مخلفات العنف وآثاره العميقة

مرتضى معاش

2017-02-22 08:32

إن تتبّع المردودات التي يولّدها العنف عبر التقصّي الميداني لمخلفاته والتفحص العملي لآثاره الجانبية يوفّر مجالاً عملياً أكبر لفهم آلية العنف ومدى فاعليته في إحداث التغيير الواقـــعي، بل ويــــعطينا ايضاً إستنتاجات تحليلية توفّر الدعم اللازم لقراءة شرعيته وعدمها، وقراءة أبعاده الفكرية وجذورها.

ومشكلة بعض دعاة العنف أنهم لا يقرأون ما وراء العنف ولا يتتبّعون آثاره المستقبلية، وهذا يعني أن العنف عندهم هو الغاية بذاتها الساكنة في اللاوعي مع غض النظر عن كونها وسيلة لها المخلّفات السلبية التي يجب حينئذ استبدالها بوسيلة أخرى. ولكن استقصاء آثار العنف يمكن أن يضفي بعض الواقعية ومن ثم يعطي القدرة على فهم منهجية العنف فهماً تحليلياً موضوعياً.

الآثار البعيدة المدى

تهدف الجماعة التي تستخدم أسلوب العنف إلى إيجاد تغيير سياسي أو اجتماعي سريع، وهذا يرجع إلى التذمّر الشديد التي تكنّه هذه الجماعة للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة ويدفعها إلى ذلك إما لعدم رضاها بأسلوب عمل السلطة أو السعي للإنتقام من سلطة مستبدّة قائمة على القمع والاضطهاد.

وفي كلتا الحالتين فإن العنف هنا وسيلة لإيجاد تغيير فوري يخدم أهداف الجماعة على المستوى القصير؛ وبعبارة أخرى فان «العنف الذي هو ادواتي في طبيعته يبدو واقعياً بالنظر إلى أنه يكون فعالاً في الوصول إلى الغاية التي من شأنها أن تبرّره، وبما أننا حين نمارس فعلاً ما لا نكون عارفين مسبقاً وعن يقين ما الذي ستكون عليه نتيجة ما نفعل، يمكن للعنف أن يبقى عقلائياً فقط في متابعته لأهداف على المدى القصير. إن تكتيكات العنف والشغب تكون ذات جدوى بالنسبة إلى أهداف المدى القصير، بينما يبدو العنف غير مجد بالنسبة إلى أهداف المدى الطويل»(1).

لذلك لا يستطيع العنف إلا أن يحقق نتائج وقتية يتوهّم فيها أصحاب العنف أنهم يحقّقون كل طموحاتهم، ولكن عندما يكتشفون أنهم لا يحقّقون شيئاً تسيطر عليهم حالات اليأس والاحباط والجمود والانعزال الأكثر. فطبيعة العنف وتشكيلته الذاتية تحمل في بذورها الانفعالية والسعي السريع لإنجاز شيء ما قد يتجاوز السنن التاريخية التي يجب اجتيازها عبر مراحل طويلة وبعقلانية، لذلك نرى «إن النتائج التي يسفر عنها عمل البشر تتبدّى دائماً منفلتة من رقابة من يقومون بالعمل فإن العنف يحمل في ذاته عنصراً إضافياً تعسّفياً»(2).

ولكن المؤثرات التي تضفيها حالات العنف تغري بإستخدام العنف لإيجاد حل سريع للمشاكل والأزمات، وحينئذ «إذا نجح العنف أحياناً في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية المطروحة وذلك بالنظر إلى فعاليته الثورية فهذا لا يعني أنه قد نجح بشكل نهائي، إذ لا يمكنه بالنتيجة إلا أن يزيد من حدّة الظروف والأوضاع العامة ولا يلبث مفعوله الذي يعتبر وبشكل خاطئ كنجاح سياسي أن يسقط قناعه ويكشف عن وجهه الحقيقي»(3).

وقد أثبتت الحركة التاريخية للأمم والحضارات أن الأفكار والثقافات تتشكّل في إطار زمني طويل بحيث تنمو ضمن عمر حركي وتاريخي طويل لا يقاس بعمر جيل أو جيلين من عمر البشر بل هو أبعد من ذلك، مما يصعب تغييره فوراً وإنما التغيير يتم بجرعات طويلة المدى هادئة التزريق. ومن هنا فإن الدراسات الاجتماعية أثبتت أن التغيير السريع والعنيف لا يزيد من الأزمات والمشاكل إلا سوءاً.

التغلغل البنيوي

في كثير من الحالات لا ينتهي العنف إلى حد كونه عملاً استثنائياً وتكتيكياً ينتهي بتحقيق الغاية المنشودة، بل يتكامل بنيوياً بحيث يبدأ ببناء مكوناته الثقافية والنفسية الخاصة بحيث يصبح حالة طبيعية تتعايش معها الطبيعة الإنسانية مثل الجسم الذي يصبح فيه المرض أحد أجزائه بعد أن كان أمراً عرضياً وغريباً. وهذا هو من أكثر الآثار تعقيداً التي يتركها العنف في البناء الاجتماعي، ولا شك أن أجيال الحروب هم مثال صارخ على ذلك.

فالعنف لا يتمثّل خطورته في كونه فعلاً قائماً على التعسف والارهاب فقط بل يصبح أكثر خطورة عندما يتحول إلى أحد الانماط الطبيعية في السلوك الاجتماعي العام. لذلك «يولد العنف السياسي في البنيان وينمو بشكل متدرّج ومتواصل إلى مستوى أعلى بعد أن يجتاز مرحلة انتقالية متوسطة»(4).

وعندما يتجذّر العنف في البنية الاجتماعية يصبح بالإمكان أن يتفجّر في أي وقت تتوفر له الظروف «كما يمكن أن يتصاعد العنف بفظاظة وبشكلٍ متقطع دون المرور بمستويات متوسطة، ويمكن للعنف السياسي أن يقفز مباشرة بتصعيد فجائي دون إنذار متدرج فيشمل جميع المستويات ففي عام 1914م انفجرت الحرب العالمية الأولى دون أن يسبقها نزاعات تحتية صغيرة منذرة».(5)

هذا لأن العنف تختمر فيه بذور الانفجار في أي وقت عندما يكون مترسّخاً في البنية الاجتماعية التحتية، بحيث ينشر أساليبه وادواته على مختلف مستويات المجتمع وطبقاته وخاصة على المستوى السياسي في القمّة عندها يصبح العنف أسلوباً منفرداً في معالجة الصراعات والنزاعات، إذ العنف ليس إلاّ ظاهرة تمدّ «جذورها في أسس الوجود السياسي وتستمد ديناميتها من المعطيات الرئيسية والجوهرية التي يقوم عليها كل مجتمع يدعى سياسياً. إن الإرهاب ليس فعلاً منعزلاً وعرضياً إنه نسق عنف ينزل من رأس البناء الاجتماعي والسياسي كما يطلع من قاعدته»(6).

أما الجماعة التي تستخدم العنف بحيث يكون أسلوبها الرئيس فان الأمر فيها أوضح، إذ يخترق العنف بنيتها ويصبح متسلّطاً على كافة الانشطة، من أدبياتها وافكارها وعلاقاتها السياسية وتعاملها الاجتماعي إلى فهمها ورؤيتها للواقع الخارجي. فيكون العنف اللغة التي تخاطب بها الجماعة العالم الخارجي، ويكون العنف هو المنظار الذي يرسم لهذه الجماعة حقائقها ورؤاها الخاصة بها.. وهكذا جماعة التي لا تتصرّف إلاّ ضمن ايحاءاتها الذاتية النابعة من بنيتها يكون من الطبيعي أن العنف هو اللغة التي يتخاطب بها أفراد الجماعة فيما بينهم لذلك يكثر التصدع والانشقاق في هكذا جماعات.

ولا شكّ فإن التأثير البنيوي الذي يخلّفه العنف هو من الخطر بحيث يجعل المجتمع كله على حافة الانفجار في أي وقت. ومشكلة استخدام العنف كأداة تغييرية كإستثناء في بعض الأوقات هو أنه من يضمن أن لا يبقى العنف جاثماً في الأوكار منتظراً فريسته، فقد يترسّخ الاستثناء ويصبح هو القاعدة.

* مقتطف من دراسة تحت عنوان (العنف وحركة التغيير) نشرت في مجلــة النبــأ-العــددان (23 ـ 24) السنــة الرابعــة 1419

..................................
1 ـ في العنف، حنة ارندت: ص72.
2 ـ في العنف، حنة ارندت: ص6.
3 ـ الإرهاب السياسي، أدونيس العكرة: ص12.
4 ـ الحروب والحضارات: ترجمة أحمد عبدالكريم، ص394.
5 ـ الحروب والحضارات: ترجمة أحمد عبدالكريم: ص394.
6 ـ الإرهاب السياسي، أدونيس العكرة: ص131.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد