قيمة الوفاء وأثرها في البناء المعنوي للأمم
علي حسين عبيد
2024-05-15 05:47
(وعدٌ بلا وفاء يعني عداوة بلا سبب، فمن يعد ولا يفي يصبح عدوّا مرصودا)
ورد في قول جميل لأحد المفكرين المصلحين بأن المدينة العظمى هي التي يسود فيها العلم والحرية والإخاء والوفاء. وهذا يعني وجود قيم عديدة تتكون منها سلسلة معنوية تقوي وتزيد من متانة النسيج المجتمعي عبر القيم التي تضبط الأفراد والجماعات في التفكير والسلوك.
هل هو ضرب من الكلام المجاني حين ندعو إلى استنهاض القيم من جديد، وهل القيم تراجعت حقًّا حتى نسعى إلى استنهاضها؟
من يقرأ الواقع ويتفحصه بشيء من الصبر والدقة، سوف يكتشف أن هناك تراجعا خطيرا في القيم الأخلاقية والمعنوية التي تنظّم حياة مجتمعنا، لقد غرق العالم بالسيول المادية الجارفة، وتعرضت القيم الإنسان إلى هجمات تدميرية خطيرة، حتى صارت الأهداف المادية والمالية هي كل شيء بالنسبة لعموم الناس إلا ما ندر.
لكننا نعلم تمام العلم بأن مكانة الأمم تقوم على أساس منظومة القيم، التي تعتمدها في تنظيم شؤونها وإدارة علاقات أفرادها وجماعاتها، ولهذا كل الأمم المتطورة، كان علماؤها الأفذاذ وفلاسفتها الخالدون، يركزون على تثبيت القيم الصالحة، والتأكيد عليها، وجعلها معايير تحكم بين أفضلية هذا الفكر أو ذاك وبين أولوية هذا السلوك أو ذاك.
تعزيز القيم الإنسانية
كلّنا نعرف ما هي قيمة الوفاء، وما هو الدور الأخلاقي الاجتماعي الذي تلعبه هذه القيمة في تمتين وتماسك العلاقات بين الناس، فالفرد حينما يكون وفيًّا سوف ينجب عائلة من الأوفياء النادرين في وفائهم بعضهم لبعض، و وفائهم للآخرين، كما أن هذه الصفة أو القيمة تسحب إلى جانبها مجموعة من أفضل الصفات والقيم.
لذا نجد الإنسان الوفي يكون صادقا، ذلك أن الإنسان الكاذب من المحال أن يكون وفيا والعكس يصح، كما أن الإنسان الوفي غالبا يكون ملتزما بما يعد وبما يقول، فإذا تعهّد لك بإنجاز شيء ما فإنه سوف يفعل، وإن وعدك بمهمة أو حاجة معينة يقضيها لك يفعل ذلك حتما، هذا عادة ما يقوم به الإنسان الوفي.
لذلك يقول الفلاسفة والمصلحون، إن الإمة القوية هي الأمة الوفيّة، والوفاء هنا يعني الالتزام بالأخلاق الإنسانية العالية، وهذا الهدف دائما نجده يتربع على قمة أهداف الأمم الصالحة الجيدة المتقدمة المستقرة، ماذا يعني هذا الكلام وإلى أي شيء نريد أن نصل مما ذكرناه في أعلاه؟، إنني في الحقيقة أجد نقصا في هذه القيمة عند أمتنا، والأدلة كثيرة نستطيع أن نستدل عليها في واقعنا الذي نعيشه اليوم.
هل نحن أوفياء لبعضنا؟، هناك نقص في هذا المجال، لقد سحقتنا عجلة النزعة المادية، وبدأنا نحترم الأموال أكثر مما تستحق، لقد شاعت المادية إلى أبعد حد بين أفراد مجتمعنا، فصارت السيارة الفارهة هدفا لكل فرد شاب أو كهل وربما حتى المراهقين يريدون تحقيق هذا الهدف، وهناك من يبحث عن المال والجاه والسلطة والقوة، وهذه قيم معظمها مادية.
الإنسان كبير بأخلاقهِ
لهذا يوجد لدينا نقص في الوفاء، فهذه القيمة ليست مادية وإنما هي أخلاقية معنوية ترتفع بشأن ومكانة الإنسان بعيدا عن المال والسلطة، هنا يكون الإنسان كبيرا بأخلاقه، وغنيًّا بما يمتلكه من الوفاء لأمه وأبيه وأخته وأخيره وزميله وصديقه ومعلمه، ولكل من يستحق الوفاء، وهذا الأمر هو مصدر قوة الإنسان الذي يتمسك بقيمة الوفاء أكثر من تمسكه بالمصالح السريعة، وبالمظاهر المادية التي سحرت أناس هذا العصر العجيب.
المظاهر المادية ملأت عصرنا هذا، وأصبحت الشوارع تعج بمظاهر غريبة، هناك مولات كثيرة ومطاعم كبيرة وملابس وأسواق ذات ماركات عالمية معروفة وشهيرة، وشبابنا اليوم مسحورين بهذه المظاهر، بل رجالنا ونساؤنا أكثر تعلقا بهذه المظاهر، ولا نخطي إذا قلنا أصبحت القيم والأخلاق في درجة أدنى من الوفاء والإنسانية، نحن بالطبع لا نبالغ حين نقول هذه الكلمات، وهي ليست جرأة على أحد.
لابد أن نتنبه إلى الأخطاء والمشكلات التي تنخر مجتمعنا، وتحاول أن تقلل من شأن القيم الأخلاقية التي تحفظ مكانة وقيمة الناس عند بعضهم بعضا، فإذا فضَّلنا الماديات على الأخلاقيات والمعنويات يعني أننا أسأنا لبعضنا بعضا، وهذا يهدد التماسك المجتمعي، ويجعل منّا أمة مهلهلة ضعيفة لاهثة وراء الماديات وناسية للمعنويات والقيم الإنسانية الراسخة.
كيف يمكن ردم هذا النقص في قيمة الوفاء والتخلص من خطر هذا النقص في منظومة القيم الرصينة، نحتاج إلى جهود عظيمة لكنها ليست صعبة، نحتاج إلى ثقافة مجتمعية شاملة تعيد استنهاض منظومة القيم في المجتمع كله، وهذه عملية ثقافية ترويجية كبيرة يمكن أن نطبقها بالتخطيط والإرادة الجبارة، وأخيرا يُقال (وعدٌ بلا وفاء يعني عداوة بلا سبب)، فمن يعد ولا يفي يصبح عدوّا مرصودا.