسع ولا غرابة في ذلك الاختلاف بعد أن تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض، وعضّ استبداد الحكام بنابه الحاد الأمة كلها، ولم يزل ذلك سارياً فيها حتى عصرنا الحاضر.

ولهذا فقد غدا نظام الشورى غير مألوف لدينا، وكأنه غير مطلوب منا، وحتى إن ذكر فهو مجرد حبر على ورق تقرأه العيون، أو كلام على منبر أو في خلوة، تسمعه الآذان علناً حيناً، وهمساً في أكثر الأحيان، دون أن يكون له في الواقع أثر ولا وجود في المجتمع الإسلامي.

ولن أتحدث في هذه العجالة عن أحكام تفصيلية لنظام الشورى في الحكم الإسلامي، لأن هذا خاضع - في الأصل - للتطور والتغير حسب مقتضيات الزمان والمكان.

وحسبي أن أقف عند آفاق وأبعاد مفهوم الشورى كما ورد بشكل مجمل في آيتين كريمتين من آيات القرآن الكريم.

الآية الأولى قوله تعالى:

(فَبِمَـا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (9).

ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الآية نزلت بعد أحداث معركة أحد بما خلفت من عبر ودروس.

وما يتعلق بهذه الآية من أحداث معركة أُحد أمران:

الأمر الأول: أن الرسول(ص) كان قد استشار أصحابه للخروج إلى موعد قريش بعد معركة بدر، فأشاروا عليه بالخروج الذي كان كارهاً له، فلبس النبي لامة حربه نزولاً عند مشورة أصحابه، لكن الأصحاب تذاكروا الأمر فيما بينهم، وتلاوموا على تسرعهم بالإشارة على الرسول بغير ما يرغب، فاعذروا له وأبدوا تراجعهم عن شوراهم، فقال(ص):

(ما ينبغي لنبي لبس لامة حربه أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه)(10) وهكذا خرجوا إلى أُحد، وكانت الهزيمة المعروفة.

والأمر الثاني: أن النبي(ص) كان قبل المعركة قد وضع الرماة على ظهر جبل أُحد وأكد عليهم أن يلزموا أماكنهم وأن لا يتركوها سواء انتصر المسلمون في المعركة أم انهزموا، فلما رأى هؤلاء الرماة هزيمة المشركين، أخلى كثير منهم مواقعهم التي وضعهم بها رسول الله والتحقوا بالمسلمين يجمعون الغنائم، فاغتنم خالد بن الوليد هذه الفرصة السانحة والتف على المسلمين بعساكره من خلف جبل أُحد، مما أدى إلى تلك الهزيمة التي حلت بالمسلمين في هذه المعركة.

وفي هذا الجو من ظلال معركة أُحد، جاءت الآية الكريمة لتؤكد على الشورى، رغم النتائج التي نجمت عن تلك الشورى، وكأنها تقول للنبي: مزيداً من الشورى، فهي الدواء الناجع في النهاية، لأنها توحد الصف الداخلي، وتضفي على الأمة الأنس بقائدها، وتدعوها إلى الاندفاع بعزم وجدية لتنفيذ ما أشارت به ورغبت فيه، لأنه قرارها الذي اتخذته بملء إرادتها.

كما أن الآية دعت الرسول للعفو عن الرماة الذين أخطأوا بعصيان أمره في ظرف كانوا بأشد الحاجة إلى عفو الرسول عنهم والاستغفار لهم، بل واكثر من ذلك إشراكهم في الشورى في كل ما يهم الأمة، هذا السلوك النبوي الذي يعيد لهؤلاء مكانتهم بين المسلمين وثقتهم في أنفسهم، ويعيد اللحمة بينهم وبين الأمة والقيادة.

