كاميرا السبت: لقطتان من طراز خاص

علي حسين عبيد

2021-09-25 06:41

لقطة أولى:

كف نحيفة بأصابع منحنية كالسنابل، تمسك بقنينة ماء صغيرة بارة، تمتد اليد بصعوبة نحو زائر قادم من أرض بعيدة، ترتعش الأصابع بشدة، لكنها تصل إلى كف الزائر، يأخذ قنينة الماء بامتنان، يشكر الشيخ المسنّ ويدعو لها بالأجر وطول العمر، تلوح في عينيّ الشيخ المسنّ نظرة امتنان وسعادة، كأنه قام بشيء يحقّق ذاته ويؤكد له أن دوره في الحياة لم ينتهِ بعد...

تقرّبتُ من الشيخ الذي يتنافس مع (شباب) الموكب على توزيع الماء البارد للزوار، سلّمتُ عليه، وباركتُ له عمله الذي يؤكد حبه وتعلّقه بالحسين، وطلبتُ من الشيخ المسنّ أن أتبادل معه خدمة الزوار الكرام، خشيةً مني على صحته، فهو رجل كبير والعمل المستمر ينهكه حتى لو كان سهلا أو بسيطا، لقد تعاطفت مع الشيخ بالفعل، وتمنيتُ أن أأخذ مكانه، وأن يقبل بما عرضتهُ عليه من طلب، لكنه استغرب طلبي ورفض أن أحلّ محلّهُ بخدمة الزائرين.

أنا ليس أحد المشاركين في هذا الموكب الذي يتواجد فيه الشيخ، بل خرجت إلى المدينة في جولة ألتقط فيها المشاهد المتميزة للزيارة الأربعينية، حاولتُ مع الشيخ مرة أخرى بإلحاح أكثر، وقدمتُ له (استكان شاي) كي يشربه ويتوقف عن توزيع الماء ليرتاح جسده قليلا.

رفض مرة أخرى طلبي أن أحل محلّه، ورفض أن يأخذ مني الشاي، ورفض أن يشربه، وسألني بنوع من الألم والزعل والاستغراب:

- هل تضمن يا بنيّ أنني سأكون حيّا في السنة القادمة، وهل أشارك بخدمة الزائرين كما أفعل الآن؟؟، لماذا تريد أن تحرمني من الأجر ومن شفاعة الحسين (ع)، دعني وشأني يا بني فأنا أجد قيمة وجودي فيما أفعلهُ الآن للزوار الكرام...

الحركة المتواصلة لكّف الشيخ المسنّ، وأخذها لقنينة الماء من الحوض، ثم رفعها إلى كف الزائر، بقيت مستمرة، لكنها ليست سهلة عليه، أنا أكاد ألمس الجهد الكبير الذي يبذله حتى تقبض أصابع كفه على القنينة، ثم ترتفع بها ببطء إلى الزائر، مع رعشة رتيبة ومستمرة للأصابع ولليد كلّها، لكنه بالنتيجة ينجح بإيصال الماء إلى الزائر وتشع في عينيه شعلة انتصار على اليأس وعلى الخنوع وعلى التراجع أمام الشيخوخة.

حين ودّعته كي أواصل جولتي لالتقاط مشاهد أخرى، ودعني بكلمة واحدة، ولم ينشغل بي أكثر من لحظة الوداع، كان كل تفكيره وبصيرته وتركيزه وبصره، منصبّا على عمله المستمر في تقديم قناني الماء البارد النقي للزائرين.

لقطة ثانية:

طفلة بلا قدمين، كسيحة الساقين، تسير مع الزائرين على يديْها، قدماها يشكلان عبئا على جسدها، فهما يتمددان على الأرض بلا حركة ولا روح، والطفلة تسحلُهما سحلا، فبدلا من أن يحملا جسدها ويسيران بها إلى حيث ترغب، يحدث العكس، جسدها هو الذي يسحب قدميها، العبء يقع على اليدين الصغيرتين الناعمتين فقط، لم أرَ أحدا يرفقها، لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت ولا قريبة أو معين من البشر.

تبدو من وجهها في منتصف عقدها الثاني، أظن أنها لم تتجاوز الـ (15) سنة، اقتربت منها، وهي تسير بيديها على مهل، كنتُ أمسك القلم الجاف ودفتر الملاحظات بيدي، ورحتُ أكتب بعض الكلمات، رؤوس أقلام، كأنني أرسم مشهد الطفلة وهي تغذّ السير إلى الحسين مثلما يفعل الزوار الآخرون، ولكن شتان بين من ينطلق على ساقين سريعتين قويتين، وبين من يزحف على يدين صغيرتين، ويُضاف لها عبء آخر كونها فتاة.

أعظم ما لاحظْتهُ فيها، عدم انكسارها، ولا ضعفها، ولا جزعها، كانت جميلة الوجه، واسعة العينين، هادئة، مستقرة، تسير على مهل ويبدو أنها مصرّة على الوصول إلى المرقد الشريف، لأنها تحمل الحسين في قلبها، هكذا أخبرتني، في آخر جملة قالتها لي جوابا عن سؤالي لها: لماذا تتحملين هذا العبء الثقيل في مسيركِ مع الزوار رغم أنك فاقدة للقدمين؟

أجابت فورا وبلا تردد: لأنني أحمل الحسين في قلبي، فهو الذي يمنحني القوة والقدرة على مواصلة المسير، فكل ما أحلم به هو أن أصل مرقده وأمسك شبّاكه بيديّ....

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا