تصدّعات الحدود والعودة الى التاريخ المشترك
محمد علي جواد تقي
2015-01-01 01:49
ذكرنا في المقال السابق تحت هذا العنوان؛ أن الحدود المصطنعة لن تصمد – بأي حال من الاحوال- أمام ثوابت وحقائق حضارية، فاذا كانت عاجزة من أن تصنع حواجزاً حديدية او ترابية او حتى مائية، لتوفير وطن خاص لابناء لغة ما داخل الأمة الاسلامية الواحدة، وهو ما أشرنا اليه في المقال السابق، فانها عاجزة أيضاً عن التمسك بالخلفية التاريخية لشعب أو قوم داخل الامة، وعدّه الخلفية الوحيدة التي يستندون اليها في ثقافتهم وهويتهم.
وهذا ما سعت اليه أوساط ثقافية وفكرية في العالم الاسلامي وبشكل حثيث خلال القرن الماضي، فكتبوا ونظَّروا لوجود التاريخ الفارسي – مثلاً- أو التاريخ العربي وهكذا...، وبات كل شعب يدّعي لنفسه تاريخاً بل وحضارة، بعيداً عن التاريخ والحضارة الاسلامية، بدعوى أن الإسلام لم يبق له حضارة بعد الهزيمة المدوية في الاندلس، ثم الهزيمة الاخرى والقاصمة بانهيار الدولة العثمانية، أما التاريخ فانه تاريخ الملوك والسلاطين وأحوال القصور والترف والبذخ، وهذا لا يجانب الحقيقة، عندما يكون المؤرخين على أعتاب الملوك والحكام. والأخطر من ذلك، حصول التزوير والتزييف وتغييب الحقائق بشكل مهول، ولعل من ابرز الضحايا في هذا المجال، أتباع أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين، عليهم السلام، رغم ما قدموه من تضحيات عظيمة وأعمال جبارة في طريق خدمة الانسانية.
بيد أن هذا لا يلغي وجود التاريخ الاسلامي الحافل بالملاحم والمواقف والمشاهد ذات الابعاد الحضارية والانسانية التي من شأنها ان تتحول الى مفردة من مفردات الثقافة الاسلامية، لذا نجد سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- يشير الى هذه الحقيقة التاريخية في الحضارة الاسلامية، وذلك في كتابه "الى نهضة ثقافية اسلامية"، حيث يؤكد على ضرورة "إعادة التاريخ الاسلامي الى الحياة..."، مشيراً على مسألة التقويم الاسلامي والاعتماد على التقويم القمري وليس غيره، أو اسماء الأشهر العربية- الاسلامية وليس الرومانية المعتمدة في بعض البلاد الاسلامية، وكذلك بداية السنة الهجرية، فيما نلاحظ الحرص لدى الكثير بأن يكون الاعتماد على السنة الميلادية.
وكما مرت الإشارة اليه في المقال السابق، فان خصوصيات الشعوب تبقى رصيداً ثقافياً لها، مثل اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد وغيرها، بيد أن المهم في الأمر التقاء ابناء الأمة الواحدة، ممثلين بشعوب وأقوام متعددة، على نقاط مشتركة واحدة، منها التاريخ، فكما إن اللغة الفارسية لايمكن إلغاؤها، ولا اللغة التركية او السواحلية، وحتى اللغات الدارجة في البلاد الغربية، مثل الانجليزية والفرنسية والاسبانية، فان المراحل التاريخية لنشوء وظهور تلكم الشعوب غير قابل للزوال من الذاكرة، لانها مفردة مغروسة في الثقافة المحلية تتوارثها الاجيال، لاسيما وأن هنالك معالم وآثار او رموز تعود الى تلكم الحقب التاريخية، بل العكس هو الصحيح، إذ ان بقاء تلكم الصفحات التاريخية أمام الاجيال الحاضرة تمكنها من إجراء مقارنة علمية وموضوعية بين الحالتين: ما كان سائداً في العهود الماضية قبل ظهور الاسلام، وبين ما حصل بعد ذلك، وعندما تشكلت الدولة الاسلامية الواحدة، واصبح هنالك أمة واحدة، بدين واحد وكتاب سماوي واحد يتضمن نظاماً متكاملاً للحياة.
وهنا ربما نعرف السبب وراء حرص بعض الاوساط الثقافية والتيارات الفكرية لتكريس فكرة التمجيد بتاريخ الشعوب قبل الاسلام، ومحاولة الترويج لكل ما ساد آنذاك، وربما ثمة محاولة لجرّ ذلك التاريخ البعيد والسحيق الى يومنا هذا، وما نلاحظه اليوم خير شاهد ودليل، حيث يتداول البعض كلمات المجاملة والتحية بالطريقة التي كانت قبل الاسلام، مثل "يسعد صباحك" أو "بالرفاه والبنين" التي كانت سائدة في الجزيرة العربية أيام الجاهلية، بينما الاسلام جاء بـ "السلام عليكم" عند التحية، و "بالخير والبركة" عند التهنئة بالزواج، وللقارئ المقارنة بين اللفظين ومدلولاتهما. وحتى الاسماء التي يحملها البعض والتي تعود الى أيام الجاهلية، وحتى الصفات والخصال، مثل الاستقواء على الآخرين ولغة العنف والقسوة على أنها ترمز الى قوة الشخصية وغير ذلك...
كل ذلك يستقي قوته من قوة الحدود المصطنعة التي رسمها على الرمال ضباط صغار في الجيش البريطاني والفرنسي اوائل القرن الماضي، لتتشكل دول صغيرة متباعدة متنافرة ليس فقط سياسياً، إنما ثقافياً ايضاً، حيث يكون يكون لدولة صغيرة أو حتى إمارة صغيرة لم يمض على تشكيلها اربعين عاماً، تبحث عن تاريخ خاص لها، بين جدران الطين والأواني الخزفية والزوارق والألبسة وغيرها....! وما أن تحين مناسبة معينة وتتلاقى الابدان ثم النفوس، لا تجد للتاريخ السحيق والجاهلي أثراً بين المسلمين، يكفي أن نلاحظ أجواء الحج، لنكون أمام الحقيقة الحضارية الباهرة. وربما هذا يتكرر في الزيارات المليونية التي تشهدها كربلاء المقدسة في العراق، عندما يأمّها المؤمنون من كل مكان في العالم، لزيارة مرقد الامام الحسين، عليه السلام، فالجميع، مع ما يحملونه من خلفيات تاريخية لشعوبهم، فانهم يعدون تاريخهم ينطلق من حيث سقط الامام الحسين، عليه السلام، من ظهر جواده، لتسمو القيم والمبادئ الانسانية السامية.