وهكذا نلاحظ أن هذه الآية الكريمة إنما جاءت في معرض بيان نفسيات الناس جميعاً وما يجيش في صدورهم من مشاعر، وهي غالباً مشاعر جياشة فياضة تصدر عن نفوس ضعيفة بشكل أو بآخر، تتأثر سلباً وإيجاباً بسلوك القائد تجاههم وطريقة تعامله معهم؛ وهذا يفسر كثيراً من مواقف النبي اللينة الحكيمة تجاه كثير من الناس مسلمين ومشركين.

ومن هنا.. ورغم أن النبي (ص) كان من النظام الأخلاقي في قمته العليا، ومن الليونة والحكمة في ذروتهما القصوى سلوكاً مع قومه، وتوجيهاً لهم، وكان أبعد ما يمكن أن يكون عن الخشونة والجفاء، وعن الفظاظة والغلظة، وهو القائل: (أدبني ربي بمكارم الأخلاق)(11) - فقد جاء التوجيه الرباني له أن يعفو عن أخطاء قومه وهفواتهم، وأن يتغاضى عن فظاظة بعضهم وغلظة طباعهم، بل وأن يستغفر الله لهم، بل وأن يشاورهم في الأمر.

ماذا نفهم من الآية؟

1- إن الأمر المطلوب التشاور فيه عام مطلق يشمل كل أمور الأمة إلا ما أخرجه الدليل من هذا العموم والإطلاق، كالأحكام الشرعية المبرمة المبتوت بها بنص من قرآن أو سنة، فمثل هذه الأحكام ليست محلاً للشورى، لأنها ليست محلاً للاجتهاد أصلاً، إذ لا اجتهاد في مورد النص، وحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (12).

أما كل ما عدا ذلك مما هو محل للاجتهاد من شؤون الحرب والسلام والسياسة والاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك، فانه من الأمور التي تلزم فيه الشورى وتكون محلاً لها.

2- إن مشاورة النبي لأصحابه، إنما كانت بمثابة جبر لخواطرهم، وهي تمثل عنصر جذب لأزّمة نفوسهم وتوحيد لصفهم واستخراج لمواهبهم وطاقاتهم، وذلك رحمة من الله والنبي بهم، كيما يقوى إيمانهم ويزداد تعلقهم بالنبي وحبهم له وطاعتهم وانصياعهم لقيادته الحكيمة، كما أنها من جهة ثانية تعويد لهم على التشاور فيما بينهم بعد النبي(ص) باعتبار الشورى - كما قدمنا- ركناً مهماً من أركان الحكم الإسلامي.

3- على أن الشورى غير ملزمة للنبي عقلاً ولا شرعاً.

أما شرعاً: فلأن نص آية الشورى يقول للنبي (فإذا عزمت فتوكل على الله).

ورغم اختلاف المفكرين حول هذا النص، فالأظهر أنها العزيمة المبنية على ما يعمله النبي سواء وافق الشورى أم خالفها ويكون المعنى: فإذا عزمت على أي من الأمرين - ما دعت إليه الشورى أو ما كان لديك من العلم خلاف الشورى - فأمضه وتوكل على الله.

وأما عقلاً: فلأن النبي معصوم لا ينطق عن الهوى، ولا يتكلم عن جهل، ولا ينوبه عجز عن حل أي معضلة، ولا ينقصه علم بأمر من الأمور، وغيره من الأصحاب الذين يستشيرهم ليسوا كذلك.

ولكن الحكمة والرحمة تقتضيان إمضاء الشورى ليكون لها أثر في نفوس المستشارين، فتطيب بطاعة القيادة قلوبهم.

ولذلك قال رسول الله(ص) بعد نزول هذه الآية (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً).

فمن منطلق الرحمة والحكمة كان رسول الله(ص) يشاور أصحابه في كل أمر يهمهم ويأخذ بمشورتهم، وكتب السيرة النبوية حافلة بالأمثلة التي تؤكد هذا الأمر.

4- إن كل ما توحيه الآية الكريمة عن مفهوم الشورى وأبعادها في عهد النبي(ص) ينطبق بكل أبعاده وآفاقه التي نوهنا عنها على عهود الأئمة المعصومين عليهم السلام، لو أن الأمة ألقت زمام أمرها إليهم، وأطاعت الله والرسول فيهم، وعنت وجوه المسلمين لهم بالانقياد والطاعة والولاء بعد رسول الله(ص).

الآية الثانية: قوله تعالى يصف المؤمنين:

(والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) (13).

وواضح أنه لا قوام لمجتمع مسلم ما لم يتصف بكل هذه الصفات، وصفات أخرى غيرها كثيرة مبثوثة في آيات القرآن الكريم.

فإذا كان لأمة مسلمة أن يكون لها وجود صحيح سليم فاعل على ظهر الأرض، وإذا كان لمجتمع مسلم أن يكون المجتمع القائم بالعدل، الداعي إلى الحق، الشاهد على الأمم، فلابد أن يتمتع بكل هذه الصفات الأساسية المهمة، ومن بينها مفهوم الشورى بآفاقه وأبعاده.

والذي لا شك فيه ولا ريب أن هذه الآية إنما تشير إلى نظام الشورى بين المسلمين بعد عهد رسول الله(ص)، في حال عدم الانصياع لأمر الله ورسوله في استخلاف المعصومين(ع)، وإلقاء زمام أمور الأمة إليهم.

فالشورى حسب هذه الآية - ركن من أركان الحكم الإسلامي بعد المعصوم من نبي أو أمام، سواء في حضور الإمام أو بعد غيبته.

وللموضوع جوانب متعددة سنتناول بعضها في هذا البحث.

الجانب الأول: تعيين وعزل الحاكم:

يتجاذب الإنسان الاجتماعي في حياته الدنيوية عاملان: عامل حريته الشخصية كفرد، فهو من هذا الجانب مسلط على نفسه وماله، حرّ التصرف فيهما، وعامل انقياده لقانون المجتمع ومقتضياته الضرورية التي تفرض عليه التنازل عن بعض هذه الحرية مقابل حماية وضمان البعض الآخر.

إن الأصل المقرر في المجتمع الإسلامي أن لا سلطة لأحد من الناس أياً كان على آخر، وأن الناس (مسلطون على أموالهم وأنفسهم)(14).

هذه قاعدة عامة لا يستثنى منها إلا ما اقتضته الضرورة الاجتماعية أو نص عليه الشرع المقدس.

فإذا اقتضى تشكل المجتمع وقيام الأمة - كما هو الواقع في كل زمان ومكان بعد الإسلام - وجود حكومة تتصرف في أنفس الناس وفي أموالهم فلابد أن يكون نصب تلك الحكومة إما بنص من الله ورسوله أو بتفويض صحيح من الناس.

فالمعصوم من نبي أو أمام يعينه الله سبحانه وتعالى وينص عليه، وله أن يتصرف بأنفس الناس وأموالهم كما تقتضي مصلحة الأمة وتنفيذ أحكام الشريعة لقوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(15). وقوله(ص) في غدير خم مخاطباً المسلمين: (ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه)(16).

وغير المعصوم من الناس أمر التفويض إليه، وتسلطه على التصرف بأنفس الناس وأموالهم منوط بهؤلاء الناس أنفسهم، في جو من الحرية التامة والمنافسة الشريفة والانتخاب الصحيح من عامة الناس.

وعلى هذا فالناس مخولون بأن يعينوا عليهم حاكماً يفوضونه ببعض السلطات على أنفسهم وأموالهم حسب الأسلوب الذي يرونه، ومخولون بعزله كذلك إذا أخل بهذا التفويض.

ولا نريد أن ندخل في تفصيلات هذا الموضوع، لأنها قد تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان لآخر.

الجانب الثاني: الشورى بين الحاكم المنتخب وبين الأمة

ليس من صالح الأمة أن تفوض الحاكم الذي تنتخبه بصلاحيات مطلقة ولا استثنائية، ولا تفعل أمة ذلك بمحض اختيارها، وليس من حق الحاكم المنتخب أن يطالب الأمة بتفويضه بصلاحيات مطلقة ولا استثنائية خلال فترة حكمه أو جزء منها.

فالحاكم المسلم مسؤول أمام الله وأمام الأمة عن رعاية الأحكام الشرعية الثابتة التي لا خلاف حولها، ولا يحتاج في إمضاء هذه الأحكام إلى الشورى.

ثم إنه بعد ذلك مسؤول أمام الله وأمام الأمة عن رعاية الشؤون العامة للامة - فيما لا نص فيه - عن طريق نظام الشورى التي ينبغي إشادة مؤسساتها واعطائها الدور الفاعل في بناء الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية وسواها للأمة، بحيث تكون (خير أمة أخرجت للناس) (17). تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤدي دورها الوسطي بين الأمم، لتكون الأمة القائدة والداعية والشاهدة على بقية الأمم والشعوب: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (18).

إن الشورى حق للأمة وواجب على الحاكم، ينبغي ان يمارس من قبل كل منهما بشكل شامل وسليم لمصلحة كل منهما، وهو في نفس الوقت حق للحاكم على الأمة، وعليها أن تؤديه بجدية وعقلانية، وضمن نظام مدروس وواضح، يتم من خلال مساعدة الحاكم على تلمس مصالح الأمة والسعي إلى تحقيقها، ويعصمه من التجاوز على حقوق الناس أو التقصير في رعايتها.

إن منح الحاكم المشورة والنصح عبر المؤسسات القائمة، من مجالس الشورى ووسائل الإعلام المختلفة من مقروءة ومسموعة ومرئية، والجماعات والأحزاب والتيارات السياسية التي تمثل كافة شرائح الأمة، والنقابات المهنية، والاتحادات الطلابية والعمالية والنسائية وسواها... وإن قبول الحاكم لهذه المشورة والنصح، والأخذ بها يجعل من الأمة ظهيراً قوياً وسنداً متيناً للحاكم، كما يجعل من الحاكم رمزاً لوحدة الأمة، ووحدة قراراتها في كل الشؤون الداخلية والخارجية على السواء، وينير لها طريق تقدمها ويكون سر نجاحها على كافة الصعد.

الجانب الثالث: حرية الرأي

غني عن البيان، أن إشاعة مفهوم الشورى - كما قدمنا - من أصغر إلى أكبر نواة في المجتمع الإسلامي، ونجاح هذا المفهوم في ترسيخ آفاقه وأبعاده وطيفه الواسع في الأمة، يقتضي كشرط أساسي ضمن حرية الرأي ضماناً قانونياً وأخلاقياً، فلا يعاقب مشير على رأي أبداه أو مشورة أدلى بها، ولا يهزأ به أو يصغر من شأنه، ولا يحرم حقاً من حقوقه، ولا تجري ملاحقته لا مادياً ولا معنوياً، ولا يمارس عليه أي ضغط لتغيير رأيه، بل وأبعد من هذا كله أن لا يهمل رأي أبداه فرد في الأمة.

ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى أن المؤسسات الاستشارية والاعلامية والأحزاب والتيارات السياسية والاتحادات والنقابات وسواها لا يجوز أن تحجب عن الحاكم رأي الأفراد الذين لا ينتمون - لسبب أو لآخر - لأي من هذه المؤسسات، فلكل فرد في الأمة أن يكون له رأي في شؤون أمته، وينبغي أن يصل هذا الرأي إلى أصحاب القرار في الأمة، ليدرس ويؤخذ بكل رأي صالح من هذه الآراء.

وفي المقابل، يشترط لضمان الاستفادة من الرأي أن يصدر عن حسن نية، ومن مختص في الأمر الذي يبدي الرأي فيه، وأن يهدف لتأمين المصلحة العامة للأمة، وأن لا يرافقه عنف ضد الأمة أو الحكومة أو مؤسساتهما القائمة.

الجانب الرابع: صفات أهل الشورى

إذا كان من حق كل فرد في الأمة أن يشارك في انتخاب الحاكم الذي سيتولى السلطة على أنفس الناس وأموالهم، وأن يشير عليه فيما يراه صواباً في أي أمر من الأمور، فهل من واجب الحاكم أن يستشير كل فرد من أفراد الأمة في كل شأن من شؤونها؟

وجواباً على هذا السؤال نقول: إذا كان الاشتراك في انتخاب الحاكم الذي يجري مرة واحدة كل عدة سنوات أمراً ممكناً وميسوراً لكل فرد في الأمة بل ومفيداً أيضا، فانه ليس كذلك فيما يتعلق باستشارة الحاكم لجميع أفراد الأمة بشكل مباشر وفي كل الشؤون، رغم أن ذلك هو الأصل.

والممكن في هذا المجال استشارة كل فرد في الأمة بشكل غير مباشر، عن طريق تخويل الأمة بجميع أفرادها انتخاب مجالس الشورى التي تتولى هذه المهمة نيابة عن كل فرد في الأمة.

وأعضاء هذه المجالس لابد أن يتصف كل منهم بصفات تؤهله لأن يكون من أصحاب الشورى.

ولن نتعرض في هذا البحث المختصر لجميع الصفات التي تؤهل لدخول مجالس الشورى، ولكنا سنشير إلى بعضها:

* العقل: لقوله(ص): (استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا)(19).

* العلم: والمقصود به هنا جميع أنواع العلوم، لا الدينية منها فقط، لقوله(ص) (شاوروا العلماء الصالحين)(20).

* التقوى: للقيد الذي مر في الحديث السابق (الصالحين) ولقوله(ص): (شاور المتقين الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا ويؤثرون على أنفسهم في أموركم)(21) وقوله (اجعل مشورتك فيمن يخاف الله تعالى)(22).

* الخبرة والتجربة: لقوله(ص) (خير من شاورت ذوو النهى والعلم وأولو التجارب والحزم)(23).

* الحزم: للحديث الذي مر، ولقول علي(ع): (مشاورة الحازم ظفر)(24).

* وكذلك ينبغي أن نبعد عن مجالس شورى الأمة ذوي المعايب وأصحاب الأخلاق الذميمة - مثل البخيل والجبان والحريص والكذاب والجاهل واللجوج والأحمق والماجن وسواهم.

* أما البخيل والجبان والحريص فلقول علي(ع) في عهده لمالك الاشتر عندما ولاه على مصر (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن القصد ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله)(25).

* وأما الكذاب فلقول علي(ع) (لا تستشر الكذاب فانه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب)(26).

* وأما الجاهل فلقول علي(ع) (جهل المشير هلاك المستشير)(27).

* وأما اللجوج فلقوله(ع) (اللجوج لا رأي له)(28).

* وأما الماجن والأحمق فلقوله(ع):(... فأما الماجن فيزين لك فعله ويحب أن تكون مثله، ولا يعينك على أمر دينك، ومقارنته جفاء وقسوة، ومدخله ومخرجه عليك عار. وأما الأحمق فانه لا يشير عليك بخير، ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه، وربما أراد منفعتك فضرك، فموته خير من حياته، وسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه)(29).

الجانب الخامس: واجبات وحقوق المشير

لهذا الجانب من البحث أهمية، ولكنا لا نملك إلا أن نمر به دون استغراق فيه ولا تفصيل مشيرين إلى بعض ما يتوجب على المشير وما يترتب له من الحقوق.

فمن الواجبات:

- النصح في المشورة؛ لقول النبي(ص) (من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه)(30).

- الاجتهاد في استخلاص الرأي؛ لقول علي(ع) (على المشير الاجتهاد في الرأي، وليس عليه ضمان النجاح)(31).

- عدم مخالفة توجهات الشريعة ومقاصدها؛ لقول علي(ع) (شر الآراء ما خالف الشريعة)(32).

ومن الحقوق:

- قبول مشورته؛ لقول النبي(ص) (إذا أشار عليك العاقل الناصح فاقبل منه وإياك والخلاف عليه)(33).

- أن لا تتهمه؛ لقول علي بن الحسين(ع): (حق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه)(34).

- أن تشكره؛ لقول علي بن الحسين(ع): (... ولا تدع شكره)(35).

- أن تكافئه؛ لقول علي بن الحسين(ع): (...قبلت ذلك منه بالشكر والإرصاد بالمكافأة في مثلها...)(36).

ختام البحث

وعلى العموم، فإن نظام الشورى هو ديمقراطية الإسلام في الحكم والمجتمع، وهو من صفات المؤمنين وبدونه لا يكونون كاملي الإيمان، وهو صمام الأمان للحكومة الإسلامية يعصمها من الطغيان والاستبداد، يقود الأمة الإسلامية في دروب السداد والرشاد ويبعدها عن مهاوي الانحدار والسقوط. وليس من قبيل الصدفة أن تسمى سورة كاملة من القرآن الكريم باسمه.

قال النبي الكريم(ص): (ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم)(37).

وقال: (إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاؤكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها)(38).

اللهم اجعل أمراءنا خيارنا، وأغنياءنا سمحاءنا واجعل أمرنا شورى بيننا ولا تسلط علينا شرارنا وبخلاءنا ومن يستبد بأمورنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* مقال نشر في مجلة النبأ-العدد59-ربيع الثاني 1422/تموز 2001

..........................
الهـــوامـــش:
(1) سورة النمل: الآية 33.
(2) سورة الشعراء: الآيات 34-37.
(3) وسائل الشيعة، ج8، ص425.
(4) بحار الانوار، ج72، ص105.
(5) غرر الحكم، ص442.
(6) بحار الانوار، ج72، ص105.
(7) بحار الانوار، ج72، ص104.
(8) سورة البقرة: الآية 233.
(9) سورة آل عمران: الآية 159.
(10) سيرة المصطفى (نظرة جديدة) ص391. السيرة الحلبية، ج2، ص232.
(11) إرشاد القلوب ـ ص160 ـ باب 49 ـ وفي بحار الأنوار ـ ج17، ص4، عن الإمام الصادق عليه السلام (إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه)
(12) سورة الحشر، الآية7.
(13) سورة الشورى: الآيات 37-39.
(14) بحار الأنوار، ج2 ص272.
(15) سورة الأحزاب، الآية 6.
(16) أخرجه الطبراني وابن جرير والترمذي والحاكم في المستدرك، والذهبي في التلخيص.
(17) سورة آل عمران، الآية 110.
(18) سورة البقرة: الآية 43.
(19) وسائل الشيعة، ج8، ص409.
(20) تفسير التستري، ص28.
(21) تفسير التستري، ص28.
(22) نفس المصدر.
(23) غرر الحكم: ص442.
(24) نفس المصدر.
(25) مستدرك الوسائل، ج8، ص439، وبحار الأنوار، ج72، ص99.
(26) غرر الحكم، ص442.
(27) غرر الحكم، ص73.
(28) المصدر، ص65.
(29) أصول الكافي، ج2، ص376.
(30) أدب المفرد. ص40.
(31) غرر الحكم، ص443.
(32) غرر الحكم، ص443.
(33) بحار الأنوار، ج72، ص105.
(34) بحار الانوار، ج72، ص105.
(35) مستدرك الوسائل، ج11، ص166.
(36) نفس المصدر.
(37) بحار الانوار، ج75، ص105.
(38) تفسير، أبو الفتوح، ج3، ص328.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا