كيف نبني مشروعاً سياسيا ناجحا؟

علي حسين عبيد

2016-02-13 01:57

في ظل التراجع السياسي المتواصل في العراق، بسبب غياب المشروع السياسي الناجح، على مستوى التخطيط أو التنفيذ والبناء، تزايدت الانتقادات التي تم توجيهها للطبقة السياسية الحاكمة، خصوصا أنها لم تُظهر تجاوبا واضحا، مع الدعوات الكثيرة التي أطلقتها المرجعية بشأن تصحيح الاوضاع في البلاد، وكذلك لم يتجاوب القادة السياسيون مع الاحتجاجات التي انطلقت في عموم مدن البلاد على سوء الادارة السياسية.

فقد رفعت المرجعية في النجف، احتجاجا واضحا أمام الطبقة السياسية في العراق، قبل نصف شهر من الآن، ووضعت الحكومة أمام إنذار جدي، ربما يكون الأخير من نوعه، عندما أعلنت المرجعية يأسها من السياسيين وعدم قدرتهم على تصحيح الأمور، وغياب المبادرة القوية والواضحة لاطلاق مشروع سياسي فعلي ناجح ينقذ البلد مما يمر به من اوضاع خطيرة على مستوى الادارة والسياسة والاقتصاد والشؤون المالية، والفساد الذي لا يزال يمثل الخطر الأكبر على حاضر ومستقبل العراق في ظل الطبقة السياسية الراهنة.

الأمر يستدعي شخصيات سياسية واعية ومخلصة تتميز بالكفاءة والحنكة والذكاء، فالسياسة تنبني وتتحرك وتعطي نتائجها على الارض، وفقا لحركة السياسيين، وطبيعة خطواتهم العملية المستمدة من درجة ذكائهم أو غبائهم، وقد ظهر في عموم دول العالم سياسيون أذكياء يتمتعون بسمة أو ملكة الذكاء السياسي الاستراتيجي، وقد نجحوا في نقل اممهم وشعوبهم الى مصاف الامم والشعوب الراقية، والامثلة التاريخية كثيرة في هذا المجال.

هؤلاء الساسة الناجحون هم أصحاب مشاريع سياسية ناجحة، وهم شخصيات تمتلك رؤى استراتيجية وبعد نظر وقدرة محنكة على التنفيذ الدقيق بإرادة صلبة لا تلين وادارة علمية يدعمها الصبر والدقة والحزم في التنفيذ، بالضد من هؤلاء هناك ساسة أنانيون أغبياء، لا يتمتعون ببعد النظر ولا بنسبة بسيطة من الذكاء الاستراتيجي، فهؤلاء لا ينظرون أبعد من مصالحهم الفردية والعائلية، ولا ينشطون إلا في مجال حماية امتيازاتهم والمقربين منهم، وهم بسبب غبائهم لا يعرفون أن أفكارهم وطباعهم وسلوكهم المنقاد الى غرائزهم، هو الذي يسرع بسقوطهم وطردهم الى مزبلة الاهمال والنسيان، إلا بقدر الذمّ والكره الذي يلاحقهم وذويهم، كلما ورد ذكرهم (الكريه) في هذا المحفل او تلك المناسبة، وشتان بين قائد تخلده أفعاله وأعماله، وبين قائد يكتنز المال سحتا وتجاوزا ليبقى بعد رحيله او سقوطه مثالا سيّئا للساسة عبر التاريخ.

الساسة الفاسدون يفشلون دائما

الظرف الدقيق الذي يمر بالعراق حاليا، ينطوي على خطر جدي يتربص بالبلد والشعب والسياسيين معا، واذا كان الشعب قد اعلن عن اهدافه في الاحتجاجات التي لم تتوقف حتى الان، فإن الحكومة لا تزال عاجزة عن وقف عجلة الفساد الضخمة التي تدهس كل احلام العراقيين وأملهم في بناء دولة مدنية ناجحة، والمشكلة تكمن في غياب المشروع السياسي الواضح، وسيطرة الفاسدين من الطبقة السياسية ومعاونيهم على مقدرات البلاد.

فالاخبار والدلائل تؤكد تهريب اموال كبيرة تقدر بـ (225) مليار دولار الى البنوك الاجنبية، ولا يُعرف مصيرها، ولم تتم مقاضاة جهة او شخصية معينة، والعراق الآن في حاجة ماسّة لتلك الاموال المهرَّبة بعد تدهور اسعار النفط، وتهديد طبقة الموظفين والمقاتلين والمتقاعدين بقطع او إيقاف رواتبهم وهي مصدر عيشهم وعائلاتهم، والمشكلة تكمن في بقاء الحال على ما هو عليه، وعدم ظهور بوادر من الطبقة الحاكمة والعاملة في الميدان السياسي، مع دعوات المرجعية والشعب بتصحيح الامور، وهذا الحال يدل على غباء سياسي منقطع النظير بين قادة العراق من النخبة السياسية.

إننا ازاء مشكلة معقدة حقا، تتمثل بسيطرة الساسة الاغبياء على مقدرات البلاد، فهناك فرق واضح بين السياسي الذكي والسياسي الغبي، فالأول لديه مشروع كبير ينطلق من خلاله لبناء الدولة المدنية وتغيير المجتمع نحو الافضل، وفق آليات فكرية عملية، يشرف على تنفيذها هو شخصيا، ويساعده مقربون أمناء، في التخطيط والتنفيذ، فيجعل من مصالحه الفردية والعائلية والشللية في آخر الاهتمامات، بل ربما يلغيها تماما أو يخضعها لضوابط تنطبق على عموم الشعب، بمعنى يجعل من نفسه والمنضوين تحته عائليا او وظيفيا، أناسا لا يختلفون عن غيرهم في الحقوق والواجبات، يتحقق هذا ليس في الادّعاء والقول وحده، بل يتجسد من خلال العمل المرئي والملموس، وهو بذلك يسعى لنقل شعبه الى مصاف أرقى وأرفع، ولكن حتى الآن بقيت امور السياسيين تتراوح بين التراجع والغباء والفساد والتجاوز على أموال الشعب.

وهذا السلوك الرديء، يثبت بما لا يقبل الشك بأن السياسي الغبي لا مشروع له ولا يفكر بذلك أصلا، سوى انهماكه بجباية الفوائد وتشريع الامتيازات له وذويه وحاشيته، وربما لا يعلم أنه بهذا السلوك يحفر قبره تحت قدميه بنفسه، لكي يسقط حتما، في حفرة الطمع والشراهة والفساد، وحتما هو يجهل أن أساليب المراوغة والخداع التي ينتهجها كطرائق عمل في حياته السياسية، ومنصبه وصلاحيته أيا كان نوعها، هي الداء الذي سينقضّ عليه ويطيح بمستقبله وربما برأسه، كما حدث لجميع الساسة الذين تجاوزوا على حقوق شعوبهم، إذ لم يحدث أن أفلت سياسي واحد من العقاب على ما اقترفه بحق شعبه.

العراق الغني الفقير!

إن وجود ساسة لا يعرفون السياسة ولا يؤمنون بمصلحة الشعب والبلد، قادت العراق الى وضعه الراهن، وهناك سياسة اقليمية تضاعف من ارباك الوضع العراقي، فضلا عن الوضع العالمي المربك أصلا، فهناك قادة سياسيون لهم الآن تأثيرهم على صنع القرار العالمي، ومثل هؤلاء الاغبياء منهم تحديدا، يدفعون العالم أجمع صوب هوّة الخراب، يساعدهم في ذلك ساسة تابعين صغارا، يتمتعون بالغباء السياسي المطلق لافتقارهم للمشاريع التي ترتفع بشعوبهم على الرغم من ان متطلبات الرقي متوافرة لديهم كما هو الحال في العراقي الغني الفقير في الوقت نفسه!.

لذا ليس هنالك أدنى شك بأننا في العراق نفتقر للسياسي صاحب المشروع الواضح، الذي يرقى الى الساسة الدعاة الكبار، الوطنيين العظماء، الذين ارتقوا ببلدانهم وشعوبهم وأوطانهم الى أعلى المستويات الحياتية الممكنة، وكل الوقائع لدينا، تشير الى غياب السياسي العراقي الذي يتمتع بالذكاء الاستراتيجي، ولا نغبن احدا حين نقول أن ساحتنا السياسية تتوافر على نماذج كثيرة للسياسي الاناني، الذي لا يرى من الامور إلا ما يقع في حدود مصالحه الآنية الضيقة، وهو بالنتيجة سوف يكون من الخاسرين لمستقبلهم وتاريخهم بلا شك.

المطلوب بطبيعة الحال مكافحة الساسة الفاسدين، ومساندة الساسة اصحاب المشاريع الناجحة، لاسيما أننا نتجاوز مرحلة تأسيسية حاسمة في تأريخنا العراقي، لا يصح أن نترك فيه المجال مفتوحا للسياسي الاناني المصلحي الغبي ودوره ذي الطابع التخريبي، لأننا نؤسس ونسعى الى بناء دولة مدنية، يجب أن يقودها الساسة الاذكياء من اصحاب المشاريع الوطنية الانسانية، التي ترقى بالشعب وتبني الدولة، خاصة اذا وعى الشعب بكل مستوياته، مدى قدرته على عزل هؤلاء وطردهم خارج الساحة السياسية وفسح المجال للسياسي صاحب المشروع والرؤية البعيدة والذكاء والاخلاص.

أما كيف يمكن تحقيق هذا الهدف، وكيفية تمكين الشخصيات السياسية القوية الذكية المخلصة من ادارة شؤون البلاد، فإن هذا الامر يتعلق بدور النخب المثقفة وسواها، من اجل ان تبادر بتوجيه المسارات نحو الافضل، ومقارعة جميع الذين يشتغلون في السياسة من اجل المال، كما هو الوضع الآن، حيث يلهث كثيرون نحو السياسة والعمل فيها، وهم ليسوا من اهلها ولا اصحابها، في حين يغيب عنها أهل الاختصاص، من ذوي المشاريع الحقيقية القادرة على اصلاح الاوضاع الخطيرة في العراق، ولكن يبقة الأمر الحاسم بمن يحق له اختيار السياسي الناجح الذي يمكنه انقاذ البلاد في هذه المرحلة الشائكة والحاسمة.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا