ثقافة الشعور بالآخر هل تنقصنا؟

علي حسين عبيد

2016-08-30 11:03

في مشهدين متشابهين، عشتهما بنفسي، ورأيتهما لدى غيري، شعرت أن الذي ينقص العراقيين، وربما عموم الدول التي يقطنها المسلمون، أو معظمهم، تنقصهم (ثقافة الشعور بالآخر)، لا اريد أن أتهم أحدا، ولكن هناك أسباب جعلتنا في آخر ركب التقدم، بل نحن في قائمة التخلف، والأسباب معروفة، منها أننا نعاني من نقص في ثقافة الشعور بالآخر.

أضرب لذلك مثلين.. المشهد أو المثل الأول.. أخذت زوجتي الى طبيب العيون، لأنها فقدت إحدى عينيها في مستشفى تخصصي عريق بجراحة وطب العيون، فأطفأوا عينها اليسرى بإصرار عجيب من الطبيبة التي مضى على عملها بجراحة العيون أكثر من ثلاثين سنة.

وهذه الفترة الطويلة التي قضتها الطبيبة في العمل المتواصل في جراحة العيون، ينبغي أن تعطيها قدرة كافية على معرفة نتائج ما تقوم به من عمليات جراحية للعيون، وقد حدث مع زوجتي ما يلي، صباح الأربعاء قبل ثلاث سنوات، ذهبتُ بها الى مستشفى (ابن الهيثم) متخصص في طب العيون، وقمنا بإجراءات المراجعة وجاء دور الفحص فقامت به طبيبة قديمة تعمل في المستشفى، وبعد الفحص أخبرتني الطبيبة أن شبكية عين زوجتي اليسرى تحتاج الى عملية فورية، وإلا فإنها ستنطفئ، فاجأتنا الطبيبة بهذا القرار، فطلبتُ منها ان تمهلنا شهرا او اسبوعا للتفكير، لكنها أصرت على أن نأتي غدا الخميس مبكرا (ونحن لسنا من سكنة بغداد وانما من المحافظات)، حتى تجري لها الجراحة اللازمة لشبكية العين، ورفضتْ التأجيل بشكل قاطع.

شعرت بالحيرة من هذا الإصرار، لكنني قلت أن الطبيبة التي تصر على إجراء العملية بهذه السرعة لابد أنها ضامنة لنجاح العملية، عدنا الى مدينتنا واعددنا أنفسنا للإقامة في المستشفى عدة ليالي، وفي الخميس مبكرا وصلنا المستشفى، وذهبنا الى صالة العمليات، وقد دخلت الطبيبة صالة العمليات في العاشرة صباحا، وهذا يعني ان المرضى انتظروها ثلاث ساعات عند باب صالة العمليات، وعندما سألنا عن سبب التأخير، قالوا ان الطبيبة لديها مرضى تفحصهم قبل أن تأتي لإجراء العمليات.

في العاشرة دخلت الطبيبة الصالة، وبدأ المرضى يتعاقبون على الدخول الى الصالة والخروج منها بعد انتهاء العملية، وبقيت زوجتي حتى الساعة الثالثة بعد منتصف النهار بانتظار دورها، علما انها مُنعتْ (من شرب الماء والأكل) بسبب اجراء العملية والبنج (المخدر)، دخلت زوجتي في الثالثة، وبقيت ثلاث ساعة تحت مبضع الجراحة، وانطفأت الكهرباء الوطني وبقيت الطبيبة تعمل على مولدة صغيرة، والتخدير لم يكن لعموم الجسم وانما موضعيا، أي لمنطقة العين فقط، فكانت زوجتي (كما أخبرتني) ترى المشارط التي تجرى بها العملية بعينها وكانت تسمع كلام الطبيبة مع الذين يتواجدون معها من فريق العمل.

الشعور بالحرص على الآخر

بعد ثلاث ساعات خرجت زوجتي بعين مغلقة بالشاش الأبيض، وذهبت بها بكرسي متحرك الى ردهة المنام في الطابق الرابع، بقيت نائمة حتى الصباح، وفي اليوم التالي (جمعة) لا توجد الطبيبة وإنما ممرض شاب أعطى زوجتي بعض الحبوب البيضاء وأعطاني ورقة مكتوب فيها دواء لا يتواجد في المستشفى وذهبت واشتريته من صيدلية أهلية، سألت بعض المرضى القدماء عن جراحة شبكية العين ومتى يرفعون الضماد منها، فقالو بعد غد الاحد سيُرفع الضماد ولكن البصر لا يعود فورا، وانما بالتدريج، وفعلا يوم الأحد رفعوا الضماد وكانت زوجتي لا تُبصر شيئا بعينها فساورني القلق وذهبت الى طبيبتها واخبرتها ان زوجتي لا تبصر بعينها، فقالت سوف يعود البصر بالتدريج لها.

في اليوم الثاني أخرجتنا الطبيبة من الردهة لكثرة المرضى، ولا أتذكّر إنها أوصتنا بشيء، وعدنا أدراجنا الى محافظتنا وبيتنا، وكان قلقي يزداد على عين زوجتي وأملي يتناقص، وأتذكر أنني في كل صباح كنت أسأل زوجتي في أول لحظة انهض فيها من النوم، (بشريني هل عاد البصر لعينك)، وكنت اعرف الجواب من صمتها وذلك الحزن المرير الذي يسكنُ وجهها، مر شهر، ولم يعد البصر، وشهران وثلاثة، وكان الظلام يتضاعف ويحاصر زوجتي التي أصيبت شبكية عينها الاخرى اليمنى بنفس المرض الذي فتك بعينها اليسرى، والمشكلة أن هناك من نصحني بالذهاب الى نفس الطبيبة التي اطفأت عينها اليسرى، لكنني في هذه المرة توجهت بها خارج البلاد، وبحمد الله البلاد الاخرى عالجت عينها الوحيدة التي تبقّت لها، في حين أن بلادها الأم أطفأت لها عينها، فما هو سبب ذلك يا تُرى؟؟

السبب لا يحتاج الى ذكاء عال لاكتشافه، إننا ببساطة نفتقر لثقافة الشعور بالآخر، والحرص عليه مثلما نحرص على أنفسنا ومصالحنا، ولو أن ثقافة الشعور الانساني بالآخر متوافرة كمنهج سلوك في حياتنا، لما حدث للعراقيين ما يحدث لهم منذ عقود، بل قرون طويلة، وبعد أن زال الظلم والطغيان الحكومي وجاء عهد الحرية في نيسان 2003، تصورنا أن هذه الثقافة التي تدفع بنا الى الارتقاء لمصاف الشعوب المتقدمة، سوف تنتشر بين قلوب الناس جميعا، وسوف نلحظها في السلوك اليومي للجميع.

لكن الذي حدث عكس ذلك!، فقد تضاعفت اللامبالاة بحياة الآخرين ومصالحهم، وكل منا بدأ مشوارا جديدا من مرحلة الاستحواذ، وانتشرت قيم أقل ما يُقال عنها أنها لا أخلاقية ولا تراعي توجيهات الدين ومبادئ وتعاليم الإسلام للمسلمين، فأصبحنا مسلمين بالهوية والاسم، أما بالفعل والعمل والسلوك، فإننا لا ننتمي للإسلام، بل نحن لا ننتمي لجنس الإنسانية، لأن الرحمة غابت عن قلوبنا وأنفسنا التي تشبّعت بثقافة الظلم والتجاوز على حقوق الآخرين.

سنعامل بعضنا بالقيم الإنسانية

هل نحن نغالي في هذا الطرح؟، إنني شرحت حالةً وفصلت مشهداً لكم، عشتهُ بنفسي.

المشهد الثاني كنت أقود سيارتي في طريقي الى العمل ظهرا، او بعد الظهيرة بقليل، فجأة سمعت صوت صراخ عالي وتصاعد غبار كثيف منعني من رؤية ما يحدث على بعد مئتي متر او اقل، خففت السير، وخرجت من الشارع الإسفلتي الى الرملي المحاذي له، فرأيت من بعيد جسدا يتلوى على الرمل الساخن، كانت السيارات تمر من جانب الشاب مسرعة بلا مبالاة أو اهتمام (خوفا من إلصاق الحادث بهم)، توقفت واتيت له، كانت دراجته (الماطور) مرميةً بعيدا عنه ومهشمة، رأيت دم الشاب يختلط بالرمل، نظرت الى عينيه المستغيثتين، دنوت منه، كان الألم في جميع أعضاء جسده لكنه شكا من يديه وإحدى قدميه، أتيت بسيارتي وقرّبت الباب الخلفي من جهته، عند ذاك جاء شاب وساعدني في حمل الشاب المصاب بهدوء، كان يصرخ عاليا ونحن نحاول إدخاله الى السيارة، ذهبت به مسرعا الى المستشفى، وفي ردهة الطوارئ رفضوا استقبال المصاب، إلا بعد أن أجيء لهم بتقرير من الشرطة، وهنا بدأت رحلة جديدة مع افتقادنا لثقافة الشعور بالآخر.

طلبت من الموجودين في المستشفى إسعافات فورية للشاب، من جانب إنساني، فأنا ليس أبوه، وإنما رأيته في طريقي وتوقفت وحملته وأتيت به للمستشفى، لم يكن لكلامي هذا او سواه أذنا صاغية من الممرضين او الأطباء، فهؤلاء لديهم نظام عمل وقانون يطبقونه بحذافيره، ولا نستطيع أن نلومهم أو ننكر عليهم إنسانيتهم، مضت ثلاث ساعات وأنا مع الشاب، تأخرت على العمل، ذهبت الى الشاب وطلبت منه رقم احد أقاربه، اتصلنا بأهله، تحدث هو معهم، وكنت أوصيته أن يتحدث بهدوء مع أهله ولا يرعبهم، وفعلا طلب من أهله بصوت هادئ أن يأتون إليه لأنه في المستشفى، أعطاهم العنوان وأغلق الهاتف.

سألته اذا كان محتاجا لشيء ما، وقلت له هل تريد نقودا؟. تلمَّس جيوبه، كانت محفظته ممتلئة بالنقود ولله الحمد، أخبرته أنني ملزم بدوام، فأعطاني الاذن بالذهاب، وشكرني وكاد يقبّل يدي، قلت له أنا لم افعل أكثر مما يطلبه منا الوازع الإنساني، والأخلاق، والدين، تركت المستشفى وأنا أفكر بأوضاعنا، فكيف سنكون، وكيف ستكون حياتنا، لو أن ثقافة الشعور بالآخر والحرص على الآخر، دخلت ضمن منظومة سلوكنا اليومي، فنعامل بعضنا بعضا وفق القيم الإنسانية الراقية؟.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا